صفحة جزء
( الفرق الثاني والخمسون والمائتان بين قاعدة ما يحرم من البدع وينهى عنه وبين قاعدة ما لا ينهى عنه منها )

اعلم أن الأصحاب - فيما رأيت - متفقون على إنكار البدع نص على ذلك ابن أبي زيد وغيره والحق التفصيل ، وأنها خمسة أقسام

( قسم ) واجب ، وهو ما تتناوله قواعد الوجوب وأدلته من الشرع كتدوين القرآن والشرائع إذا خيف عليها الضياع فإن التبليغ لمن بعدنا من القرون واجب إجماعا ، وإهمال ذلك حرام إجماعا فمثل هذا النوع لا ينبغي أن يختلف في وجوبه

( القسم الثاني ) : محرم ، وهو بدعة تناولتها قواعد التحريم وأدلته من الشريعة كالمكوس والمحدثات من المظالم المنافية لقواعد [ ص: 203 ] الشريعة كتقديم الجهال على العلماء وتولية المناصب الشرعية من لا يصلح لها بطريق التوارث وجعل المستند لذلك كون المنصب كان لأبيه ، وهو في نفسه ليس بأهل

( القسم الثالث ) من البدع مندوب إليه ، وهو ما تناولته قواعد الندب وأدلته من الشريعة كصلاة التراويح وإقامة صور الأئمة والقضاة وولاة الأمور على خلاف ما كان عليه أمر الصحابة بسبب أن المصالح والمقاصد الشرعية لا تحصل إلا بعظمة الولاة في نفوس الناس ، وكان الناس في زمن الصحابة معظم تعظيمهم إنما هو بالدين وسابق الهجرة ثم اختل النظام وذهب ذلك القرن وحدث قرن آخر لا يعظمون إلا بالصور فيتعين تفخيم الصور حتى تحصل المصالح ، وقد كان عمر يأكل خبز الشعير والملح ويفرض لعامله نصف شاة كل يوم لعلمه بأن الحالة التي هو عليها لو عملها غيره لهان في نفوس الناس ، ولم يحترموه وتجاسروا عليه بالمخالفة فاحتاج إلى أن يضع غيره في صورة أخرى لحفظ النظام ؛ ولذلك لما قدم الشام ووجد معاوية بن أبي سفيان قد اتخذ الحجاب وأرخى الحجاب ، واتخذ المراكب النفيسة والثياب الهائلة العلية ، وسلك ما يسلكه الملوك ، فسأله عن ذلك فقال : إنا بأرض نحن فيها محتاجون لهذا فقال له لا آمرك ، ولا أنهاك ومعناه أنت أعلم بحالك هل أنت محتاج إلى هذا فيكون حسنا أو غير محتاج إليه فدل ذلك من عمر وغيره على أن أحوال الأئمة وولاة الأمور تختلف باختلاف الأعصار والأمصار والقرون والأحوال فلذلك يحتاجون إلى تجديد [ ص: 204 ] زخارف وسياسات لم تكن قديما وربما وجبت في بعض الأحوال

( القسم الرابع ) بدع مكروهة ، وهي ما تناولته أدلة الكراهة من الشريعة وقواعدها كتخصيص الأيام الفاضلة أو غيرها بنوع من العبادات ومن ذلك في الصحيح ما خرجه مسلم وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم { نهى عن تخصيص يوم الجمعة بصيام أو ليلته } بقيام ، ومن هذا الباب الزيادة في المندوبات المحدودات كما ورد في التسبيح عقيب الصلوات ثلاثة وثلاثين فيفعل مائة وورد صاع في زكاة الفطر فيجعل عشرة آصع بسبب أن الزيادة فيها إظهار الاستظهار على الشارع ، وقلة أدب معه بل شأن العظماء إذا حددوا شيئا وقف عنده ، والخروج عنه قلة أدب والزيادة في الواجب أو عليه أشد في المنع ؛ لأنه يؤدي إلى أن يعتقد أن الواجب هو الأصل ، والمزيد عليه ؛ ولذلك نهى مالك عن إيصال ست من شوال لئلا يعتقد أنها من رمضان وخرج أبو داود في سننه { أن رجلا دخل إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه فصلى الفرض وقام ليصلي ركعتين ، فقال له عمر بن الخطاب : اجلس حتى تفصل بين فرضك ونفلك فبهذا هلك من كان قبلنا فقال له عليه السلام : أصاب الله بك يا ابن الخطاب } يريد عمر أن من قبلنا وصلوا النوافل بالفرائض فاعتقدوا الجميع واجبا ، وذلك تغيير للشرائع ، وهو حرام إجماعا

( القسم الخامس ) البدع المباحة ، وهي ما تناولته أدلة الإباحة وقواعدها من الشريعة كاتخاذ المناخل للدقيق ففي [ ص: 205 ] الآثار أول شيء أحدثه الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم اتخاذ المناخل للدقيق ؛ لأن تليين العيش وإصلاحه من المباحات فوسائله مباحة فالبدعة إذا عرضت تعرض على قواعد الشريعة وأدلتها فأي شيء تناولها من الأدلة والقواعد ألحقت به من إيجاب أو تحريم أو غيرهما ، وإن نظر إليها من حيث الجملة بالنظر إلى كونها بدعة مع قطع النظر عما يتقاضاها كرهت فإن الخير كله في الاتباع ، والشر كله في الابتداع ولبعض السلف الصالح يسمى أبا العباس الأبياني من أهل الأندلس ثلاث لو كتبن في ظفر لوسعهن ، وفيهن خير الدنيا والآخرة اتبع ، ولا تبتدع اتضع ، ولا ترتفع من تورع لا يتسع


حاشية ابن حسين المكي المالكي

( الفرق الرابع والخمسون والمائتان بين قاعدة ما يحرم من البدع وينهى عنه وبين قاعدة ما لا ينهى عنه منها )

وهو مبني على أحد الطريقتين في البدع اللتين في قول الأصل : الأصحاب - فيما رأيت - متفقون على إنكار البدع نص على ذلك ابن أبي زيد وغيره ، والحق التفصيل ، وأنها خمسة أقسام

( الأول ) : واجب ، وهو ما تناولته قواعد الوجوب وأدلته من الشرع كتدوين القرآن والشرائع إذا خيف عليها الضياع فإن التبليغ لمن بعدنا من القرون واجب إجماعا .

وإهماله حرام إجماعا

( الثاني ) : محرم ، وهو ما تناولتها قواعد التحريم ، وأدلته من الشرع كالمكوس والمحدثات من المظالم المنافية لقواعد الشريعة كتقديم الجهال على العلماء وتولية المناصب الشرعية من لا يصلح لها بطريق التوارث نظرا لكون المنصب كان لأبيه ، وهو في نفسه ليس بأهل

( الثالث ) مندوب ، وهو ما تناولته قواعد الندب وأدلته من الشرع كصلاة التراويح أي الذي عمل بها عمر رضي الله عنه فجمع الناس في المسجد على [ ص: 218 ] قارئ واحد في رمضان ، وقال حين دخل المسجد ، وهم يصلون : نعمت البدعة هذه والتي ينامون عنها أفضل ، فإنه إنما سماها بدعة باعتبار ما وإلا فقيام الإمام بالناس في المسجد في رمضان سنة عمل بها صاحب السنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما تركها خوفا من الافتراض فلما انقضى زمن الوحي زالت العلة فعاد العمل بها إلى نصابه إلا أن ذلك لم يتأت لأبي بكر رضي الله عنه زمان خلافته لمعارضة ما هو أولى بالنظر فيه ، وكذلك صدر خلافة عمر رضي الله عنه حتى تأنى النظر فوقع منه لكنه صار في ظاهر الأمر كأنه أمر لم يجر به عمل من تقدمه دائما فسماه بذلك الاسم ؛ لأنه أمر على خلاف ما ثبت من السنة كما في الاعتصام لأبي إسحاق الشاطبي قلت : وقد جرى على ما عمل عمر رضي الله تعالى عنه من صلاة التراويح بإمام واحد في المسجد عمل الأعصار إلى عصرنا في جميع الأمصار ما عدا مكة والمدينة فإنهما قد ابتدع فيهما شرفهما الله - تعالى - تعدد الجماعات في صلاة التراويح أسأل الله - تعالى - أن يوفق أهلها للعمل فيها بالسنة كسائر الأمصار قال الأصل : وكإقامة صور الأئمة والقضاة وولاة الأمور على خلاف ما كان عليه أمر الصحابة بسبب أن المصالح والمقاصد الشرعية لا تحصل إلا بعظمة الولاة في نفوس الناس وكان الناس في زمن الصحابة معظم تعظيمهم إنما هو بالدين وسابق الهجرة ثم اختل النظام وذهب ذلك القرن وحدث قرن آخر لا يعظمون إلا بالصور فتعين تفخيم الصور حتى تحصل المصالح ، وقد كان عمر يأكل خبز الشعير والملح ويفرض لعامله نصف شاة كل يوم لعلمه بأن الحالة التي هو عليها لو عملها غيره لهان في نفوس الناس ، ولم يحترموه وتجاسروا عليه بالمخالفة فاحتاج إلى أن يضع غيره في صورة أخرى لحفظ النظام ولذلك لما قدم الشام ووجد معاوية قد اتخذ الحجاب وأرخى الحجاب واتخذ المراكب النفيسة والثياب الهائلة العلية ، وسلك ما يسلكه الملوك فسأله عن ذلك فقال : إنا بأرض نحن فيها محتاجون لهذا فقال له لا آمرك ، ولا أنهاك ومعناه أنت أعلم بحالك هل أنت محتاج إلى هذا فيكون حسنا أو غير محتاج إليه فدل ذلك من عمر وغيره على أن أحوال الأئمة وولاة الأمور تختلف باختلاف الأعصار والأمصار والقرون والأحوال ؛ فلذلك يحتاجون إلى تجديد زخارف وسياسات لم تكن قديما ، وربما وجبت في بعض الأحوال

( الرابع ) مكروه ، وهو ما تناولته قواعد الكراهة ، وأدلتها من الشرع كتخصيص الأيام الفاضلة وغيرها بنوع من العبادات { لنهيه صلى الله عليه وسلم عن تخصيص يوم الجمعة بصيام أو ليلته بقيام } كما في صحيح مسلم وغيره وكالزيادة في المندوبات المحدودات بأن يجعل التسبيح عقيب الصلوات مائة ، والوارد فيه ثلاثة وثلاثون والصاع الواحد الوارد في زكاة الفطر عشرة آصع بسبب أن الزيادة فيها إظهار الاستظهار على الشارع ، وهو قلة أدب معه ؛ لأن شأن العظماء إذا حددوا شيئا وقف عنده ، وعد الخروج عنه قلة أدب ، وأما الزيادة في الواجب أو عليه فهو حرام لا مكروه ؛ لأنه يؤدي إلى أن يعتقد أن الواجب هو الأصل والمزيد عليه وذلك تغيير للشرائع ، وهو حرام إجماعا ؛ ولذلك نهى مالك عن إيصال ست من شوال لئلا يعتقد أنها من رمضان وخرج أبو داود في سننه { أن رجلا دخل إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى الفرض وقام ليصلي ركعتين فقال عمر بن الخطاب اجلس حتى تفصل بين فرضك [ ص: 219 ] ونفلك فبهذا هلك من كان قبلنا فقال له عليه السلام أصاب الله بك يا ابن الخطاب } يريد عمر أن من قبلنا وصلوا النوافل بالفرائض فاعتقدوا الجميع واجبا فهلكوا بتغييرهم للشرائع

( الخامس ) : مباح ، وهو ما تناولته قواعد المباح وأدلته من الشرع كاتخاذ المناخل للدقيق ؛ لأنه أول شيء أحدثه الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الآثار وتليين العيش وإصلاحه من المباحات فوسائله كذلك ، وبالجملة فالبدعة إنما تنقسم لهذه الأقسام إذا نظر إليها باعتبار ما يتقاضاها ويتناولها من القواعد والأدلة فألحقت بما تناولها من قواعد وأدلة الوجوب أو التحريم أو الندب أو الكراهة أو الإباحة ، وأما إن قطع النظر عن ذلك ونظر إلى كونها بدعة من حيث الجملة لم تكن إلا مكروهة أي إما تنزيها ، وإما تحريما فإن الخير كله في الاتباع ، والشر كله في الابتداع ولبعض السلف الصالح ويسمى أبا العباس الأبياني من أهل الأندلس ثلاث لو كتبن في ظفر لوسعهن ، وفيهن خير الدنيا والآخرة اتبع ولا تبتدع اتضع ولا ترتفع من تورع لا يتسع . ا هـ . كلام الأصل بتهذيب وزيادة فقوله : والحق التفصيل إلخ هي الطريقة التي بنى عليها الفرق بين القاعدتين المذكورتين ، وصححه ابن الشاط ، وإليها ذهب من المالكية غير واحد كالإمام محمد الزرقاني فقال في شرحه على الموطإ : وتنقسم البدعة إلى الأحكام الخمسة وحديث كل بدعة ضلالة عام مخصوص قال : والبدعة لغة ما أحدث على غير مثال سبق وتطلق شرعا على مقابل السنة ، وهي ما لم تكن في عهده صلى الله عليه وسلم ا هـ وغير واحد من الشافعية منهم الإمام النووي والعز بن عبد السلام شيخ الأصل ففي العزيزي على الجامع الصغير عن العلقمي قال النووي : البدعة بكسر الباء في الشرع هي إحداث ما لم يكن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهي منقسمة إلى حسنة وقبيحة ، وقال ابن عبد السلام في آخر القواعد البدعة منقسمة إلى واجبة ومحرمة ومندوبة ومكروهة ومباحة قال : والطريق في ذلك أن تعرض البدعة على قواعد الشريعة ، فإن دخلت في قواعد الإيجاب فهي واجبة ، أو في قواعد التحريم فهي محرمة ، أو الندب فمندوبة ، أو المكروه فمكروهة ، أو المباح فمباحة وللواجبة أمثلة منها الاشتغال بعلم النحو الذي يفهم كلام الله - تعالى - وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم ومنها حفظ غريب الكتاب والسنة من اللغة ، ومنها تدريس أصول الفقه ، ومنها الكلام في الجرح والتعديل وتمييز الصحيح من السقيم ، ومنها الرد على مذاهب نحو القدرية والجبرية والمرجئة والمجسمة ؛ إذ لا يتأتى حفظ الشريعة إلا بما ذكرناه ، وقد دلت قواعد الشريعة على أن حفظ الشريعة فرض كفاية فيما زاد على المتعين ، وللمحرمة أمثلة منها مذاهب القدرية والجبرية والمرجئة والمجسمة ، وللمندوبة أمثلة منها التراويح ، والكلام في دقائق التصوف ، وفي الجدل .

ومنها جمع المحافل في الاستدلال على المسائل إن يقصد بذلك وجه الله ، والمكروهة أمثلة منها زخرفة المساجد وتزويق المصاحف ، وللمباحة أمثلة منها المصافحة عقب الصبح والعصر ومنها التوسع في اللذيذ من المأكل والمشرب والملابس والمساكن ولبس الطيالسة وتوسيع الأكمام ، وقد نختلف في بعض ذلك فيجعله بعض العلماء من البدع المكروهة ويجعله آخرون من السنن المفعولة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فما بعده وذلك كالاستعاذة والبسملة في الصلاة . ا هـ . بتصرف فمشهور مذهب مالك كراهتهما في الفريضة دون النافلة إذا اعتقد أن الصلاة [ ص: 220 ] لا تصح بتركهما ، ولم يقصد الخروج من خلاف الإمام الشافعي ، ومذهب الإمام الشافعي سنيتهما في الصلاة مطلقا ، ومثلهما في كونه بدعة مكروهة ، أو سنة سجود الشكر ذهب الشافعي إلى أنه سنة مفعولة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذهب مالك إلى كراهته ، وأنه ليس بمشروع ففي العتبية : وسئل مالك عن الرجل يأتيه الأمر يحبه فيسجد لله - عز وجل - شكرا فقال : لا يفعل هذا مما مضى من أمر الناس ، قيل له : إن أبا بكر الصديق رضي الله عنه فيما يذكرون سجد يوم اليمامة شكرا لله أفسمعت ذلك قال ما سمعت ذلك ، وأنا أرى أن قد كذبوا على أبي بكر ، وهذا من الضلال أن يسمع المرء الشيء فيقول : هذا لم تسمعه مني قد فتح الله على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى المسلمين بعده أفسمعت أن أحدا منهم فعل مثل هذا إذ ما قد كان في الناس وجرى على أيديهم سمع عنهم فيه شيء فعليك بذلك فإنه لو كان لذكر ؛ لأنه من أمر الناس الذي قد كان فيهم فهل سمعت أن أحدا منهم سجد فهذا إجماع .

وإذا جاءك أمر لا تعرفه فدعه . ا هـ . قال ابن رشد : الوجه في ذلك أنه لم يرد مما شرع في الدين يعني سجود الشكر فرضا ، ولا نفلا إذ لم يأمر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا فعله ، ولا أجمع المسلمون على اختيار فعله ، والشرائع لا تثبت إلا من أحد هذه الأمور قال : واستدلاله على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك ، ولا المسلمون بعده بأن في ذلك لو كان النقل صحيحا ؛ إذ لا يصح أن تتوفر الدواعي على ترك نقل شريعة من شرائع الدين ، وقد أمروا بالتبليغ قال : وهذا أصل من الأصول ، وعليه يأتي إسقاط الزكاة من الخضر والبقول مع وجود الزكاة فيها لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم { فيما سقت السماء والعيون والبعل العشر ، وفيما سقي بالنضح نصف العشر } ؛ لأنا نزلنا ترك نقل أخذ النبي صلى الله عليه وسلم الزكاة منها كالسنة القائمة في أن لا زكاة فيها فكذلك نزل ترك نقل السجود عن النبي صلى الله عليه وسلم في الشكر كالسنة القائمة في أن لا سجود فيها ثم حكي خلاف الشافعي ، والكلام عليه ، والمقصود من المسألة توجيه مالك من حيث إنها بدعة لا توجيه أنها بدعة على الإطلاق أفاده الشاطبي في الاعتصام وحاصل هذه الطريقة هو ما أشار إليه العلامة الحفني في حاشيته على الجامع الصغير من أن البدعة بمعنى ما لم يكن في عهده صلى الله عليه وسلم نوعان حقيقية ومشتبهات فالحقيقية هي المقابلة للسنة فالسنة ما فعل في الصدر الأول ، وشهد له أصل من أصول الشرع ، والبدعة الحقيقية ما أحدث بعد الصدر الأول ، ولم يشهد له أصل من أصول الشرع ، قال : زاد الشارح في الكبير وغلبت على ما خالف أصول أهل السنة في العقائد .

وهي البدعة المحرمة سواء كفر بها كإنكار علمه - تعالى بالجزئيات أو لا كالمجسمة والجهمية على الراجح إن لم تقل الأولى كالأجسام ، وهي المراد بالبدعة متى أطلقت ، وإن كانت في الأصل تطلق على المحرمة وغيرها ، فهي المراد بالحديث الذي خرجه ابن ماجه وابن أبي عاصم في السنة والديلمي عن ابن عباس أبى الله أن يقبل عمل صاحب بدعة حتى يدع بدعته لإيراده في حيز التحذير منها والذم لها والتوبيخ عليها ، فنفي قبول العمل بمعنى إبطاله ورده إن كانت البدعة مكفرة له ، وبمعنى نفي الثواب إن كانت لا تكفره مثل ما ورد أن الشخص إذا لبس ثوبا بدراهم منها درهم حرام ، وصلى فيه لم تقبل صلاته أي لم يثب عليها ، والمشتبهات تعرض على أصول الشرع فإن وافقت الواجب كانت [ ص: 221 ] واجبة أو المندوب كانت مندوبة أو المكروه كانت مكروهة أو المباح كانت مباحة ، وبالجملة فتقسيم البدعة مع السنة على نحو تقسيم النحويين حرف الجر الأصلي مع الزائد إلى ثلاثة أقسام : أصلي ، وهو ما دل على معنى خاص واحتاج لمتعلق يتعلق به وزائد ، وهو ما لا يدل على معنى خاص ، ولا يحتاج لمتعلق وشبيه بهما ، وهو ما دل على معنى خاص ، ولم يحتج لمتعلق فكما انقسم حرف الجر إلى هذه الثلاثة كذلك البدعة مع السنة تنقسم على هذه الطريقة إلى ثلاثة : سنة ، وهي ما فعل في الصدر الأول ، وشهد له أصل من أصول الشرع ، وبدعة ، وهو ما لم يفعل في الصدر الأول ، ولم يشهد له الأصل .

ومشتبهات ، وهو ما لم يفعل في الصدر الأول وشهد له الأصل وتوضيح الفرق بين القاعدتين المذكورتين على هذه الطريقة أن ما يحرم وينهى عنه من البدع هو المراد بالبدعة القبيحة في كلام النووي الصادقة على المحرمة وعلى المكروهة وأن ما لا ينهى عنه منها هو المراد بالبدعة الحسنة الصادقة على الواجبة والمندوبة والمباحة وقول الأصل : والأصحاب - فيما رأيت - متفقون على إنكار البدع إلخ هو طريقة نفي التفصيل في البدع ، وأنها لا تكون واجبة ، ولا مندوبة ، ولا مباحة بل إنما تكون قبيحة منهيا عنها فالكلام عليها من جهتين

( الجهة الأولى ) أن أمثلة البدع الواجبة والمندوبة والمباحة التي ذكرها القرافي وشيخه ابن عبد السلام لا تخرج عن كونها مما له أصل في الدين ، ومن المصالح المرسلة ، وعن كونها من العاديات ، وما كان مما له أصل في الدين ، ومن المصالح المرسلة لا يعد من البدع ؛ لأن خاصة البدعة أنها خارجة عما رسمه الشارع ؛ إذ هي طريقة في الدين ابتدعت على غير مثال تقدمها تضاهي الشريعة يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد فانفصلت بهذا القيد عن كل ما ظهر لبادئ الرأي أنه مخترع مما هو متعلق بالدين كعلم النحو والتصريف ومفردات اللغة وأصول الفقه وسائر العلوم الخادمة للشريعة فإنها .

وإن لم توجد في الزمان الأول فأصولها موجودة في الشرع ؛ إذ الأمر بإعراب القرآن منقول ، وعلوم اللسان هادية للصواب في الكتاب والسنة فحقيقتها إذا أنها فقه التعبد بالألفاظ الشرعية الدالة على معانيها كيف تؤخذ وتؤدى ، وأصول الفقه إنما معناها استقراء كليات الأدلة حتى تكون عند المجتهد نصب عين ، وعند الطالب سهلة الملتمس ، وكذلك أصول الدين ، وهو علم الكلام إنما حاصله تقرير لأدلة القرآن والسنة أو ما ينشأ عنها في التوحيد وما يتعلق به كما كان الفقه تقرير الأدلة في الفروع العبادية ، وتصنيفها على ذلك الوجه ، وإن كان مخترعا إلا أن له أصلا في الشرع ففي الحديث ما يدل عليه ولو سلم أنه ليس في ذلك دليل على الخصوص فالشرع بجملته يدل على اعتباره ، وهو مستمد من قاعدة المصالح المرسلة .

وقد تقدم بسطها فعلى القول بإثباتها أصلا شرعيا لا إشكال في أن كل علم خادم للشريعة داخل تحت أدلتها التي ليست بمأخوذة من جزء واحد فليست ببدعة ألبتة وعلى القول بنفيها لا بد أن تكون تلك العلوم مبتدعات ، وإذا دخلت في علم البدع كانت قبيحة ؛ لأن كل بدعة ضلالة من غير إشكال كما يأتي بيانه إن شاء الله - تعالى ، ويلزم من ذلك أن يكون كتب المصحف ، وجمع القرآن قبيحا ، وهو باطل بالإجماع ، فليس إذا ببدعة ويلزم أن يكون له دليل شرعي وليس إلا هذا النوع من الاستدلال ، وهو المأخوذ من جملة الشريعة ، وإذا ثبت جزء في المصالح المرسلة ثبت مطلق المصالح المرسلة فعلى هذا لا ينبغي أن يسمى علم النحو أو غيره من علوم اللسان ، أو علم الأصول أو ما أشبه ذلك من العلوم الخادمة للشريعة بدعة أصلا [ ص: 222 ]

ومن سماه بدعة فإما على المجاز كما سمى عمر بن الخطاب رضي الله عنه قيام الناس في ليالي رمضان بدعة ، وإما جهلا بمواقع السنة والبدعة فلا يكون قول من قال ذلك معتدا به ، ولا معتمدا عليه ، وأما ما كان من العاديات كإقامة صور الأئمة وولاة الأمور والقضاة واتخاذ المناخل وغسل اليدين بالأشنان ولبس الطيالس وتوسيع الأكمام وأشباه ذلك من الأمور العادية التي لم تكن في الزمن الفاضل والسلف الصالح فالتمثيل بها لمندوبات البدع ومباحاتها ، وكذا بالمكوس والمحدثات من المظالم .

وتقديم الجهال على العلماء في الولايات العلمية ، وتولية المناصب الشريفة من ليس لها بأهل بطريق الوراثة لمحرمات البدع مبني على إحدى الطريقتين في العاديات ، وهي التي مال إليها القرافي وشيخه ابن عبد السلام وذهب إليها بعض السلف كمحمد بن أسلم من أن المخترعات منها تلحق بالبدع ، وتصير كالعبادات المخترعة الجارية في الأمة لوجوه ثلاثة

( الوجه الأول ) : أنها أمور جرت في الناس وكثر العمل بها وشاعت وذاعت

( والوجه الثاني ) : أنه لا فرق بينها وبين العبادات ؛ إذ الأمور المشروعة تارة تكون عبادية ، وتارة تكون عادية فكلاهما مشروع من قبل الشارع فكما تقع المخالفة بالابتداع في أحدهما تقع في الآخر

( الوجه الثالث ) : أن الشرع جاء بالوعد بأشياء تكون في آخر الزمان هي خارجة عن سنته فتدخل فيما تقدم تمثيله ؛ لأنها من جنس واحد ففي الصحيح عن عبد الله رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { إنكم سترون بعدي أثرة وأمورا تنكرونها قال فما تأمرنا يا رسول الله قال أدوا إليهم حقهم وسلوا حقكم } وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال { من كره من أمره شيئا فليصبر عليه فإنه من فارق الجماعة شبرا فمات مات ميتة جاهلية } وفي الصحيح أيضا { إذا أسند الأمر إلى غير أهله فانتظروا الساعة } وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال { يتقارب الزمان ويقبض العلم ويلقى ويظهر الجهل وتظهر الفتن ويكثر الهرج قال يا رسول الله أيما هو قال القتل القتل } وعن أبي موسى رضي الله عنه قال قال النبي صلى الله عليه وسلم { إن بين يدي لأياما ينزل فيها الجهل ويرتفع فيها العلم ويكثر فيها الهرج } والهرج القتل وعن حذيفة رضي الله عنه قال : { حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر حدثنا أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال ثم علموا من القرآن ثم علموا من السنة ، وحدثنا عن رفعها ثم قال ينام النومة فتقبض الأمانة من قلبه فيظل أثرها مثل الوكت ثم ينام النومة فتقبض فيبقى أثرها مثل أثر المجل كجمر دحرجته على رجلك فنفط فتراه منتبرا ، وليس فيه شيء ، ويصبح الناس يتبايعون . ولا يكاد أحد يؤدي الأمانة ، فيقال : إن في بني فلان رجلا أمينا ، ويقال للرجل ما أعقله وما أظرفه وما أجلده ، وما في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان } الحديث وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { لا تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان عظيمتان يكون بينهما مقتلة عظيمة دعواهما واحدة ، وحتى يبعث دجالون كذابون قريب من ثلاثين كلهم زعم أنه رسول وحتى يقبض العلم ثم قال وحتى يتطاول الناس في البنيان } إلى آخر الحديث ، وعن عبد الله رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { تخرج في آخر الزمان أحداث الأسنان سفهاء الأحلام يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم يقولون من قول خير البرية يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية } ، ومن حديث أبي هريرة رضي الله عنه [ ص: 223 ] أنه عليه السلام قال { بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا فيبيع دينه بعرض الدنيا } وفسر ذلك الحسن قال يصبح محرما لدم أخيه وعرضه وماله ويمسي مستحلا له كأنه تأوله على الحديث الآخر { لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض } والله أعلم .

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { إن من أشراط الساعة أن يرفع العلم ويظهر الجهل ويفشو الزنا ويشرب الخمر ويكثر النساء ويقل الرجال حتى يكون لخمسين امرأة قيم واحد } .

ومن غريب حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { : إذا فعلت أمتي خمس عشرة خصلة حل بها البلاء قيل : وما هي يا رسول الله قال إذا صار المغنم دولا ، والأمانة مغنما والزكاة مغرما ، وأطاع الرجل زوجه ، وعق أمه ، وبر صديقه وجفا أباه وارتفعت الأصوات في المساجد ، وكان زعيم القوم أرذلهم وأكرم الرجل مخافة شره ، وشربت الخمور ولبس الحرير واتخذت القيان والمعازف ، ولعن آخر هذه الأمة أولها فليرتقبوا عند ذلك ريحا حمراء وزلزلة وخسفا أو مسخا وقذفا } .

وفي الباب عن أبي هريرة رضي الله عنه قريب هذا وفيه { ساد القبيلة فاسقهم ، وكان زعيم القوم أرذلهم وفيه وظهرت القيان والمعازف ، وفي آخره فليرتقبوا عند ذلك ريحا حمراء وزلزلة وخسفا وآيات تتابع كنظام بال قطع سلكه فتتابع } .

فهذه الأحاديث وأمثالها مما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم أنه يكون في هذه الأمة بعده إنما هو في الحقيقة تبديل الأعمال التي كانوا أحق بالعمل بها فلما عوضوا منها غيرها وفشا فيها كأنه من المعمول به تشريعا كان من جملة الحوادث الطارئة على نحو ما بين في العبادات .

حاشية ابن حسين المكي المالكي

( والطريقة الثانية ) وعليها الأكثرون أن العاديات إن كانت كالبيع والنكاح والشراء والطلاق والإجارات والجنايات مما لا بد فيها من التعبدات لكونها مقيدة بأمور شرعية لا خيرة للمكلف فيها كانت اقتضاء أو تخييرا فإن التخيير في التعبدات إلزام كما أن الاقتضاء إلزام حسبما تقر ، وبرهانه في كتاب الموافقات صح دخول الابتداع فيها كالعبادات .

وإلا فلا وهذه هي النكتة التي يدور عليها حكم الباب ويتبين ذلك بالأمثلة فما أتى به القرافي مثالا للبدعة المحرمة من وضع المكوس في معاملات الناس لا يخلو إما أن يكون على قصد حجر التصرفات وقتا ما أو في حالة ما لنيل حطام الدنيا على هيئة غصب الغاصب وسرقة السارق وقطع القاطع للطريق وما أشبه ذلك أو يكون على قصد وضعه على الناس كالدين الموضوع والأمر المحتوم عليهم دائما أو في أوقات محدودة على كيفيات مضروبة بحيث تضاهي المشروع الدائم الذي يحمل عليه العامة ويؤخذون به وتوجه على الممتنع منه العقوبة كما في أخذ زكاة المواشي والحرث وما أشبه ذلك فمن الفرض الثاني يصير تشريعا زائدا وبدعة بلا شك ، ويصير للمكوس على هذا الفرض نظران نظر من جهة كونها محرمة على الفاعل أن يفعلها كسائر أنواع الظلم ، ونظر من جهة كونها اختراعا لتشريع يؤخذ به الناس إلى الموت كما يؤخذون بسائر التكاليف فاجتمع فيها نهيان نهي عن المعصية ، ونهي عن البدعة ، ومن الفرض الأول إنما يوجد بها النهي من جهة كونها تشريعا موضوعا على الناس أمر وجوب أو ندب ؛ إذ ليس فيها جهة أخرى يكون بها معصية بل نفس التشريع هو نفس الممنوع ، وكذلك تقديم الجهال على العلماء وتولية المناصب الشريفة من لا يصلح لها بطريق التوريث فإن جعل الجاهل في موضع العالم حتى يصير مفتيا في الدين ومعمولا بقوله في الأموال والدماء والأبضاع وغيرها [ ص: 224 ] محرم في الدين فقط .

وأما كون ذلك يتخذ ديدنا حتى يصير الابن مستحقا لرتبة الأب .

وإن لم يبلغ رتبة الأب في ذلك المنصب بطريق الوراثة أو غير ذلك بحيث يشيع هذا العمل ويطرد ويرده الناس كالشرع الذي لا يخالف بأن يعبروا عنه كما يعبر عن القاعدة الشرعية الكلية من مات عن شيء فنصيبه لولده ففيه جهتان جهة كونه بدعة بلا إشكال ، وجهة كونه قولا بالرأي غير الجاري على العلم هو الذي بينه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله { حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا } وإنما ضلوا وأضلوا ؛ لأنهم أفتوا بالرأي ؛ إذ ليس عندهم علم ، وهو بدعة أو سبب البدعة ، وما أتى به القرافي مثلا للبدعة المندوبة من إقامة صور الأئمة والقضاة وولاة الأمر على خلاف ما كان عليه السلف فإن البدعة لا تتصور فيه إلا بما فيه بعد جدا من تكلف فرض أن يعتقد في ذلك العمل أنه مما يطلب به الأئمة على الخصوص تشريعا خارجا عن قبيل المصالح المرسلة بحيث يعد من الدين الذي يدين به هؤلاء المطلوبون به ، أو يكون ذلك مما يعد خاصا بالأئمة دون غيرهم كما يزعم بعضهم أن خاتم الذهب جائز لذوي السلطان ، أو يقول : إن الحرير جائز لهم لبسه دون غيرهم .

وهذا أقرب من الأول في تصور البدعة في حق هذا القسم ويشبهه على قرب زخرفة المساجد ؛ إذ كثير من الناس يعتقد أنها من قبيل ترفيع بيوت الله ، وكذلك تعليق الثريات الخطيرة الأثمان حتى يعد الإنفاق في ذلك إنفاقا في سبيل الله ، وكذلك إذا اعتقد في زخارف الملوك .

وإقامة صورهم أنها من جملة ترفيع الإسلام وإظهار معالمه وشعائره أو قصد ذلك في فعله أو لا أنه ترفيع للإسلام لما لم يأذن الله به .

وما حكاه القرافي عن معاوية ليس من قبيل هذه الزخارف بل من قبيل المعتاد في اللباس والاحتياط في الحجاب مخافة من انخراق خرق يتسع فلا يرقع هذا إن صح ما قال ، وإلا فلا يعول على نقل المؤرخين ومن لا يعتبر من المؤلفين وأحرى في أن ينبني عليه حكم ، وما أتى به القرافي مثالا للبدعة المباحة من اتخاذ المناخل للدقيق فالمعتاد فيه أن لا يلحقه أحد بالدين ، ولا بتدبير الدنيا بحيث لا ينفك عنه كالتشريع فلا نطول به ، وعلى ذلك الترتيب ينظر فيما قاله ابن عبد السلام من غير فرق فتبين مجال البدعة في العاديات من مجال غيرها وقد يقصد بالسلوك المبالغة في التعبد لله - تعالى - في تعريف البدعة المتقدم ظاهر المعنى على طريقة الأكثرين في العاديات وأما على طريقة القرافي وشيخه وبعض السلف فيها فمعناه أن الشريعة إنما جاءت لمصالح العباد في عاجلتهم وآجلتهم لتأتيهم في الدارين على أكمل وجوهها فهو الذي يقصده المبتدع ببدعته ؛ لأن البدعة إما أن تتعلق بالعادات أو العبادات فإن تعلقت بالعبادات فإنما أراد بها أن يأتي تعبده على أبلغ ما يكون في زعمه ليفوز بأتم المراتب في الآخرة في ظنه ، وإن تعلقت بالعادات فكذلك ؛ لأنه إنما وضعها لتأتي أمور دنياه على تمام المصلحة فيها فمن يجعل المناخل في قسم البدع فظاهر أن التمتع عنده بلذة الدقيق المنخول أتم منه بغير المنخول .

وكذلك البناءات المشيدة التمتع بها أبلغ منه بالحشوش والخرب ومثله المصادرات في الأموال بالنسبة إلى أولي الأمر .

وقد أباحت الشريعة التوسع في التصرفات فيعد المبتدع هذا من ذلك ( الجهة الثانية ) : أن البدع على أنها إنما تكون قبيحة منهيا عنها هل لها حكم واحد أم متعدد طريقتان ذهب بعضهم إلى الأولى ، وأنها لا تكون إلا كبائر وأيدها بأن الصغيرة فضلا عن الكراهة وإن ظهرت في المعاصي [ ص: 225 ] غير البدع لا تظهر في البدع وذلك ؛ لأن البدع ثبت لها أمران

( أحدهما ) أنها مضادة للشارع ومراغمة له حيث نصب المبتدع نفسه نصب المستدرك على الشريعة لا نصب المكتفي بما حد له

( والثاني ) : أن كل بدعة - وإن قلت - تشريع زائد أو ناقص أو تغيير للأصل الصحيح ، وكل ذلك قد يكون على الانفراد ، وقد يكون ملحقا بما هو مشروع فيكون قادحا في المشروع ، ولو فعل أحد مثل هذا في نفس الشريعة عدا الكفر ؛ إذ الزيادة والنقصان فيها أو التغيير قل أو كثر كفر فلا فرق بين ما قل منه ، وما كثر فمن فعل مثل ذلك بتأويل فاسد أو برأي غالط رآه وألحقه بالمشروع ، فإذا لم نكفره لم يكن في حكمه فرق بين ما قل منه وما كثر ؛ لأن الجميع لا تحملها الشريعة لا بقليل ، ولا بكثير لا سيما .

وعموم الأدلة في ذم البدع من غير استثناء ، وكلام السلف يدل على عموم الذم فيها فالأقرب أن يقال : كل بدعة كبيرة عظيمة بالإضافة إلى مجاوزة حدود الله بالتشريع إلا أنها .

وإن عظمت لما ذكرناه تتفاوت رتبها إذا نسب بعضها إلى بعض فيكون منها صغار وكبار أما باعتبار أن بعضها أشد عقابا من بعض فالأشد عقابا أكبر مما دونه .

وأما باعتبار فوت المطلوب في المفسدة فكما انقسمت الطاعة باتباع السنة إلى الفاضل والأفضل لانقسام مصالحها إلى الكامل والأكمل انقسمت البدع لانقسام مفاسدها إلى الرذل والأرذل إلى الصغر والكبر من باب النسب والإضافات فقد يكون الشيء كبيرا في نفسه لكنه صغير بالنسبة لما هو أكبر منه فلا ينظر إلى خفة الأمر في البدعة بالنسبة إلى صورتها ، وإن دقت بل ينظر إلى مصادمتها للشريعة ورميها لها بالنقص والاستدراك وأنها لم تكمل بعد حتى يوضع فيها بخلاف سائر المعاصي فإنها لا تعود على الشريعة بتنقيص ، ولا غض من جانبها بل صاحب المعصية يتنصل منها مقرا لله بمخالفته لحكمها فحاصل المعصية أنها مخالفة في فعل المكلف لما يعتقد صحته من الشريعة وحاصل البدعة مخالفة في اعتقاد كمال الشريعة ولذلك قال مالك بن أنس من أحدث في هذه الأمة شيئا لم يكن عليه سلفها فقد زعم أن رسول الله خان الرسالة ؛ لأن الله يقول { اليوم أكملت لكم دينكم } إلى آخر الحكاية ومثلها جوابه لمن أراد أن يحرم من المدينة .

وقال : أي فتنة فيها إنما هي أميال أزيدها ، فقال : وأي فتنة أعظم من أن تظن أنك فعلت فعلا قصر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى آخر الحكاية فإذا لا يصح أن يكون في البدع ما هو صغيرة بل صار اعتقاد الصغائر فيها يكاد يكون من المتشابهات كما صار اعتقاد نفي الكراهية التنزيه عنها من الواضحات ، وإلى الطريقة الثانية أعني تعدد حكم البدع مال الإمام أبو إسحاق الشاطبي فقال في كتابه الاعتصام : إن البدع .

وإن ورد النهي عنها على وجه واحد ونسبته إلى الضلالة واحدة في قوله صلى الله عليه وسلم { إياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار } ، وهو عام في كل بدعة إلا أنه لا يصح أن يقال : إنها على حكم واحد هو التحريم فقط ، أو الكراهة فقط لوجوه

( الوجه الأول ) : أنها داخلة تحت جنس المنهيات ، وهي لا تعد والكراهة والتحريم فالبدع كذلك

( والوجه الثاني ) أن البدع إذا تؤمل معقولها وجدت متفاوتة فمنها ما هو كفر صراح كبدعة الجاهلية التي نبه عليها القرآن بنحو قوله تعالى { وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا } الآية وقوله تعالى { وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا وإن [ ص: 226 ] يكن ميتة فهم فيه شركاء } وقوله تعالى { ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام } وكذلك بدعة المنافقين حيث اتخذوا الدين ذريعة لحفظ النفس والمال وما أشبه ذلك مما لا يشك أنه كفر صراح .

ومنها ما هو من المعاصي التي ليست بكفر أو يختلف هل هي كفر أم لا كبدعة الخوارج والقدرية والمرجئة ومن أشبههم من الفرق الضالة ، ومنها ما هو معصية ويتفق على أنها ليست بكفر كبدعة التبتل والصيام قائما في الشمس والخصاء بقصد قطع شهوة النكاح والجماع ، ومنها ما هو مكروه كما يقول مالك في إتباع رمضان بست من شوال وقراءة القرآن بالإدارة والاجتماع للدعاء عشية عرفة وذكر السلاطين في خطبة الجمعة على ما قاله ابن عبد السلام والشافعي وما أشبه ذلك

( والوجه الثالث ) : أن المعاصي منها صغائر ، ومنها كبائر ، ويعرف ذلك بكونها واقعة في الضروريات أو الحاجيات أو التكميليات فإن ما كانت في الضروريات أعظم الكبائر ، وما كانت في التحسينات فأدنى رتبة بلا إشكال ، وما وقعت في الحاجيات فمتوسطة بين الرتبتين ثم إن كل رتبة من هذه الرتب لها مكمل ولا يمكن أن يكون في رتبة المكمل فإن المكمل مع المكمل في نسبة الوسيلة مع المقصد ، ولا تبلغ الوسيلة رتبة المقصد ، وأيضا الضروريات إذا تؤملت وجدت على مراتب في التأكيد وعدمه فإن مرتبة النفس ليست كمرتبة الدين ألا ترى أن الكفر مبيح للدم وأن المحافظة على الدين تبيح تعريض النفس للقتل والإتلاف في الأمر بمجاهدة الكفار والمارقين عن الدين ، ومرتبة العقل والمال ليست كمرتبة النفس ألا ترى أن قتل النفس مبيح للقصاص ، فالقتل بخلاف العقل والمال وكذلك سائر ما بقي ، وإذا نظرت في مرتبة النفس وجدتها متباينة المراتب ألا ترى أن قطع العضو ليس كالذبح ، وأن الخدش ليس كقطع العضو .

وهذا كله محل بيانه الأصول فقد ظهر تفاوت رتب المعاصي والبدع من جملة المعاصي فيتصور فيها التفاوت أيضا فمنها ما يقع في الضروريات إخلالا بها ومنها ما يقع في الحاجيات إخلالا بها ومنها ما يقع في التحسينات إخلالا بها وما يقع في رتبة الضروريات ، ومنه ما يقع في الدين كما تقدم في اختراع الكفار وتغييرهم ملة إبراهيم عليه السلام ومنه ما يقع في النفس كنحل الهند في تعذيبها أنفسها بأنواع العذاب الشنيع والتمثيل الفظيع والقتل بالأصناف التي تفزع منها القلوب وتقشعر منها الجلود كل ذلك على جهة استعجال الموت لنيل الدرجات العلى في زعمهم والفوز بالنعيم الأكمل بعد الخروج عن هذه الدار العاجلة ، ومبني على أصول لهم فاسدة اعتقدوها وبنوا عليها أعمالهم ، ومنه ما يقع في النسل كما في أنكحة الجاهلية التي لا عهد بها في شريعة إبراهيم عليه السلام ، ولا غيره بل كانت من جملة ما اخترعوا وابتدعوا وهي أنواع منها نكاح الاستبضاع ، وهو أن يقول الرجل لامرأته : إذا طهرت من طمثها أرسلي إلى فلان فاستبضعي منه ، ويعتزلها زوجها ، ولا يمسها أبدا حتى يتبين حملها من ذلك الرجل الذي يستبضع منه ، فإذا تبين حملها أصابها زوجها إذا أحب ، وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الولد ، ومنه ما يقع في العقل كزعم بعض الفرق أن العقل له مجال في التشريع ، وأنه محسن ومقبح فابتدعوا في دين الله ما ليس فيه ، ومنه ما يقع في المال كاحتجاج الكفار على استحلال العمل بالربا بقياس فاسد كذبهم الله تعالى فيه ورده عليهم بقوله تعالى { ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا }

[ ص: 227 ] قال : وأما ما تقدم في توجيه طريقة اتحاد حكم البدع فجوابه أنه لا يظهر إلا في حق من يكون عالما بكونها بدعة ويقر بالخلاف للسنة بحتا أما في حق من ليس كذلك فلا ، وشأن كل من حكمنا له بحكم أهل الإسلام أن لا يقر بالخلاف للسنة بحتا بل يكون غير عالم بأن ما عمله بدعة ؛ إذ لا يرضى منتم إلى الإسلام بإبداء صفحة الخلاف للسنة أصلا ؛ لأنه مصادم للشارع مراغم للشرع بالزيادة فيه والنقصان منه والتحريف له فلا بد له من تأويل فإن كان مجتهدا ففي استنباطها وتشريعها كقوله : هي بدعة ، ولكنها مستحسنة وكفعله لها مقرا بكونها بدعة لأجل حظ عاجل كفاعل الذنب لقضاء حظه العاجل خوفا على حظه أو فرارا من خوف على حظه أو فرارا من الاعتراض عليه في اتباع السنة كما هو الشأن اليوم في كثير ممن يشار إليه ، وما أشبه ذلك ، وإن كان مقلدا ففي تقليده كقوله : إنها بدعة ، ولكنني رأيت فلانا الفاضل يعمل بها ، وإذا كان كذلك فقول مالك : من أحدث في هذه الأمة شيئا لم يكن عليه سلفها فقد زعم أن النبي صلى الله عليه وسلم خان الرسالة وقوله : لمن أراد أن يحرم من المدينة أي فتنة أعظم من أن تظن أنك سبقت إلى فضيلة قصر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى آخر الحكاية أنها إلزام للخصم على عادة أهل النظر كأنه يقول : يلزمك في هذا القول كذا لا أنه يقول : قصدت إليه قصدا ؛ لأنه لا يقصد إلى ذلك مسلم ولازم المذهب وإن اختلف الأصوليون فيه هل هو مذهب أم لا إلا أن شيوخنا البجائيين والمغربيين كانوا يقولون : إن لازم المذهب ليس بمذهب ، ويروى أنه رأي المحققين أيضا ؛ فلذلك إذا قرر على الخصم أنكره غاية الإنكار فاعتبار ذلك المعنى على التحقيق لا ينهض إذا ، وعند ذلك تستوي البدعة مع المعصية .

حاشية ابن حسين المكي المالكي

فكما تنقسم المعصية إلى صغائر وكبائر كذلك تنقسم البدع إلى صغائر وكبائر نعم لا تكون البدعة صغيرة إلا بشروط

( أحدها ) : أن لا يداوم عليها كما أن الصغيرة من المعاصي كذلك ؛ فلذلك قالوا : لا صغيرة مع إصرار ، ولا كبيرة مع استغفار إلا أن المعاصي من شأنها في الواقع أنها قد يصر عليها ، وقد لا يصر عليها وعلى ذلك ينبني طرح الشهادة ، وسخطة الشاهد بها ، وعدمه بخلاف البدعة فإن شأنها في الواقع المداومة والحرص على أن لا تزول من موضعها ، وأن تقوم على تاركها القيامة وتنطلق عليه ألسنة الملامة ويرمى بالتسفيه والتجهيل وينبز بالتبديع والتضليل ضد ما كان عليه سلف هذه الأمة ، والمقتدى بهم من الأئمة ، ودليل ذلك أولا الاعتبار ، فإن أهل البدع كان من شأنهم القيام بالنكير على أهل السنة إن كان لهم عصبة أو لصقوا بسلطان تجري أحكامه في الناس ، وتنفذ أوامره في الأقطار ، ومن طالع سير المتقدمين وجد من ذلك ما لا يخفى

وثانيا : النقل فقد ذكر السلف أن البدعة إذا أحدثت لا تزيد إلا مضيا ، والمعاصي ليست كذلك فقد يتوب صاحبها وينيب إلى الله - تعالى - بل قد جاء ما يشد ذلك في حديث الفرق ففي بعض الروايات تتجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب لصاحبه ، ومن هنا جزم السلف بأن المبتدع لا توبة له منها

( والشرط الثاني ) : أن لا يدعو إليها فإن البدعة قد تكون صغيرة بالإضافة ثم يدعو مبتدعها إلى القول بها والعمل على مقتضاها فيكون إثم ذلك كله عليه فإنه الذي أثارها ، وسبب كثرة وقوعها والعمل بها فقد ثبت الحديث الصحيح أن كل { من سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها } لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئا ، والصغيرة إنما تفاوت الكبيرة بحسب كثرة الإثم وقلته فربما تساوي الصغيرة من هذا الوجه الكبيرة أو تربى عنها

( والشرط الثالث ) أن لا تفعل في المواضع التي هي مجتمعات الناس ، أو المواضع التي تقام فيها السنن ، وتظهر فيها أعلام الشريعة فأما إظهارها في المجتمعات ممن يقتدى [ ص: 228 ] به أو ممن يحسن الظن به فذلك من أضر الأشياء على سنة الإسلام فإنها لا تعدو أمرين : إما أن يقتدى بصاحبها فيها فإن العوام أتباع كل ناعق لا سيما البدع التي وكل الشيطان بتحسينها للناس ، والتي للنفوس في تحسينها هوى ، وعلى حسب كثرة الإتباع يعظم عليه الوزر كما تقدم ، وأما اتخاذها في المواضع التي تقام فيها السنن فهو كالدعاء إليها بالتصريح ؛ لأن عمل إظهار الشرائع الإسلامية توهم أن كل ما ظهر فيها فهو من الشعائر فكان المظهر لها يقول : هذه سنة فاتبعوها

( والشرط الرابع ) أن لا يستصغرها ، ولا يستحقرها فإن ذلك ، وإن فرضناها صغيرة استهانة بها ، والاستهانة بالذنب أعظم من الذنب ، فكان ذلك سببا لعظم ما هو صغير ، وكذلك معنى البدع المكروهة أنها أدنى رتبة في الذم من رتبة الصغيرة ، وليس معناها التنزيه الذي هو نفي إثم فاعلها ، ورفع الحرج عنه ألبتة ؛ لأن هذا مما لا يكاد يوجد عليه دليل من الشرع ، ولا من كلام الأئمة على الخصوص أما الشرع ففيه ما يدل على خلاف ذلك ؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قال من قال : أما أنا فأقوم الليل ، ولا أنام ، وقال الآخر : أما أنا فلا أنكح النساء إلى آخر ما قالوا رد عليهم عليه السلام ذلك ، وقال { من رغب عن سنتي فليس مني } وهذه العبارات أشد شيء في الإنكار مع أن ما التزموا لم يكن إلا فعل مندوب آخر ، وكذلك ما في الحديث { أنه عليه السلام رأى رجلا قائما في الشمس فقال : ما بال هذا ؟ قالوا : نذر أن لا يستظل ، ولا يتكلم ، ولا يجلس ، ويصوم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مره فليجلس وليتكلم وليستظل وليتم صومه } قال مالك : أمره أن يتم ما كان لله عليه فيه طاعة ، ويترك ما كان عليه فيه معصية فتأمل كيف جعل مالك القيام للشمس وترك الكلام والجلوس معاصي حتى فسر بها الحديث المشهور مع أنها في أنفسها أشياء مباحات لكنه لما أجراها مجرى ما يتشرع به ، ويدان لله به صارت عند مالك معاصي لله وكلية قوله : { كل بدعة ضلالة } شاهدة لهذا المعنى والجميع يقتضي التأثيم والتهديد والوعيد .

وهي خاصية المحرم ، قال : وأما كلام العلماء فإنهم ، وإن أطلقوا الكراهية في الأمور المنهي عنها لا يعنون بها كراهية التنزيه فقط ، وإنما هو اصطلاح للمتأخرين حين أرادوا أن يفرقوا بين القبيلين فيطلقون لفظ الكراهية على كراهية التنزيه فقط ويخصون كراهية التحريم بلفظ التحريم والمنع وأشباه ذلك ، وأما المتقدمون من السلف فإنهم لم يكن من شأنهم فيما لا نص فيه صريحا أن يقولوا : هذا حلال وهذا حرام ، ويتحامون هذه العبارة خوفا مما في الآية من قوله تعالى { ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب } وحكى مالك عمن تقدمه هذا المعنى ، فإذا وجدت في كلامهم في البدعة أو غيرها أكره هذا ، ولا أحب هذا وهذا مكروه وما أشبه ذلك فلا تقطعن على أنهم يريدون التنزيه فقط فإنه إذا دل الدليل في جميع البدع على أنها ضلالة فمن يعد فيها ما هو مكروه كراهية التنزيه اللهم إلا أن يطلقوا لفظ الكراهية على ما يكون له أصل في الشرع ، ولكن يعارضه أمر آخر معتبر في الشرع فيكره لأجله لا ؛ لأنه بدعة مكروهة على تفصيل يذكر في موضعه . ا هـ . محل الحاجة من كلام الشاطبي في الاعتصام قلت : وحاصل طريقتي عدم التفصيل في البدع أنها على الأولى لا تكون إلا كبائر .

وإن تفاوتت أفرادها بكثرة العقاب وعدم كثرته وأنها على الثانية تكون كبائر أو صغائر أو مكروهة إلا أن صغائرها وإن كانت كصغائر غيرها من المعاصي [ ص: 229 ] لا يتحقق صغرها إلا بالشروط الأربعة المتقدمة لكن تحقق الشروط في صغائرها بعيد جدا ومكروهها ليس معناه التنزيه وعدم العقاب بل معناه أن عقابه أقل من عقاب الصغيرة فافهم ، والذي يتحصل من جميع ما ذكر أن طريقة أصحاب مالك المتقدمين على الأصل ، واختارها الشاطبي وبنى عليها كتابه الاعتصام من أن البدع لا تكون إلا قبيحة منهيا عنها مبنية على أمور ثلاثة : الأول أن البدعة حقيقة فيما لم يفعل في الصدر الأول ولم يكن له أصل من أصول الشرع ، ومجاز في غير ذلك

الأمر الثاني أن جميع ما ورد في ذم البدع من نحو قوله صلى الله عليه وسلم { كل بدعة ضلالة } باق على عمومه

الأمر الثالث : القول بأن البدع لا تدخل إلا في العاديات التي لا بد فيها من التعبد ، وأن طريقة انقسام البدع إلى قبيحة وحسنة والقبيحة إلى حرام واصل إلى حد الكفر أو إلى حد الكبيرة أولا وإلى مكروه تنزيها والحسنة إلى واجبة ومندوبة ومباحة التي اختاره الأصل وابن الشاط ومحمد الزرقاني بل جرى عليها عمل أصحاب مالك المتأخرين كالزقاق وغيره وبنى عليها الأصل الفرق بين القاعدتين المذكورتين وإليها ذهب الإمام النووي والإمام ابن عبد السلام شيخ الشيخ القرافي وغير واحد من أصحاب الشافعي مبنية على ثلاثة أمور أيضا :

الأول : أن البدعة حقيقة فيما لم يفعل في الصدر الأول كان له أصل من أصول الشرع أم لا

الأمر الثاني : أن جميع ما ورد في البدع من نحو قوله صلى الله عليه وسلم { كل بدعة ضلالة } عام مخصوص

الأمر الثالث : القول بأن جميع المخترعات من العاديات ، ولو لم يلحقها شائبة تعبد تلحق بالبدع وتصير كالعبادات المخترعة والله - سبحانه وتعالى - أعلم

التالي السابق


الخدمات العلمية