صفحة جزء
[ ص: 87 ] ( الحجة الثانية ) الشاهدان واليمين ما علمت عندنا ، ولا عند غيرنا خلافا في قبول شهادة شاهدين مسلمين عدلين في الدماء والديون .

وقال مالك إن شهدا له بعين في يد أحد لا يستحقها حتى يحلف ما باع ، ولا وهب ، ولا خرجت عن يده بطريق من الطرق المزيلة للملك ، وهو الذي عليه الفتوى ، والقضاء ، وعلله الأصحاب بأنه يجوز أن يكون باعها لهذا المدعى عليه أو لمن اشتراها هذا المدعى عليه منه ، ومع قيام الاحتمال لا بد من اليمين ، وهذا مشكل بالديون فإنه يجوز أن يكون أبرأه من الدين أو دفعه له أو عاوضه عليه .

ومع ذلك فلا اعتبار بهذه الاحتمالات فكذلك هاهنا لا سيما ، وجل الشهادات في الدماء ، وغيرها الاستصحاب ، وإذا قبلناهما في القتل ، ويقتل بهما مع جواز العفو فلأن [ ص: 87 ] يقضي بهما في الأموال بطريق الأولى ، وبالجملة فاشتراط اليمين مع الشاهدين ضعيف ، ولقوله عليه السلام { شاهداك أو يمينه } ، ولقوله تعالى { شهيدين من رجالكم } ، وظاهر هذه النصوص أنهما حجة تامة ، وما علمت أنه ورد حديث صحيح في اشتراط اليمين وإثبات المشروط بمجرد المناسبات والاحتمالات صعب فلو قال قائل لا نقبل في الدماء من في طبعه خور أو خوف من القتل مع تبريزه في العدالة لأن ذلك يبعثه على حسم مادة القتل ، ولا يقبل في الدماء وأحكام الأبدان الشبان من العدول بل الشيوخ لعظم الخطر في أحكام الأبدان ، ونحو ذلك من المسببات والمناسبات كان هذا مروقا من القواعد ، ومنكرا من القول لا سيما ، والقياس على الدين يمنع من ذلك ، والفرق في غاية العسر ، وإثبات شرط بغير حجة خلاف الإجماع ، وإن ثبت الفرق فمذهب الشافعي ، وغيره عدم هذا الشرط ، وهو الصحيح .


حاشية ابن حسين المكي المالكي

( الباب الثاني في بيان ما تكون فيه الحجة الثانية وشروطها ، وفيه وصلان ) :

( الوصل الأول ) في التبصرة القضاء بشاهدين لا يجزئ غيرهما في النكاح والرجعة والطلاق والخلع والتمليك والمبارأة والعتق والإسلام والردة والولاء والنسب والكتابة والتدبير والبلوغ والعدة والجرح والتعديل والشرب والقذف والحرابة والشركة والإحلال والإحصان وقتل العمد ، وكذلك الوكالة

والوصية عند أشهب ، وفي التنبيه لابن المناصف ، واختلف في الشاهد الواحد على التوكيل بالمال عن غائب هل يحلف الوكيل معه ليثبت التوكيل أو لا ؟ الأشهر المنع ، واستحسنه اللخمي إلا أن يتعلق بذلك التوكيل حق للوكيل مثل أن يكون على الغائب دين أو لأنه يقر المال في يده قراضا ، وما أشبه ذلك فيحلف ، ويستحق ا هـ المراد

( الوصل الثاني ) في التبصرة هذه الأحكام لا تثبت إلا بشاهدين ذكرين حرين عدلين قاله ابن رشد ، وغيره ا هـ وفي الأصل والعدالة فيهما شرط عندنا ، وعند الشافعي وأحمد بن حنبل ، وهي حق لله تعالى عندنا يجب على الحاكم أن لا يحكم حتى يحققها ، والمنقول عن أبي حنيفة أن العدالة حق للخصم فإن طلبها فحص الحاكم عنها ، وإلا فلا ؛ وقال متأخرو الحنفية إنما كان قول المجهول مقبولا في أول الإسلام حيث كان الغالب العدالة فألحق النادر بالغالب فجعل الكل عدولا ، وأما اليوم فالغالب الفسوق فيلحق النادر بالغالب حتى تثبت العدالة نعم استثنى أبو حنيفة الحدود فقال لا يكتفى فيها بمجرد الإسلام بل لا بد فيها من العدالة لأن الحدود حق لله تعالى ، وهو ثابت فتطلب العدالة ، وإذا كان المحكوم به حقا لآدمي وجب بجرحها البحث عنها لنا أربعة وجوه :

( الأول ) إجماع الصحابة ، وذلك أن رجلين شهدا عند عمر فقال لا أعرفكما ، ولا يضركما فجاء رجل فقال أتعرفهما قال نعم قال له أكنت معهما في سفر يتبين عن جواهر الناس قال لا قال فأنت جارهما تعرف صباحهما ومساءهما قال لا قال أعاملتهما بالدراهم والدنانير التي تقطع بهما الأرحام قال لا قال ابن أخي ما تعرفهما ائتياني بمن يعرفكما ، وهذا بحضرة الصحابة لأنه لم يكن يحكم إلا بحضرتهم ، ولم يخالفه أحد فكان إجماعا ، والظاهر أنه ما سأل عن تلك الأسباب من السفر وغيره إلا ، وقد عرف إسلامهما لأنه لم يقل أتعرفهما مسلمين ، وليس ذلك استحبابا لأن تعجيل الحكم واجب على الفور عند وجود الحجة لأن أحد الخصمين على منكر غالبا ، وإزالة المنكر واجب على الفور ، والواجب لا يؤخر إلا لواجب .

( الوجه الثاني ) قوله { وأشهدوا ذوي عدل منكم } فإن مفهومه أن غير العدل لا يستشهد ، وقوله منكم إشارة إلى المسلمين فلو كان الإسلام كافيا لم يبق في التقييد فائدة ، والعدل مأخوذ من الاعتدال في الأقوال والأفعال والاعتقاد فهو وصف [ ص: 142 ] زائد على الإسلام ، وغير معلوم بمجرد السلام

( الوجه الثالث ) قوله تعالى { ممن ترضون من الشهداء } ورضاء الحاكم بهم فرع معرفتهم .

( الوجه الرابع ) القياس على الحدود وعلى طلب الخصم العدالة فإن فرقوا بأن العدالة حق للخصم فإذا طلبها تعينت ، وأن الحدود حق لله ، وهو ثابت عن الله منعنا أن العدالة حق لآدمي بل لله تعالى في الجميع فيتجه القياس ويندفع الفرق ، وأما احتجاجهم بقوله تعالى { واستشهدوا شهيدين من رجالكم } ولم يشترط العدالة فجوابه أنه مطلق فيحمل على المقيد ، وهو قوله { ذوي عدل منكم } فقيد بالعدالة ، وإلا لضاعت الفائدة في هذا التقييد ، وأيضا برضاء الحاكم ، وهو مشروط بالبحث ، ولأن الإسلام لا يكفي فيه ظاهر الدار فكذلك لا يكفي الإسلام في العدالة .

وأما احتجاجهم بقول عمر رضي الله عنه المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا محدودا في حد فجوابه أن قوله عدول يدل على اعتبار وصف العدالة إذ لو لم يكن معتبرا لسكت عنه على أنه معارض بقوله في آخر الأمر لا يؤسر مسلم بغير العدول والمتأخر ناسخ للمتقدم ، ولأن ذلك كان في صدر الإسلام حيث العدالة غالبة بخلاف غيره ، وأما احتجاجهم بأن النبي صلى الله عليه وسلم قبل شهادة الأعرابي بعد أن قال له أتشهد أن لا إله

إلا الله ، وأني رسول الله فلم يعتبر غير الإسلام فجوابه أن السؤال عن الإسلام لا يدل على عدم سؤاله من غيره فلعله سأل أو كان غير هذا الوصف معلوما عنده .

وأما احتجاجهم بأن الكافر لو أسلم بحضرتنا جاز قبول قوله مع أنه لم يتحقق منه إلا الإسلام فجوابه أنا لا نقبل شهادته حتى نعلم سجاياه ، وعدم جرأته على الكذب أو أنا قبلناه لأجل تيقننا عدم ملابسته ما ينافي العدالة بعد إسلامه ، وأما احتجاجهم بأن البحث لا يؤدي إلى تحقق العدالة ، وإذا كان المقصود الظاهر فالإسلام كاف في ذلك لأنه أتم وازع ، ولأن صرف الصدقة يجوز بناء على ظاهر الحال من غير بحث ، وعمومات النصوص والأوامر تحمل على ظاهرها من غير بحث فكذلك هاهنا يتوضأ بالمياه ، ويصلي بالثياب بناء على الظواهر من غير بحث فلذلك هاهنا قياسا عليها فجوابه أن البحث كما لا يؤدي إلى تحقق العدالة كذلك لا يؤدي إلى تحقق الإسلام ، والقضية التي لا نص فيها ، ولا إجماع يحكم الحاكم فيها مع أن بحثه لا يؤدي إلى يقين ، ويفرق بين الفقر والماء والثوب وبين العدالة بأن العدالة ليست هي الأصل بل إذا علمت عدالته في الأصل فلا تبحث عن مزيلها لأن الأصل عدمه .

وأما الفقر فهو الأصل فلا بد من البحث عنه ، وأما الماء فأصله الطهارة ، ولا يخرج عن ذلك إلا بتغير لونه أو طعمه أو ريحه ، وذلك معلوم بالقطع فلا يحتاج إلى البحث ، وكذلك أصل الثوب الطهارة فيحمل عليها ، ولا يبحث عن مزيلها ، ولا نسلم الاكتفاء بظاهر العمومات والأوامر بل لا بد من البحث عن الصارف المخصص وغيره لأن الأصل بقاؤها على ظاهرها .

التالي السابق


الخدمات العلمية