صفحة جزء
( الحجة الخامسة عشرة ) القافة حجة شرعية عندنا في القضاء بثبوت الأنساب ، ووافقنا الشافعي وأحمد بن حنبل .

وقال أبو حنيفة الحكم بالقافة باطل قال ابن القصار ، وإنما يجيزه مالك في ولد الأمة يطؤها رجلان في طهر واحد ، وتأتي بولد يشبه أن يكون منهما ، والمشهور عدم قبوله في ولد الزوجة ، وعنه قبوله ، وأجازه الشافعي فيهما لنا ما في الصحيحين { قالت عائشة رضي الله عنها دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم تبرق أسارير وجهه فقال ألم تري إلى مجزز المدلجي نظر إلى أسامة وزيد عليهما قطيفة قد غطيا رءوسهما ، وبدت أقدامهما فقال إن هذه الأقدام بعضها من بعض } ، وسبب ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان تبنى زيد بن حارثة ، وكان أبيض وابنه أسامة أسود فكان المشركون يطعنون في نسبه فشق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم لمكانته منه فلما قال مجزز ذلك سر به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو يدل من وجهين أحدهما أنه [ ص: 100 ] لو كان الحدس باطلا شرعا لما سر به رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه عليه السلام لا يسر بالباطل .

وثانيها أن إقراره عليه السلام على الشيء من جملة الأدلة على المشروعية ، وقد أقر مجززا على ذلك فيكون حقا مشروعا لا يقال النزاع إنما هو في إلحاق الولد ، وهذا كان ملحقا بأبيه في الفراش فما تعين محل النزاع ، وأيضا سروره عليه السلام لتكذيب المنافقين لأنهم كانوا يعتقدون صحة القيافة ، وتكذيب المنافقين سار بأي سبب كان لقوله عليه السلام { إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر } فقد يفضي الباطل للخير والمصلحة .

وأما عدم إنكاره عليه السلام فلأن مجززا لم يتعين أنه أخبر بذلك لأجل القيافة فلعله أخبر به بناء على القرائن لأنه يكون رآهما قبل ذلك لأنا نقول مرادنا هاهنا ليس أنه ثبت النسب بمجزز إنما مقصودنا أن الشبه الخاص معتبر ، وقد دل الحديث عليه ، وأما سروره عليه السلام بتكذيب المنافقين فكيف يستقيم السرور مع بطلان مستند التكذيب كما لو أخبر عن كذبهم رجل كاذب ، وإنما يثبت كذبهم إذا كان المستند حقا فيكون الشبه حقا ، وهو المطلوب ، وبهذا التقرير يندفع قولكم إن الباطل قد يأتي بالحسن والمصلحة فإنه على هذا التقدير ما أتى بشيء .

وأما قولكم أخبر به لرؤية سابقة لأجل الفراش فالناس كلهم يشاركونه في ذلك فأي فائدة في اختصاص السرور بقوله لولا أنه حكم بشيء غير الذي كان طعن المشركين ثابتا معه ، ولا كان لذكر الأقدام فائدة ، وحديث العجلاني قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم { إن جاءت به على نعت كذا ، وكذا فأراه قد كذب عليها وإن أتت به على نعت كذا وكذا فهو لشريك فلما أتت به على النعت المكروه قال عليه السلام لولا الأيمان لكان لي ولها شأن } فصرح عليه السلام بأن وجود صفات أحدهما في الآخر يدل على أنهما من نسب واحد ، ولا يقال إن إخباره عليه السلام كان من جهة الوحي لأن القيافة ليست في بني هاشم إنما هي في بني مدلج ، ولا قال أحد إنه عليه السلام كان قائفا ، ولأنه عليه السلام لم يحكم به لشريك ، وأنتم توجبون الحكم بما أشبه أيضا لم تحد المرأة فدل ذلك على عدم اعتبار الشبه لأنا نقول إن جاء الوحي بأن الولد ليس يشبهه فهو مؤسس لما يقوله ، وصار الحكم بالشبه أولى من الحكم في الفراش لأن الفراش يدل عليه من ظاهر الحال ، والشبه يدل على الحقيقة [ ص: 101 ]

وأما كونه عليه السلام لم يعط علم القيافة فممنوع لأنه عليه السلام أعطي علم الأولين والآخرين سلمناه لكن أخبر عن ضابط القائفين أن الشبه متى كان كذا فهم يحكمون بكذا إلا أنه ادعى علم القيافة كما نقول يقول الإنسان الأطباء يداوون المحموم بكذا ، وإن لم يكن طبيبا ، ولم يحكم بالولد لشريك لأنه زان ، وإنما يحكم بالولد في وطء الشبهة ، وإنما وطئ البائع والمشتري الأمة في طهر واحد ، وأما عدم الحد فلأن المرأة قد تكون من جهتها شبهة أو مكرهة أو لأن اللعان يسقط الحد لقوله تعالى { ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله } الآية أو لأنه عليه السلام لا يحكم بعلمه ، وبالجملة فحديث المدلجي يدل دلالة قوية على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استدل بالشبه على النسب ، ولو كان بالوحي لم يحصل فيه ترديد في ظاهر الحال بل كان يقول هي تأتي به على نعت كذا ، وهو لفلان فإن الله تعالى بكل شيء عليم فلا حاجة إلى الترديد الذي لا يحسن إلا في مواطن الشك ، وإنما يحسن هذا بالوحي إذا كان لتأسيس قاعدة القيافة وبسط صورها بالأشباه ، وذلك مطلوبنا فالحديث يدل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما سر إلا بسبب حق ، وهو المطلوب ، ويؤيده أيضا قوله صلى الله عليه وسلم لعائشة في الحديث { تربت يداك ، ومن أين يكون الشبه } فأخبر أن المني يوجب الشبه فيكون دليل النسب ، ولنا أيضا أن رجلين تداعيا ولدا فاختصما لعمر فاستدعى له القافة فألحقوه بهما فعلاهما بالدرة ، واستدعى حرائر من قريش فقلن خلق من ماء الأول ، وحاضت على الحمل فاستخشف الحمل فلما وطئها الثاني انتعش بمائه فأخذ شبها منها فقال عمر الله أكبر ، وألحق الولد بالأول ، ولأنه علم عند القافة من باب الاجتهاد فيعتمد عليه كالتقويم في المتلفات ونفقات الزوجات وخرص الثمار في الزكوات وتحرير جهة الكعبة في الصلوات وجزاء الصيد ، وكل ذلك تخمين وتقريب .

ولما لم يعتبر أبو حنيفة الشبه ألحق الولد بجميع المتنازعين ، ويرد عليه قوله تعالى { إنا خلقناكم من ذكر وأنثى } فالأب واحد وقوله تعالى { وورثه أبواه } فلم يجعل له آباء . وعارض أبو حنيفة حديث العجلاني بوجوه : ( الأول ) بما في الصحاح { أن رجلا حضر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وادعى أن امرأته ولدت ولدا أسود فقال له عليه السلام هل في إبلك من أورق فقال له نعم قال له ما ألوانها قال سود [ ص: 102 ] فقال ما السبب فقال الرجل لعل عرقا نزع } فلم يعتبر الشبه .

( الثاني ) بقوله عليه السلام { الولد للفراش } ، ولم يفرق . ( الثالث ) أن خلق الولد مغيب عنا فجاز أن يخلق من رجلين ، وقد نص عليه بقراط في كتاب سماه الحمل على الحمل . ( الرابع ) ولأن الشبه لو كان معتبرا مع أنه قد يقع من الولد وجماعة لوجب إلحاقه بهم بسبب الشبه ، ولم يقولوا به . ( الخامس ) ولأن الشبه لو كان معتبرا لبطلت مشروعية اللعان ، واكتفي به .

( السادس ) أنه لا حكم له مع الفراش فلا يكون معتبرا عند عدمه كغيره . ( السابع ) أن القيافة لو كانت علما لأمكن اكتسابه كسائر العلوم والصنائع . ( الثامن ) أنه حزر وتخمين فوجب أن يكون باطلا كأحكام النجوم ، والجواب عن الأول أن تلك الصورة ليست صورة النزاع لأنه كان صاحب فراش ، وإنما سأله عن اختلاف اللون فعرفه عليه السلام السبب ، ولأنا لا نقول إن القيافة هي اعتبار الشبه كيفما كان ، والمناسبة كيف كانت بل شبه خاص ، ولذلك ألحقوا أسامة بن زيد مع سواده بأبيه الشديد البياض بل حقيقتها شبه خاص ، ولا معارضة بين الألوان وغيرها ، ولذلك لم يعرج مجزز على اختلاف الألوان ، وهذا الرجل لم يذكر إلا مجرد اللون فليس فيه شرط القيافة حتى يدل إلغاؤه على إلغاء القيافة ، وعن الثاني أنه محمول على العادة والغالب ، وعن الثالث أنه خلاف العوائد ، وظواهر النصوص المتقدمة تأباه ، والشرع إنما يبني أحكامه على الغالب ، وبقراط تكلم على النادر فلا تعارض ، وعن الرابع أن الحكم ليس مضافا لما يشاهد من شبه الإنسان لجميع الناس ، وإنما يضاف لشبه خاص يعرفه أهل القيافة ، وعن الخامس أن القيافة إنما تكون من حيث يستوي الفراشان ، واللعان يكون لما يشاهد الزوج فهما بابان متباينان لا يسد أحدهما مسد الآخر ، وعن السادس الفرق بأن وجود الفراش وحده سالما عن المعارض يقتضي استقلاله بخلاف تعارض الفراشين ، وعن السابع أنه قوة في النفس ، وقوى النفس وخواصها لا يمكن اكتسابها كالعين التي يصاب بها فتدخل الجمل القدر ، والرجل القبر ، وغير ذلك مما دل الوجود عليه من الخواص فالقيافة كذلك حتى يتعذر اكتسابها .

وعن الثامن أنه لو ثبتت أحكام النجوم كما ثبتت القيافة ، وأن الله تعالى ربط بها أحكاما لاعتبرت في تلك الأحوال المرتبطة بها كما اعتبرت الشمس في الفصول ونضج الثمار وتجفيف الحبوب والكسوفات وأوقات الصلوات وغير ذلك مما هو معتبر من أحكام النجوم ، وإنما [ ص: 103 ] ألغي منها ما هو كذب وافتراء على الله تعالى من ربط الشقاوة والسعادة والأمانة والإحياء بمثلثها وتربيعها أو غير ذلك مما لم يصح فيها ، ولو صح لقلنا به ، والقيافة صحت بما تقدم من الأحاديث والآثار .


[ ص: 104 ] حاشية ابن حسين المكي المالكي

( الباب الرابع عشر ) في بيان ما تكون فيه حجة القافة ، والخلاف في قبولها ، ودليله ، وفيه وصلان

( الوصل الأول ) في الأصل القافة حجة شرعية عندنا في القضاء بثبوت الأنساب ، ووافقنا الشافعي وأحمد بن حنبل قال ابن القصار وإنما يجيزه مالك في ولد الأمة يطؤها رجلان في طهر واحد ، وتأتي بولد يشبه أن يكون منهما ، والمشهور عدم قبوله في ولد الزوجة ، وعنه قبوله ، وأجازه الشافعي فيهما ا هـ .

