صفحة جزء
[ ص: 63 ] أحكام سكوته ] ثم تكلم ابن السمعاني على أحكام سكوته ، وقد نقلها إلى دليل مسألة التحسين والتقبيح ; لأنه ذكرها هناك فلتراجع ، وقد ذكرها إلكيا ، وهو أن يسكت عما لم تشتمل عليه أدلة الشرع ، ومما ذكر له في القرآن ، والمستفتي ليس خبيرا بأدلة الشرع بصيرا بالأحكام . قال : فسكوت الرسول صلى الله عليه وسلم في مثل ذلك حجة ، وإلا لزم تأخير البيان عن وقت الحاجة ، فإنه لو كان واجبا عليه لبينه . ومثاله : ما روي { أن أعرابيا محرما جاء إلى الرسول ، وعليه ثوب مضمخ بالخلوق ، فقال له عليه السلام : انزع الجبة واغسل الصفرة ، واصنع في حجتك ما تصنع في عمرتك } ، ولم يتعرض لوجوب الفدية ، ولو وجبت لبينها ; لجهل الأعرابي ، فإن من جهل جواز اللبس ، فهو بالفدية أجهل ، وكذلك سكوته في قضية الأعرابي المجامع عن بيان حال المرأة . قال : ومن هذا القبيل استدلال الشافعي في مسألة الخارج من غير السبيلين ، بأنه ليس من الأحداث ; لأن الأحداث مقصاة من الكتاب والسنة ، ولو كان من قبيل الأحداث لذكر في الكتاب والسنة ، فلو كان حدثا كان [ ص: 64 ] من الأحداث المشهورة التي تعم بها البلوى ، واقتباس ذلك من القياس غير ممكن ، وكذلك قال في صلاة المغرب : بين جبريل لكل صلاة وقتين ، ولم يبين للمغرب وقتين ، وإنما جاء مبينا للأوقات ، فلو كان لها وقتان لبينه جبريل .

قال : ويشترط في هذا أن يكون المسكوت عنه لم تشمله أدلة الشرع ، فلو كان له ذكر فيها ، كما لو أتى بزان فأمر بالجلد ، ولم يذكر المهر ، والعدة ونحوهما ، فذلك مما لا يحتج به ; لأن ذلك يحال به على البيان في غير الموضع . قال : وعلى هذا سكوت الراوي ، قد يحتج به ، وقد لا يحتج به ، فإذا ساق الراوي قضية ظهر منها أنه بعد استغراقها بالحكاية أنه لم يغادر من مشاهير أحكامها شيئا كما نقل الراوي قضية ماعز من مفتتحها إلى مختتمها ، ولم ينقل أنه جلد ، ورد على هذا من ظن المعترض أن الجلد لا يتشوف إلى نقله عند نقل الرجم ، فإنه غير محتفل به في مثل ذلك ، ويجاب بأن سياق القضية واستغراقه بتفاصيلها بالحكاية من غير تعرض للجلد دليل على نفي الجلد ، إذ لو جرى الجلد لنقله . ومنه : حكاية المواقع في الصور النادرة ، والظن بالراوي أنه إذا نقل الحديث أن ينقل بصورتها إذا كانت الصورة نادرة ، فإذا سكت عنها فسكوته حجة .

مثاله : ما روي { أنه عليه السلام أقاد مسلما بكافر ، وقال : أنا أحق من وفى بذمته } ، قال بعض المتأولين : لعل كافرا قتل كافرا ، ثم أسلم القاتل ، وفي ذلك نظر ، فإنه لو كان لنقل مثل ذلك على ندور ، وتشوف الطباع إلى نقل الغرائب ، وهذا حسن . ا هـ .

الثانية : إذا استبشر من فعل الشيء أو قوله ، كان ذلك دليلا على كونه جائزا حسنا ; لأنه لا يستحسن ممنوعا منه . يبقى أنه هل استحسنه [ ص: 65 ] لكونه مندوبا إليه شرعا ؟ أو لكونه لغرض عادي ؟ فيه احتمال ، وينبغي أن يطرقه الخلاف السابق ، والأولى حمله على الشرعي ; لأنه الأغلب من حاله عليه السلام ، ولكونه مبعوثا لبيان الشرعيات ، وأما غضبه ، وتغير وجهه الكريم من شيء ، فذلك يدل على منع ذلك الشيء ، ثم هل ذلك المنع على جهة التحريم أو الكراهية ؟ يحتمل أن يجيء فيه الخلاف ، والمرجع في هذا النظر في قرائن أحواله وقت غضبه ، فيحكم بها ، فإن لم تكن قرينة أو لم يفعل فالظاهر التحريم .

واعلم أن الاستبشار أقوى في الدلالة على الجواز من السكوت ، ولذلك تمسك الشافعي في إثبات القيافة وإلحاق النسب بها باستبشار النبي بقول مجزز المدلجي ، وقد بدت له أقدام زيد وأسامة : إن هذه الأقدام بعضها من بعض ، واستضعفه الغزالي في المنخول " ، وقال : إنما سر بكلمة صدق صدرت ممن هو مقبول القول فيما بين الكفار على مناقضة قولهم لما قدحوا في نسبة أسامة إلى زيد ، إذ كان رسول الله قد تأذى به ، وغايته أنه ألحق نسبه بمعلوم عنده . ا هـ .

ورد عليه الطرسوسي ، وقال : لو احتج النبي عليه السلام عليه بما لا يعتقده لدحضت حجته عندهم ، ولقالوا : كيف تحتج علينا بالرمز والقيافة ، وأنت لا تقول به ؟ ونقل إلكيا أن هذا السؤال أورد على الشافعي ، فقيل له : إنما ثبت نسبه بالرسول ، وقول مجزز لغو ، إذ القائف يقضى به [ ص: 66 ] في بيان نسب ملتبس ، ولكن كان الاستبشار لانقطاع مظاهر الكفار عن نسب أسامة بن زيد . فقال مجيبا : لو لم يكن للقيافة أصل لم يستبشر ، فإن ذلك يوهم التلبيس ، وقد كان شديد النكير على الكهان والمنجمين ، ومن لا يستند قولهم إلى أصل شرعي ، ولو لم تكن القيافة معتبرة ، لكانت من هذا القبيل .

التالي السابق


الخدمات العلمية