صفحة جزء
( الفرق الثاني والتسعون بين قاعدة الاستغفار من الذنوب المحرمات وبين قاعدة الاستغفار من ترك المندوبات )

اعلم أن الاستغفار طلب المغفرة .

وهذا إنما يحسن من أسباب العقوبات كترك الواجبات وفعل المحرمات ؛ لأنها هي التي فيها العقوبات ، أما المكروهات والمندوبات والمباحات فلا يحسن الاستغفار فيها لعدم العقوبات في فعلها وتركها ، وهذا أمر ظاهر لا خفاء فيه غير أنه وقع لمالك رحمه الله فيمن ترك الإقامة أنه يستغفر الله تعالى ووقع له أيضا ذلك في غير الإقامة من المندوبات ، وقد سبق الجلاب والتهذيب على نقل ذلك عنه ، ووجه ذلك أن الله تعالى يعاقب على الذنب بأحد ثلاثة أشياء أحدها المؤلمات كالنار وغيرها ، وهذا هو الأمر الغالب في ذلك . وثانيها تيسير المعصية في شيء آخر فيجتمع على العاصي عقوبتان الأولى والثانية كقوله تعالى { وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى } فجعل العسرى مسببة عن المعاصي المتقدمة ، ومنه قوله تعالى { إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سول لهم وأملى لهم ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما أنزل الله } الآية فجعل سبحانه الردة مسببة عن المعصية المذكورة ؛ لأن قوله تعالى ذلك إشارة إلى الردة ، وقوله بأنهم قالوا الباء سببية ومنه قوله عليه السلام { إن الرجل ليختم له بالكفر بسبب كثرة ذنوبه } . وثالثها تفويت الطاعات لقوله تعالى { سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق } وقوله تعالى { والله لا يهدي القوم الفاسقين } { إنه لا يفلح الظالمون } ونحو ذلك من الآيات الدالة على سلب الفلاح [ ص: 147 ] والخير بسبب الأوصاف المذمومة المذكورة في تلك الآيات ، وكما يعاقب الله تعالى بأحد ثلاثة أشياء يثيب أيضا بأحد ثلاثة أشياء : أحدها الأمور المستلذة كما في الجنات من المأكول والمشروب وغيرهما .

وثانيها تيسير الطاعات فيجتمع للعبد مثوبتان لقوله تعالى { فسنيسره لليسرى } فجعل اليسرى مسببة عن الإعطاء وما معه في الآية وقوله تعالى { والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا } { ومن يتق الله يجعل له مخرجا } { يجعل لكم فرقانا } إلى غير ذلك من الآيات . وثالثها تعسير المعاصي عليه وصرفها عنه إذا تقررت هذه القاعدة فإذا نسي الإنسان الإقامة أو غيرها من المندوبات دل هذا الحرمان على أنه مسبب عن معاص سابقة لقوله تعالى { وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير } وفوات الطاعة مصيبتها أعظم المصائب فإن كلمات الأذان طيبة مشتملة على الثناء على الله تعالى وتوجب لقائلها ثوابا سرمديا خيرا من الدنيا وما فيها من إصابة شوكة أو غم يغمه في فلس يذهب له ، وإذا كان ترك الطاعات مسببا عن المعاصي المتقدمة فحينئذ إذا رأى المكلف ذلك سأل المغفرة من تلك المعاصي المتقدمة حتى لا يتكرر عليه مثل تلك المصيبة ، فالاستغفار عند ترك الإقامة لأجل غيرها لا أنه لها ، وكذلك بقية المندوبات إذا فاتت يتعين على الإنسان الاستغفار لأجل ما دل عليه الترك من ذنوب سالفة لأجل هذه التروك فهذا هو وجه أمر مالك رحمه الله تعالى بالاستغفار في ترك المندوبات لا أنه يعتقد أن الاستغفار من ترك المندوبات فقد ظهر الفرق بين قاعدة الاستغفار عن الذنوب المحرمات وبين قاعدة الاستغفار من ترك المندوبات ، وأنها في فعل المحرمات وترك الواجبات لأجلها مطابقة وفي ترك المندوبات لأجل ما دلت عليه بطريق الالتزام لا أنه لها مطابقة .

وبهذا التقرير تحل مواضع كثيرة مما وقع للعلماء من ذكر الاستغفار عن ترك المندوبات فيشكل ذلك [ ص: 148 ] على كثير من الناس ، وليس فيها إشكال بسبب ما تقدم من الفرق والبيان .


حاشية ابن الشاط

قال ( الفرق الثاني والتسعون بين قاعدة الاستغفار من الذنوب المحرمات ، وبين قاعدة الاستغفار من ترك المندوبات ) قلت : وما قاله في هذا الفرق صحيح .

حاشية ابن حسين المكي المالكي

[ ص: 147 - 148 ] ( الفرق الثاني والتسعون بين قاعدة الاستغفار من الذنوب المحرمات وبين قاعدة الاستغفار من ترك المندوبات ) لا خفاء في أن الاستغفار من حيث إنه طلب المغفرة لا يحسن فيما ليس في فعله أو تركه العقوبات من المكروهات والمندوبات والمباحات وإنما يحسن فيما في فعله أو تركه العقوبات من ترك الواجبات وفعل المحرمات إلا أنه تعالى لما كان يعاقب على الذنب بأحد ثلاثة أشياء ويثيب على الطاعة بأحد ثلاثة أشياء أيضا أما ثلاثة العقاب

فأحدها المؤلمات كالنار وغيرها وهذا هو الغالب في ذلك

وثانيها تيسير المعصية في شيء آخر فيجتمع على العاصي عقوبتان الأولى والثانية فقد جعل سبحانه العسرى مسببة عن المعاصي المتقدمة في قوله تعالى { وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى } وجعل سبحانه الردة مسببة عن المعصية في قوله تعالى { إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سول لهم وأملى لهم ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما أنزل الله } الآية لأن قوله تعالى ذلك إشارة إلى الردة وقوله بأنهم قالوا الباء سببية وقال عليه السلام { إن الرجل ليختم له بالكفر بسبب كثرة ذنوبه }

وثالثها تفويت الطاعات كما يدل على ذلك الآيات الدالة على سلب الفلاح والخير بسبب الأوصاف المذمومة المذكورة فيها من نحو قوله تعالى { سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق } وقوله تعالى { والله لا يهدي القوم الفاسقين } { إنه لا يفلح الظالمون }

وأما ثلاثة الثواب فأحدها الأمور المستلذات كما في الجنات من المأكول والمشروب وغيرهما

وثانيها تيسير الطاعات فيجتمع للعبد مثوبتان فقد جعل سبحانه اليسرى مسببة عن الإعطاء وما معه في قوله تعالى { فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى } وقال تعالى { والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا } { ومن يتق الله يجعل له مخرجا } { يجعل لكم فرقانا } إلى غير ذلك من الآيات

وثالثها تعسير المعاصي عليه وصرفها عنه وكان نسيان الإنسان الأذان أو الإقامة أو غيرهما من المندوبات فيحرم ثوابها من أعظم المصائب سيما وكلمات الأذان طيبة مشتملة على الثناء على الله تعالى وتوجب لقائلها ثوابا سرمديا خيرا من الدنيا وما فيها ومصيبة فوات ثوابها مسببة عن معاص سابقة وقعت [ ص: 162 ] منه قال تعالى { وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير } ظهر لك أن ما وقع لمالك رحمه الله فيمن ترك الإقامة أو غيرها من المندوبات أنه يستغفر الله وقد اتفق الجلاب والتهذيب على نقل ذلك عنه هو أنه يتعين على الإنسان الاستغفار لأجل ما دل عليه تركها من ذنوب سالفة لا أنه يعتقد أن الاستغفار يشرع في ترك المندوبات وظهر أن الفرق بين هاتين القاعدتين هو أن الاستغفار في ترك المحرمات وترك الواجبات لأجلها مطابقة وفي ترك المندوبات لأجل ما دلت عليه بطريق الالتزام لا أنه لها مطابقة وبه ينحل كل إشكال يرد على ما وقع للعلماء من ذكر الاستغفار عن ترك المندوبات والله سبحانه وتعالى أعلم

التالي السابق


الخدمات العلمية