وفي التبصرة ، ولا تعتمد القافة إلا على أب موجود بالحياة قال بعضهم أو مات ، ولم يدفن قيل ، وتعتمد على العصبة قال ولا يحكم بقول القائف إلا في أولاد الإماء من وطء سيدين في طهر واحد دون أولاد الحرائر على المشهور ، وقيل يقبل في أولاد الحرائر قاله ابن وهب ، واختاره اللخمي قال ابن يونس ، وهو أقيس ، والفرق على المشهور بين الحرائر والإماء ما ذكره الشيخ أبو عمران قال إنما خصت القافة بالإماء لأن الأمة قد تكون بين جماعة فيطئونها في طهر واحد فقال تساووا في الملك والوطء ، وليس أحدهما بأقوى من الأخرى فراشا فالفراشان مستويان وكذلك الأمة إذا ابتاعها رجل ، وقد وطئها البائع ووطئها المبتاع في ذلك الطهر لأنهما استويا في الملك ، وأما الحرة فإنها لا تكون زوجا لرجلين في حالة واحدة فلا يصح فيها فراشان مستويان ، وأيضا فولد الحرة لا ينتفي إلا باللعان ، وولد الأمة ينتفي بغير اللعان ، والنفي [ ص: 165 ] بالقافة إنما هو ضرب من اجتهاد فلا ينقل ولد الحرة من يقين إلى الاجتهاد ، ولما جاز نفي ولد الأمة بمجرد الدعوى جاز نفيه بالقافة ا هـ بلفظه ، والله أعلم

( الوصل الثاني ) خالفنا أبو حنيفة في قبول القافة في القضاء بثبوت الأنساب فقال الحكم بالقافة باطل قال الأصل لنا خمسة وجوه

( الأول ) ما في الصحيحين { قالت عائشة رضي الله عنها دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم تبرق أسارير وجهه فقال ألم تري إلى مجزز المدلجي نظر إلى أسامة وزيد عليهما قطيفة قد غطيا رءوسهما ، وبدت أقدامهما فقال إن هذه الأقدام بعضها من بعض } وسبب ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان تبنى زيد بن حارثة وكان أبيض ، وابنه أسامة أسود فكان المشركون يطعنون في نسبه فشق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم لمكانته منه فلما قال مجزز ذلك سر به رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يدل من وجهين ( أحدهما ) أنه لو كان الحدس باطلا شرعا لما سر به رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه عليه السلام لا يسر بالباطل ( وثانيهما ) أن إقراره عليه السلام على الشيء من جملة الأدلة على المشروعية ، وقد أقر مجززا على ذلك فيكون حقا مشروعا لا يقال النزاع إنما هو إلحاق الولد ، وهذا كان ملحقا بأبيه في الفراش فلم يتعين محل النزاع لأنا نقول مرادنا هاهنا أن الشبه الخاص معتبر ، وليس مرادنا أن النسب ثبت بمجزز ، ولا يقال أيضا أن سروره عليه السلام لتكذيب المنافقين لأنهم كانوا يعتقدون صحة القيافة ، وتكذيب المنافقين حاصل بأي سبب كان بقوله عليه السلام { إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر } فقد يفضي الباطل للخير والمصلحة ، وعدم إنكاره صلى الله عليه وسلم هذا الباطل ، وهو لا يقره لأن مجززا لم يتعين أنه أخبر بذلك لأجل القيافة فلعله أخبر به بناء على القرائن إذ يحتمل أن يكون رآهما قبل ذلك ( لأنا نقول ) كيف يستقيم السرور مع بطلان مستند التكذيب كما لو أخبر عن كذبهم رجل كاذب ، وإنما يثبت كذبهم إذا كان المستند حقا فيكون الشبه حقا ، وهو المطلوب فاندفع بهذا قولكم أن الباطل قد يأتي بالخير ، والمصلحة فإنه على هذا التقرير ما أتى بشيء ، وقولكم أخبر به لرؤية سابقة لأجل القرائن يقتضي أمرين : ( الأول ) نفي فائدة اختصاص السرور بقوله لأن الناس كلهم يشركونه في ذلك حينئذ ( الثاني ) نفي فائدة ذكر الأقدام إذ أنه حكم بشيء غير الذي كان طعن المشركين ثابتا معه لما كان لكل من اختصاص السرور ، وبقوله ، وذكر الأقدام فائدة .

( والوجه الثاني ) قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث العجلاني { إن جاءت به على نعت كذا وكذا فأراه قد كذب عليها ، وإن أتت به على نعت كذا وكذا فهو لشريك فلما أتت به على النعت المكروه قال عليه السلام لولا الأيمان لكان لي ولها شأن } فصرح عليه السلام بأن وجود صفات أحدهما أي الوالد في الآخر أي الولد يدل على أنهما من نسب واحد ، ومجيء الوحي بأن الولد ليس يشبهه مؤسس لما يقوله ، والحكم بالشبه أولى من الحكم بكونه في الفراش لأن الفراش يدل عليه من ظاهر الحال ، والشبه يدل على الحقيقة ، وكونه عليه السلام لم يعط علم القيافة ممنوع لأنه عليه السلام أعطي علم الأولين والآخرين سلمنا لكن عن ضابط القائفين أن الشبه متى كان كذا فهم يحكمون بكذا لا أنه ادعى علم القيافة بل كما يقول يقول الإنسان : الأطباء يداوون المحموم بكذا ، وإن لم يكن طبيبا ، وإنما لم يحكم بالولد لشريك لأنه زان ، والولد إنما يحكم به في وطء البائع ، والمشتري الأمة في طهر واحد لأن كلا وطء شبهة ، وأما عدم الحد فلأن المرأة [ ص: 166 ] قد تكون من جهتها شبهة أو تكون مكرهة أو لأن اللعان يسقط الحد لقوله تعالى { يدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله } الآية أو لأنه عليه السلام لا يحكم بعلمه فاندفع ما أوردوه من أن مما يدل على عدم اعتبار الشبهة في حديث المدلجي أو لأن أخباره عليه كان من جهة الوحي لا من جهة القيافة لأنها ليست في بني هاشم ، وإنما هي في بني مدلج ، ولم يقل أحد أنه عليه السلام كان قائلها ، وثانيا أنه عليه السلام لم يحكم به لشريك ، وأنتم توجبون الحكم بما أشبه ، وثالثا أن المرأة لم تحد ، وبالجملة فحديث المدلجي يدل دلالة قوية على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استدل بالشبه على النسب ، ولو كان بالوحي لم يحصل فيه ترديد في ظاهر الحال بل كان يقول هي تأتي به على نعت كذا ، وهو لفلان فإن الله تعالى بكل شيء عليم فلا حاجة إلى الترديد الذي لا يحسن إلا في مواطن الشك ، وإنما يحسن هذا بالوحي إذا كان لتأسيس قاعدة القيافة ، وبسط صورها بالأشباه ، وذلك مطلوبنا فالحديث يدل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما سر إلا بسبب حق ، وهو المطلوب ، ويؤيده أيضا قوله عليه الصلاة والسلام لعائشة في الحديث تربت يداك ، ومن أين يكون الشبه فأخبر أن المني يوجب الشبه فيكون دليل النسب ( والوجه الثالث ) أن رجلين تداعيا ولدا فاختصما لعمر فاستدعى له القافة فألحقوه بهما فعلاهما بالدرة ، واستدعى حرائر من قريش فقلن خلق من ماء الأول ، وحاضت على الحمل فاستحشف الحمل فلما وطئها الثاني انتعش بمائه فأخذ شبها منهما فقال عمر الله أكبر ، وألحق الولد بالأول ( والوجه الرابع ) أن الشبه علم عند القافة من باب الاجتهاد فيعتمد عليه كالتقويم في المتلفات ، ونفقات الزوجات ، وخرص الثمار في الزكوات ، وتحرير جهة الكعبة في الصلوات ، والمثل في جزاء الصيد من النعم ، وكل ذلك تخمين وتقريب ( والوجه الخامس ) أنه إذا لم يعتبر الشبه لم يكن إلا إلحاق الولد بجميع المتنازعين كما لأبي حنيفة ، ولم يجعل الله للولد آباء بل أبا واحدا في قوله تعالى { إنا خلقناكم من ذكر وأنثى } وقوله تعالى { وورثه أبواه } .

وأما الوجوه الثمانية التي عارض بها أبو حنيفة حديث العجلاني : ( فالأول ) ما في الصحاح { أن رجلا حضر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وادعى أن امرأته ولدت ولدا أسود فقال له عليه السلام في إبلك من أورق ؟ فقال له نعم قال له ما ألوانها ؟ قال سود فقال ما السبب ؟ فقال الرجل لعل عرقا نزع } فلم يعتبر الشبه ، وجوابه أن تلك الصورة ليست صورة النزاع لأنه كان صاحب فراش ، وإنما سأله عن اختلاف اللون فعرفه عليه السلام السبب ، ونحو لا نقول القيافة هي اعتبار الشبه كيف كان ، والمناسبة كيف كانت بل نقول هي شبه خاص ، ولذلك ألحق مجزز أسامة بن زيد مع سواده بأبيه الشديد البياض ، ولم يعرج على اختلاف الألوان إذ لا معارضة بينها وبين غيرها ، وهذا الرجل لم يذكر مجرد اللون فليس فيه شرط القيافة حتى يدل إلغاؤه على إلغاء القافة

( والوجه الثاني ) قوله عليه السلام { الولد للفراش } ، ولم يفرق ، وجوابه أنه محمول على الغالب والعادة

( والوجه الثالث ) إن خلق الولد مغيب عنا فجاز أن يخلق من رجلين ، وقد نص عليه بقراط في كتاب سماه الحمل على الحمل ، وجوابه أنه خلاف العوائد ، وظواهر النصوص المتقدمة تأباه ، والشرع إنما يعني أحكامه على الغالب ، وبقراط تكلم على النادر فلا تعارض

( والوجه الرابع ) أن الشبه لو كان معتبرا مع أنه قد وقع من الولد ، وجماعة لوجب إلحاقه بهم بسبب الشبه ، ولم يقولوا به ، وجوابه أن الحكم ليس مضافا لما يشاهد [ ص: 167 ] من شبه الإنسان لجميع الناس ، وإنما يضاف لشبه خاص يعرفه أهل القيافة

( والوجه الخامس ) أن الشبه لو كان معتبرا لبطلت مشروعية اللعان ، واكتفى به وجوبه أن القيافة إنما تكون حيث يستوي الفراشان واللعان يكون لما يشاهده الزوج فهما بابان متباينان لا يسد أحدهما مسد الآخر

( والوجه السادس ) أنه لا حكم له مع الفراش فلا يكون معتبرا مع عدمه كغيره ، وجوابه الفرق بأن وجود الفراش وحده سالما عن المعارض يقتضي استقلاله بخلاف تعارض الفراشين .

( الوجه السابع ) أن القيافة لو كانت علما لأمكن اكتسابه كسائر العلوم والصنائع ، وجوابه أن قوة في النفس وقوى النفس خواصها لا يمكن اكتسابها كالعين التي يصاب بها فتدخل الجمل القدر والرجل القبر وغير ذلك مما دل الوجود عليه من الخواص فالقيافة كذلك فيتعذر اكتسابها

( والوجه الثامن ) أنه حزر وتخمين فوجب أن يكون باطلا كأحكام النجوم ، وجوابه أنه لو ثبتت أحكام النجوم كما ثبتت القيافة ، وأن الله تعالى ربط بها أحكاما لاعتبرت في تلك الأحوال المرتبطة بها كما اعتبرت الشمس في الفصول ، ونضج الثمار وتجفيف الحبوب والكسوفات ، وأوقات الصلوات وغير ذلك مما هو معتبر من أحكام النجوم ، وإنما ألغي منها ما هو كذب وافتراء على الله تعالى من ربط الشقاوة والسعادة ، والإماتة والإحياء بتثليثها أو تربيعها أو غير ذلك مما لم يصح فيها ، ولو صح لقلنا به ، والقيافة صحت بما تقدم من الأحاديث والآثار فافترقا ا هـ كلام الأصل بتهذيب ، وسلمه أبو القاسم بن الشاط ، والله أعلم

التالي السابق


الخدمات العلمية