صفحة جزء
( الفرق السابع والأربعون بين قاعدة الحصانة لا تعود بالعدالة وقاعدة الفسوق يعود بالجناية )

اعلم أن الإنسان إذا حكم له بالفسوق ثم تاب وأناب ذهب القضاء عليه بالفسوق فإذا جنى بعد ذلك كبيرة عاد الفسوق له وإذا كان محصنا بعدم مباشر الزنى ثم زنى ذهب الإحصان الذي هو شرط في حد القذف فمن قذف من ليس بمحصن فلا حد عليه فإذا صار بعد الزنى عدلا لم تعد الحصانة بالعدالة وفي القاعدتين قد ورد الضد بعد الضد المنافي لحكمه ظاهرا قال أصحابنا إذا قذفه بعد أن صار عدلا لم يحد نقله صاحب الجواهر وصاحب النوادر وجماعة من الأصحاب وفي الجواهر لو لاعن المرأة وأبانها ثم قذفها بتلك الزنية لم يحد ولم يلاعن لاستيفاء موجب اللعان قبل ذلك وقال ربيعة يحد وإن قذفها بزنية أخرى فإن كانت لم تلاعن وحدت لم يجب الحد لسقوط حصانتها بتلك الزينة بموجب لعانه .

وإن لاعنت وجب الحد وإن قذفها أجنبي فأولى بالحد لأن أثر لعان الزوج لا يتعدى لغيره ووقع في كتاب القذف إذ قذف من ثبت عليه الزنى وحسنت حالته بعد ذلك لا يحد لأن الحصانة لا تعود بالعدالة فمن ثبت فسقه بالزنى ذهبت حصانته وهذا مقام تزلزلت فيه الفكر واضطربت فيه العبر وكيف يصير المقذوف من أهل الولاية والعدالة وجانبه مهتضم وعرضه مطرح والزنية الثانية التي رماه بها أو رمى المرأة بها لم يقم عليها مصدق للرمي وأي فرق بين هذه الأذية ههنا وبين أذية من لم يتقدم له زنى وهما مؤلمان مؤذيان للمرمي أذية ظاهرها الكذب ، أما إذا رماها بالزنية الأولى لهو صادق فلا يلحق بمحل الإجماع في الحد لقصوره عنه بل التعزير لمطلق الأذية [ ص: 121 ] بل القياس الجلي أن العرض إذا صار مثلوما بمعاودة الجناية أن يصير معصوما بمعاودة العدالة والولاية

( والجواب ) وهو الفرق بين القاعدتين أن البحث ههنا يظهر بقاعدتين

( القاعدة الأولى ) أن الله تعالى إذا نصب سببا لحكمه اختلف العلماء هل يجوز ترتيب الحكم على تلك الحكمة حيث وجدت لأنها أصل في اعتبار ذلك السبب أو لا يجوز لأن الله تعالى لم ينصبها سببا لذلك الحكم بل سبب سببه وقد لا يصح سبب سبب الحكم سببا للحكم لعدم المناسبة ألا ترى أن خوف الزنى سبب وجوب الزواج والزواج سبب وجوب النفقة ولا يناسب أن يكون خوف الزنى سبب وجوب النفقة ونظائره كثيرة وهذا هو الصحيح عند العلماء كما نصب الله تعالى السرقة سببا للقطع لحكمة حفظ المال ومن أخذ مالا بغير السرقة لا يجوز قطعه ونصب الزنى سببا للرجم لحكمة حفظ الأنساب لئلا تلتبس فمن سعي في التباس الأنساب بغير الزنى بأن يجمع الصبيان ويغيبهم صغارا ويأتي بهم كبارا فلا يعرفهم آباؤهم لا يجوز رجمه لذلك وكذلك شرع الرضاع سببا للتحريم بسبب أن جزء المرضعة وهو اللبن صار جزء الرضيع باغتذائه به وصيرورته من أعضائه فأشبه ذلك منيها ولحمتها في النسب لأنهما جزء الجنين ولذلك قال عليه السلام { الرضاع لحمة كلحمة النسب } .

فإذا أخذنا نعلل بهذا الحكمة لزمنا أن من شرب دم امرأة أو أو أكل قطعة من لحمها يحرم عليها وتحرم عليه وليس كذلك ولأجل ملاحظة التعليل بالحكمة إذا استهلك اللبن وعدم ما يسمى رضاعا ولبنا وتناوله الصبي فمن علل بالحكمة أوقع به الحرمة قاله مطرف من أصحابنا وقال مالك في المدونة لا تقع به الحرمة إعراضا عن التعليل بالحكمة وقاله الشافعي وقال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنهم أجمعين اللبن المغلوب بالماء والمختلط بالطعام وإن كان اللبن غالبا لا يحرم لأن الطعام أصل واللبن تابع والدواء كالماء عنده وههنا في باب القذف شرع سببا للجلد لحكمة حفظ الأعراض وصون القلوب عن الأذيات لكن اشترط فيه الإحصان ومن جملة عدم مباشرة الزنى فمن باشر فقد انتفى في حقه عدم المباشرة فإن النقيضين لا يصدقان والعدالة بعد ذلك لا ينافي كونه مباشرا فإن لاحظنا الحكمة دون السبب حسن إعادة الحد وإن اقتصرنا على خصوص [ ص: 122 ] السبب لا يجب الحد ويؤكد ذلك أن الحدود يغلب عليها التعبد من جهة مقاديرها وإن كانت معقولة المعنى من جهة أصولها والتعبد لا يجوز التصرف فيه فظهر أنه لا يلزم من الاستواء في الأذية الاستواء في الحد بل يعزر إن آذاه بالقذف على قاعدة السب والشتم فلا تضيع المصلحة ولا تستباح الأعراض وتنعصم بالتعزير وقد يزيد التعزير على الحد على أصل مالك رحمه الله فلا يستنكر إسقاط الحد في هذه الصورة

( القاعدة الثانية ) قاعدة حمل المطلق على المقيد وذلك أن الله تعالى قال { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة } الآية وقال في الآية الأخرى { إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة } فالآية الأولى مطلقة وهذه مقيدة بوصف الغفلة فتحمل المطلقة على المقيدة على القاعدة في أصول الفقه والمباشر للزنى ليس بغافل عنه فلا يحد قاذفه لأنه لو حد لحصل معنى اللعن في الدنيا والآخرة وهو منفي بهذه الآية من جهة مفهومها الذي هو مفهوم الصفة لأن مفهومها أن من ليس بغافل لا يحد قاذفه ولا يلعن في الدنيا والآخرة وهو المطلوب وقد اتفقنا على أنه يلعن بالتعزير والعقوبة المؤلمة على حسب حال المقذوف فيبقى ما عداه على مقتضى الدليل أما عود الفسوق بعود الجناية فلأن الأمة مجمعة على أن سبب الفسوق هو ملابسة الكبيرة أو الإصرار على الصغيرة من حيث هو هذا المعنى من غير قيد ولا شرط وهو معقول المعنى بحيث وجب القضاء بفسق ملابسه من غير استثناء صورة عن صورة عملا بطرد العلة ووجود الموجب فهذا هو الفرق بين القاعدتين .


حاشية ابن حسين المكي المالكي

( الفرق السابع والأربعون والمائة بين قاعدة الحصانة لا تعود بالعدالة وقاعدة الفسوق تعود بالجناية )

وذلك أن عود الفسوق بعود الجناية إنما هو لأن الأمة مجمعة على أن سبب الفسوق هو ملابسة الكبيرة أو الإصرار على الصغيرة من حيث هو هذا المعنى من غير قيد ولا شرط معقول المعنى بحيث إن الإنسان إذا جنى بكبيرة أو بإصرار على صغيرة بعد أن زال القضاء عليه بالفسوق بتوبته وإنابته من ذلك وجب أن يعود القضاء عليه بالفسوق من غير استثناء صورة من صورة عملا بطرد العلة ووجود الموجب وأما المحصن بعدم مباشرة الزنى إذا زال إحصانه بمباشرته الزنى لم تعد حصانته بعدالته بعد مباشرته الزنى [ ص: 150 ] فلذا قال أصحابنا فإذا قذفه بعد إن صار عدلا لم يحد كما نقله صاحبا الجواهر والنوادر وجماعة من الأصحاب وفي الجواهر أيضا لو لاعن المرأة وأبانها ثم قذفها بتلك الزنية لم يحد ولم يلاعن لاستيفاء موجب اللعان قبل ذلك وقال ربيعة يحد وإن قذفها بزنية أخرى فإن كانت لم تلاعن وحدت لم يجب الحد لسقوط إحصانها الذي هو شرط في حد القذف بتلك الزنية بموجب لعانه وإن لاعنت وجب الحد أي للزوج القاذف فأولى بالحد الأجنبي إذا قذفها بها أي مطلقا لأن أثر لعان الزوج لا يتعدى لغيره ووقع في كتاب القذف إذا قذف من ثبت عليه الزنا وحسنت حاله بعد ذلك لا يحد لأن الحصانة لا تعود بالعدالة فمن ثبت فسقه بالزنا ذهبت حصانته وذلك إنما قالوه بناء على قاعدتين

( القاعدة الأولى ) أن الله تعالى إذا نصب سببا لحكمة فالصحيح عند العلماء أنه لا يجوز ترتب الحكم على تلك الحكمة لأن الله تعالى لم ينصبها سببا لذلك الحكم بل سبب وسببه وقد لا يصح سبب سببه سببا له لعدم المناسبة ألا ترى أن وجوب الزواج حكم سببه خوف الزنى والزواج سبب وجوب النفقة سبب وجوب الزواج الذي هو خوف الزنى لا يناسب أن يكون سببا لوجوب النفقة ونظائر ذلك كثيرة منها أن الله تعالى نصب السرقة سببا للقطع لحكمة حفظ المال ولم يترتب القطع على من أخذ مالا بغير السرقة نظرا لتلك الحكمة بل منع لعدم تحقق سببه الذي هو السرقة ومنها أن الله تعالى نصب الزنى سببا للرجم لحكمة حفظ الأنساب لئلا تلتبس ولم يترتب الرجم على من سعى في التباس الأنساب بغير الزنى بأن يجمع الصبيان ويغيبهم صغارا أو يأتي بهم كبارا فلا يعرفهم آباؤهم نظرا لحكمة حفظ الأنساب بل منعوا رجمه لعدم تحقق سببه الذي هو الزنى ومنها أن الله تعالى شرع الرضاع سببا للتحريم بسبب أن جزء المرضعة وهو اللبن صار جزء الرضيع باغتذائه به وصيرورته من أعضائه فأشبه ذلك منيها ولحمتها في النسب لأنهما جزء الجنين .

ولذلك قال عليه الصلاة والسلام { الرضاع لحمة كلحمة النسب } ولم يترتب ذلك التحريم على سبب سببه الذي هو صيرورة نحو دم المرأة أو قطعة من لحمها جزءا من أجزاء من شرب دمها أو أكل قطعة من لحمها إذ لم يقولوا بأنه يحرم عليها أو تحرم هي عليه بل قال مالك في المدونة لا تقع الحرمة باللبن إذا استهلك وعدم بحيث لا يسمي رضاعا ولبنا وتناوله الصبي إعراضا عن التعليل بالحكمة وقاله الشافعي أيضا وقال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنهم أجمعين اللبن المغلوب بالماء أو الدواء والمختلط بالطعام وإن كان اللبن غالبا لا يحرم لأن الطعام أصل واللبن تابع نعم قال مطرف من أصحابنا تقع الحرمة [ ص: 151 ] باللبن المستهلك بناء أنه على مقابل الصحيح أنه يجوز ترتيب الحكم على الحكمة ( ومنها ) أن الله تعالى شرع القذف سببا للجلد لحكمة حفظ الأعراض وصون القلوب عن الإذايات لكن اشترط فيه الإحصان ومن جملته عدم مباشرة الزنى فمن باشر فقد انتفى في حقه عدم مباشرة الزنى فإن النقيضين لا يصدقان والعدالة بعد ذلك لا تنافي كونه مباشرا فإن لاحظنا الحكمة بدون السبب حسن إعادة الحكم بحد قاذفه وإن اقتصرنا على خصوص السبب ولم نرتب الحكم على حكمته بدونه لم نقل بوجوب حد قاذفه ويؤكد ذلك أن الحدود يغلب عليها التعبد من جهة مقاديرها وإن كانت معقولة المعنى من جهة أصولها والتعبد لا يجوز التصرف فيه فمن هنا ظهر أنه لا يلزم من الاستواء في الآفة الاستواء في الحد بل يعزر إن آذاه بالقذف على قاعدة السب والشتم فلا تضيع المصلحة ولا تستباح الأعراض بل تنعصم بالتعزير وقد يزيد التعزير على الحد على أصل مالك رحمه الله تعالى فلا يستنكر إسقاط الحد في هذه الصورة .

وفي تبصرة ابن فرحون عن المازري في المعلم دليل ما ذهب إليه مالك من جواز زيادة العقوبات على الحد فعل سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه في ضرب الذي نقش خاتمه مائة ونقل ابن قيم الجوزية أنها ثلاثمائة في ثلاثة أيام وذكر القرافي أن صاحب القضية معن بن زياد زور كتابا على عمر ونقش خاتمه فجلده مائة فشفع فيه قوم فقال أذكرتموني الطعن وكنت ناسيا فجلده مائة أخرى ثم جلده بعد ذلك مائة أخرى ولم يخالفه أحد قال المازري فكان إجماعا وضرب عمر رضي الله تعالى عنه ضبيعا أكثر من الحد ا هـ

( القاعدة الثانية ) أن ما ورد مطلقا يحمل على ما ورد مقيدا حيث كان القيد واحدا وإلا حمل ما ورد مقيدا على المطلق لئلا يحصل الترجيح بلا مرجح فنحو قوله تعالى { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة } الآية من حيث إنه ورد غير مقيد بوصف الغفلة بخلاف قوله تعالى في الآية الأخرى { إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة } فإنه قيد بوصف الغفلة فيحمل المطلق على المقيد على القاعدة في أصول الفقه والمباشر للزنا ليس بغافل عنه فلا يحد قاذفه لأنه لو حد لحصل معنى اللعن في الدنيا والآخرة وهو منفي بهذه الآية من جهة مفهومها الذي هو مفهوم الصفة لأن مفهومها أن من ليس بغافل لا يحد قاذفه ولا يلعن في الدنيا والآخرة وهو المطلوب وقد اتفقنا على أنه يلعن بالتعزير والعقوبة المؤلمة على حسب حال المقذوف [ ص: 152 ] فيبقى ما عداه على مقتضى الدليل ونحو قوله صلى الله عليه وسلم { كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله } إلخ مقيد وكذا قوله صلى الله عليه وسلم { كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله } إلخ فيحملان على المطلق وهو قوله صلى الله عليه وسلم { كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بذكر الله } إلخ على القاعدة في أصول الفقه من حمل المقيدين على المطلق الواحد لا العكس لئلا يلزم التحكم فافهم والله سبحانه وتعالى أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية