صفحة جزء
( الفرق التاسع والعشرون والمائة بين قاعدة الاستثناء وقاعدة المجاز في الأيمان والطلاق وغيرهما )

اعلم أن الاستثناء هو ما كان بإلا وحاشا وخلا وعدا ولا يكون وليس وبقية أخواتها وهي إحدى عشرة أداة مستوعبة في كتب النحو والمجاز هو اللفظ المستعمل في غير ما وضع له لعلاقة بينهما وإذا علمت حقيقتهما فاعلم أنهما بحسب مواردهما التي يردان عليها كل واحد أعم من الآخر من وجه وأخص من وجه وضابط الأعم من وجه والأخص من وجه أن يكون كل واحد منهما يوجد منفردا ومع الآخر فينفرد كل واحد منهما بصورة ويجتمعان في صورة كالحيوان والأبيض يوجد الأبيض بدون الحيوان في الجير والثلج والحيوان بدون الأبيض في الزنج والجاموس ويجتمعان معا في كل حيوان أبيض كذلك الاستثناء والمجاز يوجد كل واحد منهما في صورة لا يجوز وجود الآخر فيها ويجوز أن يجتمعا في صورة يجوز دخولهما فيها وتكون قابلة لهما وأبين ذلك بالمثل مثال الصورة التي يدخلها الاستثناء دون المجاز ويمتنع استعمال المجاز فيها أسماء الأعداد فلا يجوز إطلاق العشرة ويراد بها تسعة

. وقد تقدم تقريره وما عليه في الفرق الذي قبل هذا قال صاحب المقدمات الشيخ أبو الوليد بن رشد لا يجوز الاستثناء بإلا من الأعداد وإن اتصل ما لم يبن كلامه عليه نحو والله لأعطينك ثلاثة دراهم إلا درهما وكذلك أنت طالق ثلاثا إلا واحدة بخلاف العموم وبخلاف الاستثناء بمشيئة الله فإنه يكفي فيه الاتصال وإن لم يبن الكلام عليه ومثال الصورة التي يدخلها المجاز دون الاستثناء المعطوفات فإذا قلت رأيت زيدا وعمرا إلا عمرا لم يجز لغة لما فيه من إبطال حكم عمرو وهو منصوص عليه فأنت مستثن لجملة ما نطقت به في المعطوفات واستثناء جملة كلام منطوق به ممنوع وكذلك أعط زيدا درهما ودرهما إلا درهما ممتنع لاستثناء جملة منطوق بها بخلاف أعطه ثلاثة دراهم إلا درهما ويجوز المجاز في المعطوفات وأن يريد بالثاني غير الأول في الصورتين إحداهما الأسماء المترادفة كقوله تعالى { إنما أشكو بثي وحزني إلى الله } .

والحزن هو البث وقد أريد به الأول ولو قلت أشكو بثي وحزني إلا حزني لم يجز وكذلك يجوز أن تقول أعطه برا وحنطة وتعطف الشيء على نفسه إذا اختلف اللفظ كذلك نص عليه النحاة ولو قلت رأيت برا وحنطة إلا حنطة لم يجز لأن الاستثناء إنما جعل لإخراج ما التف في الكلام وهو غير مراد وما قصد بالعطف لا بد أن يكون مرادا فالجمع بينهما يقتضي أن يكون مرادا وغير مراد وهو جمع بين النقيضين الصورة الثانية أن تكون الألفاظ متباينة غير مترادفة ويريد بالثاني الأول على سبيل المجاز كقولك [ ص: 64 ] رأيت زيدا والأسد وتريد بالأسد زيدا لشجاعته فهذا يجوز ، ولا يجوز دخول الاستثناء فيه لأنك أتيت باللفظ الثاني لقصد المبالغة بالمعنى المجازي فإن قولك لزيد أسد أبلغ من قولك شجاع .

وإذا كان هذا المعنى مقصودا للعقلاء في مخاطباتهم لا يجوز إبطاله بالاستثناء فهذان مثالان لما ينفرد به كل واحد منهما عن صاحبه ، ومثال اجتماعهما في صحة الدخول فيه والاستعمال العمومات والظواهر كلها يجوز دخول الاستثناء فيها والمجاز فتقول في العموم رأيت إخوتك إلا زيدا فهذا استثناء وتقول رأيت إخوتك وتريد دار إخوته أو أمير إخوته لما بين الدار والأمير من الملابسة هذا في العموم وأما الظواهر التي ليست بعموم نحو لفظ الأسد والفرس وجميع أسماء الأجناس يجوز دخول المجاز فيها إذا وجدت العلاقة ودخول الاستثناء فتقول رأيت أسدا إلا يده وإلا رأسه بشرط أن لا يستوعبه .

وكذلك رأيت فرسا إلا رأسه ويجوز دخول المجاز فتريد بالأسد زيدا الشجاع وبالفرس حماره الفاره لشبهه بالفرس في سرعة جريه وقس على ذلك بقية أسماء الأجناس فهذا القسم يدخل فيه المجاز والاستثناء غير أن المجاز لك أن تتجوز بجملة الاسم عن جميع المسمى إلى غيره كما عدلت عن الأسد بجملته إلى الرجل الشجاع وليس لك استثناء جملة الأسد لأنه يشترط في الاستثناء أن يبقى بعده شيء مما دخل عليه الاستثناء فهذا الوجه يقع به الفرق في هذا القسم لا في جواز الدخول ، فقد ظهر لك أن الاستثناء يوجد في صورة لا يوجد فيها المجاز ويوجد المجاز في صورة لا يوجد فيها الاستثناء ويجتمعان في صورة فيكون كل واحد منهما أعم من الآخر من وجه وأخص من وجه وهو المطلوب وبه ظهر الفرق بين قاعدتيهما حتى يعلم في أي صورة يجوز استعمال كل واحد منهما وفي أي صورة يمتنع ويفيد ذلك نفعا عظيما في الأيمان والطلاق وغيرهما فإن من استعمل واحدا منهما في مكان لا يجوز استعماله فيه بطل استعماله له ولزمه أصل الكلام الأول بمقتضى وضع اللغة فاعلم ذلك فهي قاعدة الفقه .


[ ص: 64 ] حاشية ابن حسين المكي المالكي

( الفرق التاسع والعشرون والمائة بين قاعدة الاستثناء وقاعدة المجاز في الأيمان والطلاق وغيرهما ) [ ص: 86 ]

الاستثناء هو إخراج ما دخل لغة لا قصدا في مفهوم اللفظ العام بإلا أو إحدى أخواتها وهي إحدى عشرة أداة مستوعبة في كتب النحو ، والمجاز هو اللفظ المستعمل في غير ما وضع له في اصطلاح به التخاطب لعلاقة بينهما وقرينة مانعة من إرادة المعنى الأصلي والنسبة بينهما بحسب مواردهما التي يردان عليها العموم والخصوص الوجهي بحيث يجتمعان في صورة يجوز دخولهما معا فيها كالعمومات والظواهر كلها تقول في العموم رأيت إخوتك إلا زيدا ورأيت إخوتك تريد دار إخوته أو أمير إخوته لما بين الدار والأمير وبين الإخوة من الملابسة وتقول في الظواهر التي ليست بعموم كلفظ الأسد والفرس رأيت أسدا إلا يده أو فرسا إلا رأسه ورأيت أسدا في الحمام تريد رجلا شجاعا وركبت فرسك تريد حماره الفاره الشبيه بالفرس في سرعة الجري ، والفرق بين المجاز والاستثناء في هذا القسم الحاصل فيه اجتماعهما هو أن المجاز يجوز فيه التجوز بجملة الاسم عن جميع المسمى إلى غيره كما عدلت عن الأسد بجملته إلى الرجل الشجاع والاستثناء لا يجوز فيه استثناء جملة الأسد بل بعضه لأنه يشترط فيه أن يبقى بعده شيء مما دخل عليه الاستثناء ( وينفرد ) الاستثناء عن المجاز في صورة لا يدخلها إلا هو دون المجاز كأسماء الأعداد فقد تقدم في الفرق الذي قبل هذا تقرير أنه لا يجوز إطلاق العشرة مرادا بها التسعة ولا مرادا بها العشر بضم العين مجازا وتقرير ما عليه .

وأما الاستثناء منها فقال صاحب المقدمات الشيخ أبو الوليد ابن رشد لا يجوز الاستثناء بإلا من الأعداد وإن اتصل ما لم يبن كلامه عليه نحو والله لأعطينك ثلاثة دراهم إلا درهما وكذلك أنت طالق ثلاثا إلا واحدة بخلاف العموم وبخلاف الاستثناء بمشيئة الله تعالى فإنه يكفي فيه الاتصال وإن لم يبن الكلام عليه ا هـ وينفرد المجاز عن الاستثناء في صورة لا يدخلها إلا هو دون الاستثناء كالمعطوفات فإنه لا يجوز فيها لغة الاستثناء بأن تقول رأيت عمرا وزيدا إلا زيدا لما فيه من استثناء جملة ما نطقت به [ ص: 87 ]

واستثناء جملة ما نطقت به ممنوع ولأن ما قصد بالعطف لا بد أن يكون مرادا والاستثناء إنما جعل لإخراج ما التف في الكلام وهو غير مراد فالجمع بينهما في المعطوف يقتضي أن يكون مرادا وغير مراد وهو جمع بين النقيضين ، ويجوز في المعطوفات المجاز إما في نفس حرف العطف بأن تعطف به الشيء على نفسه اكتفاء باختلاف اللفظ كما في المترادفين في نحو قوله تعالى { إنما أشكو بثي وحزني إلى الله } والحزن هو البث وقولك أعطه برا وحنطة نص على ذلك النحاة وإما في نفس المعطوف مع حرف العطف بأن تعطف الألفاظ المتباينة مريدا بالثاني الأول مجازا كقولك رأيت زيدا والأسد تريد بالأسد زيدا لشجاعته فأتيت باللفظ لقصد المبالغة بالمعنى المجازي فإن قولك لزيد : أسد أبلغ من قولك له شجاع لأن المجاز أبلغ من الحقيقة وإذا كان هذا المعنى مقصودا للعقلاء في مخاطباتهم فلا يجوز إبطاله بالاستثناء وإذ قد ظهر لك أن الاستثناء يوجد في صورة لا يوجد فيها المجاز وأن المجاز يوجد في صورة لا يوجد فيها الاستثناء وأنهما يجتمعان في صورة فكان كل واحد منهما أعم من الآخر من وجه وأخص من وجه وهو المطلوب وعلمت في أي صورة يجوز استعمال كل واحد منهما وفي أي صورة يمتنع ظهر لك الفرق بين قاعدتيهما وأفادك ذلك نفعا عظيما في الأيمان والطلاق وغيرهما فإن من استعمل واحدا منهما في مكان لا يجوز استعماله فيه بطل استعماله له ولزمه أصل الكلام الأول بمقتضى وضع اللغة فاعلم ذلك فهي قاعدة الفقه والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية