صفحة جزء
( الفرق الخامس والعشرون بين قاعدة ثبوت الحكم في المشترك وبين قاعدة النهي عن المشترك ) هذا الفرق جليل عظيم دقيق النظر خطير النفع لا يحققه إلا فحول العلماء والفقهاء فاستقبله بعقل سليم وفكر مستقيم وذلك أن الأمر المشترك هو الحقيقة الكلية الموجودة في أفراد عديدة كالرقبة بالنسبة [ ص: 152 ] إلى أفراد الرقاب والحيوان بالنسبة إلى جميع الحيوانات ومطلق الإنسان بالنسبة إلى أشخاصه وكل مطلق فهو من هذا القبيل ومدلول كل نكرة فهو حقيقة مشتركة وضابطه عند أرباب المعقول ما لا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه ومرادهم بذلك ما ذكرته وإذا عرفت حقيقته فاعلم أنه يلزم من نفي المشترك نفي جميع أفراده فإنه إذا انتفى مطلق الحيوان من الدار فقد انتفى جميع أفراده من الدار وإذا انتفى مطلق الإنسان من الدار استحال أن يكون فيها زيد ولا عمرو ولا فرد من الإنسان وهو معنى قول أرباب المعقول : يلزم من نفي الأعم نفي الأخص وإذا تصورت ذلك في النفي فتصوره في النهي فإن معنى النهي الأمر بإعدام هذه الحقيقة وأن لا ندخل في الوجود ألبتة ومقتضى ذلك أن لا يدخل فرد من أفرادها الوجود ألبتة لأنه لو دخل فرد لدخلت هي في ضمنه فصار النهي والنفي من باب واحد فيكون الأمر والثبوت من باب واحد فإن ثبوت الماهية الكلية المشتركة يكفي فيه فرد واحد فمتى كان زيد في الدار كان مطلق الإنسان في الدار ومطلق الحيوان وجميع أجناسه وفصوله تحصل مطلقا فيه .

[ ص: 153 ] وكذلك إذا أمر آمر بالحقيقة الكلية نحو الأمر بعتق رقبة أو إخراج شاة من أربعين تحقق ذلك بإعتاق عبد معين وإخراج شاة معينة لأن الماهية الكلية في ضمنه وإذا تقرر أن النهي والنفي من باب واحد والأمر والثبوت من باب واحد فاعلم أنه يصدق أن الإنسان واقع وحاصل في جنس الحيوان دون غيره من الأجناس ومع ذلك فلم يعم الإنسان جميع صور الحيوان بل نقول : زيد حاصل في جنس الحيوان ولم يتعد فردا منها ولذلك نقول : الأحكام الشرعية واقعة في الأفعال المكتسبة دون غيرها من الأجناس ومع ذلك لا تعم الأفعال المكتسبة فإن الحيوانات العجم أفعالها مكتسبة ولا حكم فيها بل نقول الوجوب وحده خاص بالأفعال المكتسبة دون غيرها وهو لم يعمها فعلمنا أن ثبوت الحكم في المشترك لا يقتضي تعميم صوره بل يكفي في ذلك فرد واحد يصدق بسببه أن ذلك الحكم في ذلك المشترك فظهر حينئذ الفرق بين ثبوت الحكم في المشترك وبين النهي عن المشترك ومنه نفي المشترك .


حاشية ابن الشاط

[ ص: 151 ] قال : ( الفرق الخامس والعشرون بين قاعدة ثبوت الحكم في المشترك وبين قاعدة النهي عن المشترك [ ص: 152 ] إلى قوله والحيوان بالنسبة إلى جميع الحيوانات ) قلت : ما قاله في ذلك صحيح .

قال : ( ومطلق الإنسان بالنسبة إلى أشخاصه وكل مطلق فهو من هذا القبيل ) قلت : إن أراد بمطلق الإنسان الحقيقة من حيث هي فقوله صحيح وإلا فلا قال : ( ومدلول كل نكرة فهو حقيقة مشتركة ) قلت : هذا الإطلاق ليس بصحيح بل الصحيح التفصيل فإن النكرة في اللسان العربي على ضربين : الأول نكرة يراد بها الحقيقة المشتركة بين الأشخاص كما في قولهم تمرة خير من جرادة وهذا الضرب قليل في الاستعمال ، الثاني نكرة يراد بها فرد مبهم من الأشخاص التي فيها الحقيقة كما في قول القائل اشتر ثوبا وهذا الضرب يكثر في الاستعمال فإن أراد الأول فمراده صحيح وإلا فلا .

قال : ( وضابطه عند أرباب المعقول ما لا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه ) قلت : ذلك صحيح في تحرير الحقيقة المشتركة قال : ( ومرادهم بذلك ما ذكرته ) .

قلت : ذلك صحيح على تقدير أن يكون مراده بالنكرة الضرب الأول لا على تقدير أن يكون مراده الضرب الثاني .

قال : ( وإذا عرفت حقيقته فاعلم أنه يلزم من نفي المشترك نفي جميع أفراده إلى قوله فصار النهي والنفي من باب واحد ) قلت : بل يراد بمطلق الحيوان حقيقة الحيوان وهو الذي يعبر عنه بالمشترك بين الأفراد وهذا الخلاف مراده بمطلق البيع قبل هذا فإنه .

قال : إنه يصح قولنا مطلق البيع حلال إجماعا ولو كان المراد بمطلق البيع ما أريد بمطلق الحيوان أي حقيقته للزم أن يكون كل بيع حلالا .

قال : ( فيكون الثبوت والأمر من باب واحد فإن ثبوت الماهية الكلية المشتركة يكفي فيه فرد واحد فمتى كان زيد في الدار كان مطلق الإنسان في الدار ومطلق الحيوان وجميع أجناسه وفصوله تحصل مطلقا فيه ) قلت : قد عاد هنا إلى استعمال مطلق الحيوان بغير المعنى الذي استعمله قبل حيث تكلم على [ ص: 153 ] النفي والنهي الذي حمله على هذا الاضطراب غفلته عن معنى المطلق وأنه في اصطلاح الأصوليين الواحد المبهم ولو تفطن له لم يضطرب قوله .

قال : ( وكذلك إذا أمر آمر بالحقيقة الكلية نحو الأمر بعتق رقبة أو إخراج شاة من أربعين تحقق ذلك باعتبار عبد معين وإخراج شاة معينة لأن الماهية الكلية في ضمنه ) قلت : الأمر بعتق رقبة ما أمر فيها قط بالحقيقة الكلية ولا يمكن الأمر بها إلا على سبيل تكليف ما لا يطاق وكيف يسوغ ذلك ومن ضرورة الحقيقة الكلية أن لا وجود لها في غير الأذهان عند محققي المثبتين لها بل أمر الآمر بعتق رقبة لشخص مبهم لا معين وضرورة فعل المكلف لما أمر به تعينه .

قال : ( وإذا تقرر أن النهي والنفي من باب واحد والأمر والثبوت من باب واحد فاعلم أنه يصدق أن الإنسان واقع وحاصل في جنس الحيوان دون غيره من الأجناس ومع ذلك فلم يعم الإنسان جميع صور الحيوان بل نقول : زيد حاصل في جنس الحيوان ولم يتعد فردا منها وكذلك نقول الأحكام الشرعية واقعة في الأفعال المكتسبة دون غيرها من الأجناس ومع ذلك لا تعم الأفعال المكتسبة فإن الحيوانات العجم أفعالها مكتسبة ولا حكم فيها بل نقول : الوجوب وحده خاص بالأفعال المكتسبة دون غيرها وهو لم يعمها فعلمنا أن ثبوت الحكم في المشترك لا يقتضي تعميم صوره بل يكفي في ذلك فرد واحد يصدق بسببه أن ذلك الحكم في ذلك المشترك فظهر حينئذ الفرق بين ثبوت الحكم في المشترك وبين النهي عن المشترك ) قلت : لو ثبت الحكم في المشترك من حيث حقيقته لما خلا عنه فرد من أفراده كالحيوان المحكوم له أو عليه من حيث هو حقيقته أنه جسم فلا بد أن يكون كل نوع من أنواعه وكل شخص من أشخاصه جسما ولكن ثبت الحكم الذي مثل به في المشترك لا من حيث حقيقته بل من حيث هو أخص من حقيقته فإن الأحكام الشرعية لم تثبت للأفعال المكتسبة من حيث هي أفعال .

[ ص: 154 ] مكتسبة فقط بل من حيث هي أفعال مكتسبة لمن يتصف بالعقل فعلى ذلك لا يصح الفرق ومتى ثبت الحكم للمشترك من حيث حقيقته عم أنواعه وأشخاصه ومتى انتفى الحكم عن المشترك من حيث حقيقته عم أيضا أنواعه وأشخاصه والله أعلم .

حاشية ابن حسين المكي المالكي

( الفرق الخامس والعشرون بين قاعدة ثبوت الحكم في المشترك وبين قاعدة النهي عن المشترك ) اعلم أن المشترك في النهي نظير المشترك في النفي فكما يلزم من نفي المشترك نفي جميع أفراده لقول أرباب المعقول يلزم من نفي الأعم نفي الأخص كذلك يلزم من النهي عن المشترك أن لا يدخل فرد من أفراده الوجود ألبتة لأنه لو دخل فرد لدخل هو في ضمنه فإن معنى النهي الأمر بإعدام هذه الحقيقة وأن لا تدخل في الوجود ألبتة وأن الأمر بإجراء حكم في المشترك نظير ثبوت الحكم فيه فكما أن الآمر أمر بعتق رقبة أو إخراج شاة من أربعين يقتضي عتق شخص مبهم وإخراج شاة مبهمة من الأربعين وإن كانت ضرورة فعل المكلف لما أمر به تعينه إذ لا يمكن الأمر بنفس الحقيقة الكلية إلا على سبيل تكليف ما لا يطاق وكيف يسوغ ذلك .

ومن ضرورة الحقيقة [ ص: 172 ] الكلية أن لا وجود لها في غير الأذهان عند محققي المثبتين لها كذلك قولك إنسان في الدار يكفي في صدقه فرد واحد مبهم فيه لأنه متى كان ذلك الفرد فيه كان مطلق الإنسان فيه ومطلق الحيوان وجميع أجناسه وفصوله تحصل مطلقا فيه فالمشترك في النهي عبارة عن الماهية المطلقة والماهية بشرط لا شيء والعام المعرف عند الأصوليين باللفظ الدال على الماهية المتحققة في جميع الأفراد من حيث تحققها في جميعها والكلي المعرف عند أرباب المعقول بما لا يمنع نفس تصوره من وقوع الشركة فيه كالرقبة بالنسبة إلى أفراد الرقاب والحيوان بالنسبة إلى جميع الحيوانات والإنسان بالنسبة إلى أشخاصه وكذلك النكرة في نحو قولهم تمرة خير من جرادة وهو القليل في استعمال النكرة والمشترك في ثبوت الحكم عبارة عن مطلق الماهية والماهية لا بشرط شيء والمطلق المعرف عند الأصوليين بالواحد المبهم كالنكرة في نحو قول القائل اشتر ثوبا يريد فردا مبهما من الأشخاص التي فيها حقيقة الثوب وهو الاستعمال الكثير في النكرة فالفرق بينهما هو عين الفرق المار بين الماهية المطلقة ومطلق الماهية .

وعين ما فرق به الأصوليون بين العام والمطلق قال العلامة الأنبابي على بيانية الصبان : فعموم العام شمول بخلاف عموم المطلق نحو رجل وأسد وإنسان فإنه بدلي حتى إذا دخلت عليه أداة النفي أو أل الاستغراقية صار عاما فليس ماصدق المطلق والعام واحدا كما توهم بل ماصدق الأول ألفاظ عمومها بدلي وماصدق الثاني ألفاظ عمومها شمولي قال : الزركشي في البحر المحيط في مبحث العام العموم يقع على مسمى عموم الشمول وهو المقصود هنا وعلى عموم الصلاحية ويقال له عموم البدل وهو في المطلق وتسميته عاما باعتبار أن موارده غير منحصرة لا أنه في نفسه عام ا هـ يعني أن تسميته عاما باعتبار أن أفراده التي يستعمل في كل فرد منها على البدل غير منحصرة وإلا فهو ليس من العام إذ المعتبر في العام كما يعلم من تعريفه العموم الشمولي بحيث يتناول اللفظ جميع الأفراد دفعة وهذا غير متحقق في المطلق وقد صرح غيره بأن الشمولي هو معنى العموم فتنبه ا هـ بلفظه فمن هنا قال قبل هذا مسايرة لغيره : والتحقيق أن دلالة العام كعبيدي على كل فرد من أفراده من حيث كونه فردا أي كدلالة نحو عبيدي على ثلاثة غير معينين تضمنية إذ المقصود بالأفراد الأبعاض فكل فرد منها جزء يدل عليه اللفظ في حال الحكم عليه من حيث إنه جزء ا هـ لكنه تعقبه بقوله مع كون المقصود الحكم على كل فرد لا على المجموع كما حققناه فيما علقناه [ ص: 173 ] على شرح جمع الجوامع . ا هـ .

يعني ومقتضى كون المقصود الحكم على كل فرد أن تكون دلالة لفظ العام كعبيدي على الفرد كثلاثة غير معينين في حال الحكم عليه من حيث تحقق الحقيقة فيه مطابقية وعلى واحد غير معين تضمنية وأما على ثلاثة معينين أو واحد معين فخارجة عن أنواع الدلالة اللفظية الوضعية ما لم تلاحظ علاقة وقرينة وإلا كان مجازا لا حقيقة اتفاقا ولا تكون دلالة لفظ العام على فرده المذكور في حال الحكم عليه من حيث إنه جزء تضمنية كما قيل إلا إذا كان المقصود الحكم على المجموع وليس كذلك قلت : وعليه فالفرق بين العام يدل على فرده غير المعين مطابقة والمطلق يدل على الفرد المبهم مطابقة أيضا هو أن العام يدل على فرده المذكور مطابقة من حيث تحقق الموضوع له الذي هو الحقيقة الكلية فيه لا من حيث إنه نفس الموضوع له والمطلق يدل على الفرد المبهم مطابقة من حيث إنه نفس الموضوع له لا من حيث تحقق الموضوع له فيه فافهم ثم اعلم أن القائل لغلامه إذا قال : ألزمتك النهي أو النفي واقع في الدار إن أراد بالألف واللام في النهي والنفي العهد في الشخص أي في نهي معين ونفي معين لزم أن يكون المشترك المنهي عنه أو المنفي عنه وهو المدلول التزاما معينا وإن أراد بها فيهما العهد في الجنس أي في نهي غير معين وفي نفي غير معين فلا بد أن يكون المدلول الالتزامي وهو المشترك المنهي عنه أو المنفي عنه كذلك أي غير معين لأنه إن لم يكن كذلك كان معينا .

وإذا كان معينا لزم مثل ذلك في المتعلق به وهو النهي أو النفي وقد فرض غير معين وإن أراد بها فيها العموم فلا بد من العموم في المتعلق ولا فرق بين مدلول المشترك مطابقة في النهي والنفي ومدلوله التزاما فيهما وكذلك إذا حلف بالطلاق وحنث بأن قال : علي الطلاق أو الطلاق يلزمني أو ما أشبه ذلك وله أربع زوجات فإذا جعلت الألف واللام في الطلاق بحسب اللغة للعهد في الجنس كان الطلاق مطلقا في أفراده مطابقة فيلزم أن يكون مطلقا في الزوجات التزاما أو للعموم كان الطلاق عاما في أفراده مطابقة فيلزم أن يكون عاما في الزوجات وفي أنواع الطلاق من الثلاث وغيرها التزاما إلا أنه لا عموم في إفراد الطلاق بحسب عرف الفقهاء والناس ولم أعلم أحدا ألزم به غير طلقة إذا لم تكن له نية ولا شك هل طلق واحدة أو ثلاثا فكان ينبغي أن لا يعمهن الطلاق إذا لم يكن له نية بل يخير في التعيين أو يقرع بينهن لئلا يلزم الترجيح من غير مرجح لأن بعضهن ليس أولى من البعض الآخر إلا أن مالكا والشافعي وجماعة من العلماء قالوا بعموم الطلاق فيهن احتياطا [ ص: 174 ] للزوج وصونا لها عن مواقعة الزنا فإن الطلاق قد ثبت بقوله علي الطلاق أو ما أشبه ذلك ووقع الشك والاحتمال في عمومه لمحاله أو خصوصه فحمل على العموم فيها احتياطا كما فيما إذا طلق وشك هل واحدة أو ثلاثا يحمل على الثلاث بخلاف ما إذا شك في أصل الطلاق فإنه لا يلزمه شيء استصحابا بالأصل العصمة كما مر ولا يلزم الشافعية أن يخيروه إذا قال : يلزمني الطلاق وإن خيروه في إحداكن طالق لأن التخيير في قوله إحداكن طالق بين لتعليقه الطلاق بواحدة أما حيث لم يعلق الطلاق بواحدة فليس التخيير بالبين فإن نوى بالطلاق بعضهن ذاهلا عن البعض الآخر لم يلزمه الطلاق إلا في البعض الذي نواه وحده كما أنه لا يلزمه الحنث فيما عدا ما نواه إذا أتى بصيغة عموم نحو لا ألبس ثوبا لأن النية أول معتبر في الحالف كما سيأتي بيانه هذا هو التحقيق فاحفظه .

التالي السابق


الخدمات العلمية