1. الرئيسية
  2. أنوار البروق في أنواء الفروق
  3. الفرق بين قاعدة ما يجزئ فيه فعل غير المكلف عنه وبين قاعدة ما لا يجزئ فيه فعل الغير عنه
صفحة جزء
( الفرق الحادي والسبعون والمائة بين قاعدة ما يجزئ فيه فعل غير المكلف عنه وبين قاعدة ما لا يجزئ فيه فعل الغير عنه )

اعلم أن الأفعال المأمور بها ثلاثة أقسام ( قسم ) اتفق الناس على صحة فعل غير المأمور به عن المأمور وذلك [ ص: 186 ] كدفع المغصوب للمغصوب منه وإن لم يشعر الغاصب فإن ذلك يسد المسد ويزيل التكليف ودفع النفقات للزوجات والأقارب والدواب فإن دفعها غير من وجب عليه لمن وجبت له أجزأت وإن لم يشعر المأمور بها من زوج أو قربت ، وكذلك دفع اللقطة لمستحقها وإن لم يشعر ملتقطها ، وهذا النحو ( وقسم ) اتفق الناس على عدم إجزاء فعل غير المأمور به فيه وهو الإيمان والتوحيد والإجلال والتعظيم لله سبحانه وتعالى .

وكذلك حكي في الصلاة الإجماع ونقل الخلاف في مذهب الشافعي في الصلاة عن الشيخ أبي إسحاق ويقال إنه مسبوق بالإجماع ( وقسم ) مختلف فيه هل يجزئ فعل غير المأمور عن المأمور به ويسد المسد أم لا وفيه أربع مسائل

( المسألة الأولى ) الزكاة إن أخرجها أحد بغير علم من هي عليه أو غير إذنه في ذلك فإن كان غير الإمام فمقتضى قول أصحابنا في الأضحية يذبحها غير ربها بغير علمه وإذنه إن كان الفاعل لذلك صديقه ومن شأنه أن يفعل ذلك بغير إذنه ؛ لأنه [ ص: 187 ] بمنزلة نفسه عنده لتمكن الصداقة بينهما أجزأته الأضحية إن كان مخرج الزكاة من هذا القبيل فمقتضى قولهم في الأضحية أن الزكاة تجزئه ؛ لأن كليهما عبادة مأمور بها مفتقرة للنية وإن كان ليس من هذا القبيل لا تجزئ عن ربها لافتقارها للنية على الصحيح من المذهب لأجل شائبة العبادة وعلى القول بعدم اشتراط النية فيها ينبغي أن يجزئ فعل الغير فيها مطلقا كالدين الوديعة ونحوهما مما تقدم في القسم المجمع عليه ، وهذا القول أعني عدم اشتراط النية قاله بعض أصحابنا وقاسها على الديون واستدل بأخذ الإمام لها كرها على عدم اشتراط النية وباشتراطها قال مالك والشافعي وأبو حنيفة وأحمد بن حنبل رضي الله عنهما لما فيها من شائبة التعبد من جهة مقاديرها في نصبها والواجب فيها وغير ذلك وإن أخذها الإمام كرها وهو عدل أجزأت عند مالك ، وعند الشافعي رحمهما الله تعالى اعتمادا على فعل الصديق رضي الله عنه ولظاهر القرآن وهو قوله تعالى { خذ من أموالهم صدقة تطهرهم } وظاهر الأمر الوجوب الذي أقل مراتبه الإذن والإجزاء ؛ لأن الإمام وكيل الفقراء فله أخذ حقهم قهرا كسائر الحقوق .

وقال أبو حنيفة لا يأخذها الإمام كرها لكن يلجئه إلى دفعها بالحبس وغيره لافتقارها للنية وإلا كره مع النية متنافيان

( المسألة الثانية ) الحج عن الغير منعه مالك وجوزه الشافعي رضي الله عنهما بناء على شائبة المال والعبادات المالية يدخلها النيابات ومالك يلاحظ أن المال فيه عارض بدليل [ ص: 188 ] المكي يحج بغير مال ، بل عروض المال في الحج كعروض المال في صلاة الجمعة لمن داره بعيدة عن المسجد فيكتري دابة يصل عليها للمسجد ولما لم تجز صلاة الجمعة عن الغير فكذلك الحج وللشافعي الفرق بأن عروض المال في الحج أكثر ولما ورد في الأحاديث من الحج عن الصبيان والمرضى يحرم عنهم غيرهم ويفعل أفعال الحج والعبادات أمر متبع

( المسألة الثالثة ) الصوم عن الميت إذا فرط فيه جوزه أحمد بن حنبل وروى الشافعية ذلك أيضا في مذهبهم لقوله عليه الصلاة والسلام { من لم يصم صام عنه وليه } ولم يجوزه مالك رحمه الله تعالى لقوله تعالى { وأن ليس للإنسان إلا ما سعى } وقياسا على الصلاة ومن هذا الباب الحج عن الميت أيضا

( المسألة الرابعة ) عتق الإنسان عن غيره قال مالك في المدونة من أعتق عبده عن ظهار غيره على جعل جعله له فالولاء للمعتق عنه وعليه الجعل ولا يجزئه كالمشتري بشرط العتق قال ابن القصار ، وإذا لم يكن في الجعل وضيعة عن الثمن جاز ؛ لأنه إذا جاز هبته فبيعه أولى .

وقال صاحب الجواهر في العتق عن الغير ثلاثة أقوال الإجزاء وهو المشهور قاله ابن القاسم ولأشهب عدم الإجزاء ، وقال عبد الملك إن أذن في العتق أجزأ عنه وإلا فلا ، وقاله الشافعي رضي الله عنه قال اللخمي يجزئ العتق عن ظهار الغير عند ابن القاسم وإن كان أبا للمعتق وفرق بعض الأصحاب بين عتق الإنسان عن غيره وبين دفع الزكاة عنه فلا يجزئ في الثاني ؛ لأنها ليست في الذمة والكفارة في الذمة قال اللخمي والحق [ ص: 189 ] الإجزاء فيهما ؛ لأنهما كالدين وهذه المسألة دائرة بين قواعد

( القاعدة الأولى ) قاعدة التقادير الشرعية وهي إعطاء الموجود حكم المعدوم والمعدوم حكم الموجود فالأول كالغرر والجهالة في العقود إذا قلا أو تعذر الاحتراز عنهما نحو أساس الدار وقطن الجبة ورداءة بواطن الفواكه ودم البراغيث ونجاسة ثوب المرضع والوارث الكافر أو العبد يقدر عدمه فلا يحجب والثاني كتقدير الملك في الدية مقدما قبل زهوق الروح في المقتول خطأ حتى يصح فيها الإرث فإنها لا تجب إلا بالزهوق وحينئذ لا يقبل المحل الملك والميراث فرع ملك الموروث فيقدر الشارع الملك متقدما قبل الزهوق بالزمن الفرد حتى يصح الإرث وكتقدير النية في أول العبادات ممتدة إلى آخرها وكتقدير الإيمان في حق النائم الغافل حتى تنعصم دماؤهم وأموالهم وتقدير الكفر في الكافر الغافل حتى تصح إباحة الدم والمال والذرية وقاعدة التقادير قد تقدمت في خطاب الوضع

( القاعدة الثانية ) أن الهبة إذا لم يتصل بها قبض بطلت

( القاعدة الثالثة ) الكفارات عبادة فيشترط فيها النية وهو المشهور عندنا ، وقيل لا تجب النية

( القاعدة الرابعة ) كل من عمل لغيره من مال أو غيره بأمره أو بغير أمره نفذ ذلك فإن كان متبرعا لم يرجع به أو غير متبرع وهو منفعة فله أجرة مثله أو مال فله أخذه ممن دفعه عنه بشرط أن يكون المعمول له لا بد له من عمل ذلك بالاستئجار أو إنفاق ذلك المال أما إن كان شأنه فعله إياه بغير استئجار لنفسه أو لغلامه وتحصل [ ص: 190 ] تلك المصلحة بغير مال فلا غرم عليه والقول قول العامل في عدم التبرع وهذه قاعدة مذهب مالك نص عليها ابن أبي زيد في النوادر وصاحب الجواهر في كتاب الإجارات ولا تختص هذه القاعدة بما يجب على المدفوع عنه كالدين ، بل يندرج فيها غسل الثوب وخياطته ورمي التراب من الدار ونحو ذلك على الشروط المتقدمة ويجعل مالك لسان الحال قائما مقام لسان المقال فكأنه أذن له في ذلك بلسان مقاله وخالفنا الشافعي في هذه القاعدة وجعل الأصل في فعل الغير التبرع .

وإذا لم يأذن له المدفوع عنه بلسان المقال لا يرجع عليه بشيء فمن لاحظ هذه القاعدة وهو مالك وابن القاسم فيقول المعتق قام عن المعتق عنه بواجب من شأنه أن يفعله ويقدر انتقال ملكه عنه للمعتق عنه قبل صدور العتق بالزمن الفرد حتى يثبت الولاء وتبرأ ذمته من الكفارة ويشكل عليه بقاعدة النية فإنه يشترطها وهي متعذرة مع الغفلة ونجيب بالقياس على العتق عن الميت ويرد عليه الفرق بأن الحي متمكن من العتق عن نفسه بخلاف الميت ، وقد تعذر عليه باب التقرب فناسب أن يوسع الشرع له في ذلك وله القياس على أخذ الزكاة كرها مع اشتراط النية فيها ويفرق أيضا بأنها حالة ضرورة لأجل امتناع المالك وهاهنا المعتق عنه غير ممتنع وبأن مصلحة الزكاة عامة فيوسع فيها لعموم الضرورة بخلاف الكفارات فإنها قليلة وهي خاصة فلا يخالف فيها قاعدة النية والشافعي يعتبر قاعدة النية وهي منفية حالة عدم الإذن وأشهب يقول الإذن من [ ص: 191 ] باب الكلام والإباحة والنية من باب المقاصد والإرادة فلا يقوم أحدهما مقام الآخر ولا يستقيم قصد الإنسان لعتق ملك غيره .

وقال أبو حنيفة رضي الله عنه إن دفع له جعلا أجزأ وإلا فلا للقاعدة الثانية فتخرج بالجعل عن الهبة فلا تحتاج إلى قصد فهذه القواعد هي سر هذه المسألة وهي مشكلة وأشكل منها ما نص عليه عبد الحق أنه يجوز العتق عن الغير تطوعا بغير إذنه ، وهذا أشكل من الواجب ؛ لأن الواجب فيه دلالة الحال دون المقال وهاهنا لا دلالة حال ولا يقال فلا يتجه ويكون أبعد من العتق عن الواجب .

ومن يشترط الإذن يقول الإذن تضمن الوكالة في نقل ملكه للآذن وعتقه عنه بعد انتقال الملك ويكون المأذون له وكيلا في الأمرين ومتوليا لطرفي العقد والموجب لهذه التقادير كلها أنه لا يصح هذا التصرف إلا بها وما تعذر تصحيح الكلام إلا به وجب المصير إليه صونا للكلام عن الإلغاء فهذا تحرير هذا الفرق وتحرير مسائله .


حاشية ابن الشاط

قال ( الفرق الحادي والسبعون والمائة بين قاعدة ما يجزئ فيه فعل غير المكلف عنه وبين قاعدة ما لا يجزئ فيه فعل الغير عنه )

قلت قد ذكر قبل هذا الفرق العاشر والمائة بين قاعدة ما تصح فيه النيابة وقاعدة ما لا تصح النيابة فيه وهو هذا بعينه غير أنه ذكر هنا مسائل لم يذكرها هناك ، وقد ذكر بعد هذا في الفرق السادس عشر والمائتين بين قاعدة ما يجوز التوكيل فيه وقاعدة ما لا يجوز التوكيل فيه وهو قريب منه أو هو هو وما قاله بعد إلى آخر القواعد نقل [ ص: 186 ] لا كلام فيه وصحيح ظاهر إلا قوله بتقدير ملك المقتول خطأ للدية فإن الصحيح فيها عندي أنه يملكها بإنفاذ المقاتل لا بالزهوق ، ولكن لا يجب أداؤها إلا بالزهوق كثمن المبيع إلى أجل يدخل في ملك البائع بالعقد ، ثم لا يجب الأداء إلا عند تمام الأجل والله أعلم .

وإلا قوله يقدر انتقال ملكه عنه للمعتق عنه قبل صدور العتق بالزمن الفرد فإنه لا حاجة إلى ذلك التقدير بناء على قاعدة صحة النيابة في الأمور المالية [ ص: 187 - 191 ]

قال ( فهذه القواعد هي سر هذه المسألة وهي مشكلة وأشكل منها ما نص عليه عبد الحق أنه يجوز العتق عن الغير تطوعا بغير إذنه ، وهذا أشكل من الواجب ؛ لأن الواجب فيه دلالة الحال دون المقال إلى آخر الفرق ) ، قلت لا إشكال في ذلك بناء على قاعدة جواز النيابة في الأمور المالية عبادة كانت أو غيرها ولا يحتاج فيها إلى الإذن ولا إلى تقدير الملك والوكالة والله أعلم ، وما قاله في الفرق بعد صحيح .

حاشية ابن حسين المكي المالكي

[ ص: 192 - 194 ] الفرق الحادي والسبعون والمائة بين قاعدة ما يجزئ فيه فعل غير مكلف عنه وبين قاعدة ما لا يجزئ فيه فعل الغير عنه )

قال الإمام ابن الشاط الفرق العاشر والمائة بين قاعدة ما تصح فيه النيابة وقاعدة ما لا تصح النيابة فيه الذي ذكره الأصل قبل هذا الفرق هو هذا الفرق بعينه غير أنه ذكر هنا مسائل لم يذكرها هناك ا هـ فلنقتصر هنا على المسائل التي لم يذكرها هناك لتكون توضيحا للفرق السابق ونخلص من وصمة التكرار ( المسألة الأولى )

الزكاة إن أخرجها أحد بغير علم من هي عليه أو غير إذنه في ذلك فعلى ما قاله بعض أصحابنا من عدم اشتراط النية فيها تمسكا بقياسها على الديون ويأخذ الإمام لها كرها والإكراه مع النية متنافيان ينبغي أن يجزئ فعل الغير فيها مطلقا كالدين الوديعة ونحوهما مما تقدم في القسم المجمع على صحة فعل غير المأمور به عن المأمور وعلى ما قاله مالك والشافعي وأبو حنيفة وأحمد بن حنبل رضي الله عنهم من اشتراط النية فيها لما فيها من شائبة التعبد من جهة مقاديرها في نصبها والواجب فيها وغير ذلك فإن كان المخرج غير الإمام فمقتضى قول أصحابنا في الأضحية يذبحها غير ربها بغير علمه وإذنه أنها تجزئه إن كان الفاعل لذلك صديقه ومن شأنه أن يفعل ذلك له بغير إذنه ؛ لأنه بمنزلة نفسه عنده لتمكن الصداقة بينهما أن يجري مثله هنا فيقال إن الزكاة تجزئه إن كان مخرجها من هذا القبيل ضرورة أن كلا منهما عبادة مأمور بها مفتقرة للنية وإن كان الفاعل ليس من هذا القبيل لا يجزئ عن ربها [ ص: 219 ] لافتقارها للنية على الصحيح من المذهب .

وإن أخذها الإمام كرها وهو عدل أجزأت عند مالك والشافعي رحمهما الله تعالى اعتمادا على فعل الصديق وتمسكا بظاهر قوله تعالى { خذ من أموالهم صدقة تطهرهم } فإن ظاهر الأمر الوجوب الذي أقل مراتبه الإذن والإجزاء ؛ ولأن الإمام وكيل الفقراء فله أخذ حقهم قهرا كسائر الحقوق ، وقال أبو حنيفة لا يأخذها الإمام كرها لكن يلجئه إلى دفعها بالحبس وغيره لافتقارها للنية والإكراه مع النية متنافيان

( المسألة الثانية ) الصوم عن الميت إذا فرط فيه جوزه أحمد بن حنبل وروى الشافعية ذلك في مذهبهم أيضا لقوله عليه الصلاة والسلام { من لم يصم صام عنه وليه } ولم يجوزه مالك رحمه الله تعالى لقوله تعالى { وأن ليس للإنسان إلا ما سعى } وقياسا على الصلاة ومن هذا الباب الحج عن الميت أيضا وسيأتي زيادة تحقيق لهذا فترقب

( المسألة الثالثة ) قال صاحب الجواهر في العتق عن الغير ثلاثة أقوال الإجزاء لابن القاسم وهو المشهور وعدم الإجزاء لأشهب ، وقال عبد الملك إن أذن في العتق أجزأ عنه وإلا فلا ، وقاله الشافعي رضي الله عنه ا هـ .

وفي المدونة قال مالك من أعتق عبده عن ظهار غيره على جعل جعله له فالولاء للمعتق عنه وعليه الجعل ولا يجزئه أي عن ظهاره كالمشتري بشرط العتق أي في عدم إجزاء عتقه عن الظهار قال ابن القصار ، وإذا لم يكن في الجعل وضيعة عن الثمن جاز أي عتقه عن الظهار ؛ لأنه إذا جاز هبته أي هبة من يعتق في الظهار فبيعه أولى ، وقال اللخمي يجزئ العتق عن ظهار الغير عند ابن القاسم وإن كان أبا للمعتق وفرق بعض الأصحاب بين عتق الإنسان عن غيره وبين دفع الزكاة عنه فلا يجزئ في الثاني ؛ لأن الزكاة ليست في الذمة ويجزئ في الأول ؛ لأن الكفارة في الذمة قال اللخمي والحق الإجزاء فيهما ؛ لأنهما كالدين وهذه المسألة دائرة بين أربع قواعد

( القاعدة الأولى ) قاعدة التقادير الشرعية التي تقدمت في خطاب الوضع وهي إما إعطاء الموجود حكم المعدوم كالغرر والجهالة إذا قلا أو تعذر الاحتراز عنهما كأساس الدار وقطن الجبة ورداءة بواطن الفواكه ودم البراغيث ونجاسة ثوب المرضع ، والوارث الكافر أو العبد يقدر عتقه فلا يحجب ، وأما إعطاء المعدوم حكم الموجود كتقدير الإيمان في حق المسلم النائم والغافل حتى ينعصم الدم والمال وتقدير الكفر في الكافر النائم والغافل حتى تصح إباحة الدم والمال والذرية

( القاعدة الثانية ) أن الكفارات عبادة فيشترط فيها النية وهو المشهور عندنا ، وقيل لا تجب فيها النية

( القاعدة الثالثة ) أن الهبة إذا لم يتصل بها قبض بطلت

( القاعدة الرابعة ) قاعدة مذهب مالك التي نص عليها ابن أبي زيد في النوادر وصاحب الجواهر في كتاب الإجارات وهي أن كل من عمل عملا أو أوصل نفعا لغيره من مال أو غيره بأمره أو بغير أمره نفذ ذلك فإن كان متبرعا لم يرجع به أو غير متبرع وهو منفعة فله أجرة مثله أو مال فله أخذه ممن دفعه عنه كان ذلك مما يجب على المدفوع عنه كالدين أو مما لا يجب كغسل الثوب وخياطته ورمي التراب من الدار ونحو ذلك والقول قول العامل في عدم التبرع ، لكن شرط الغرم أن يكون المعمول له لا بد له من عمله بالاستئجار أو إنفاق المال أما إن كان شأنه فعله إياه بغير استئجار بنفسه أو بغلامه وتحصل تلك المصلحة بغير مال فلا غرم عليه فمالك يجعل لسان الحال قائما مقام لسان المقال فكأنه أذن له في ذلك بلسان مقاله وخالفنا الشافعي في هذه القاعدة وجعل [ ص: 220 ] الأصل في فعل الغير التبرع وأنه لا يرجع عليه بشيء إذا لم يأذن له المدفوع عنه بلسان المقال فمالك وابن القاسم لما لاحظا هذه القاعدة قالا المعتق قام عن المعتق عنه بواجب من شأنه أن يفعله إما بناء على قاعدة صحة النيابة في الأمور المالية عبادة كانت أو غيرها فلا يحتاج فيها حينئذ إلى الإذن ولا إلى تقدير الملك والوكالة ولا يكون في هذه المسألة ولا فيما نص عليه عبد الحق من أنه يجوز العتق عن الغير تطوعا بغير إذنه إشكال أصلا كما قال ابن الشاط ويؤيده قول الرهوني والصواب في الفرق بين مسألتي المدونة يعني قولي ابن القاسم ومالك المتقدمين ما قاله أبو الوليد الباجي في المنتقى ونصه قول ابن القاسم إنه معنى يجوز فيه النيابة ؛ لأن طريقه المال ولذلك يجوز أن يعتق عن الميت وسلمه ابن الماجشون ووجه قول ابن الماجشون أنه لو باعه منه على أن يعتقه هو لم يجز له ذلك .

ولو وهبه إياه على أن يعتقه عن ظهاره لم يجزه فكذلك إذا أعتقه عنه والفرق بينهما على قول ابن القاسم أنه قد ملك الواهب أو البائع العتق في ذلك العبد قبل وقوعه ولزم الموهب له إيقاعه بالشرط فلذلك لم يجزه ألا ترى أنه لو باعه من ورثة الميت بشرط عتقه عنه أو وهبهم إياها بذلك الشرط لم يجزه الذي أنفذ عتقه عن المعتق عنه أعتقه ولذلك أن يعتقه عن الميت ، وقد روى في العتبية أبو زيد عن ابن القاسم في المرأة تعطي زوجها الرقبة يعتقها عن ظهاره أو عن الوجه إن كان بشرط العتق لم يجزه وإن كان بغير شرط أجزاه وذلك لما ذكرناه . ورواه في المدينة عيسى بن دينار وعبد الرحمن بن دينار عن ابن كنانة ا هـ منه بلفظه وهو حسن ، وقد أغفله الجم الغفير والتوفيق بيد العلي الكبير ا هـ محل الحاجة منه بلفظه ، وإما بناء على قاعدة التقادير فيقدر انتقال ملكه عنه للمعتق عنه قبل صدور العتق بالزمن الفرد حتى يثبت الولاء وتبرأ ذمته من الكفارة فيرد الإشكال بقاعدة النية فإن مالكا وابن القاسم يشترطانها .

وهي متعذرة مع الغفلة ولا يدفعه الجواب بالقياس على العتق عن الميت للفرق بأن الحي متمكن من العتق عن نفسه بخلاف الميت فإنه قد تعذر عليه باب التقرب فناسب أن يوسع الشرع له في ذلك ولا بالقياس على أخذ الزكاة كرها مع اشتراط النية فيها للفرق أيضا بأنها حالة ضرورة لأجل امتناع المالك وها هنا المعتق عنه غير ممتنع وبأن مصلحة الزكاة عامة فيوسع فيها لعموم الضرورة بخلاف الكفارات فإنها قليلة وهي خاصة فلا يخالف فيها قاعدة النية فتبقى المسألة مشكلة على قولهما لا على قول الشافعي ؛ لأنه يعتبر قاعدة النية وهي منتفية حالة عدم الإذن ولا على قول أشهب ؛ لأنه يقول الإذن من باب الكلام والإباحة والنية من باب المقاصد والإرادة فلا يقوم أحدهما مقام الآخر ولا يستقيم قصد الإنسان لعتق ملك غيره ولا على مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه ؛ لأنه يقول إن دفع له جعلا أجزأ وإلا فلا للقاعدة الثالثة فتخرج بالجعل عن الهبة فلا تحتاج إلى قصد وأشكل منها على قولهما ما نص عليه عبد الحق من أنه يجوز العتق عن الغير تطوعا ؛ لأن الواجب فيه دلالة الحال دون المقال وها هنا لا دلالة حال ولا مقال فلا يتجه ويكون أبعد من العتق عن الواجب ، ومن يشترط الإذن يقول الإذن تضمن الوكالة في نقل ملكه للآذن وعتق عنه بعد انتقال الملك ويكون المأذون له وكيلا في الأمرين ومتوليا لطرفي العقد كما قال الأصل قال والموجب بهذه التقادير كلها أنه لا يصح هذا التصرف [ ص: 221 ] إلا بها وما تعذر تصحيح الكلام إلا به وجب المصير إليه صونا للكلام عن الإلغاء ا هـ ، وقد علمت أن المسألة إذا بنيت على قاعدة جواز النيابة في الأمور المالية لا يحتاج فيها إلى تقدير ولا غيره كما لابن الشاط فهذا تحرير مسائل هذا الفرق الذي سبق تحريره في الفرق العاشر والمائة والله سبحانه وتعالى أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية