صفحة جزء
( الفرق الحادي والثمانون والمائة بين قاعدة الأسباب العقلية وبين قاعدة الأسباب الشرعية نحو بعت واشتريت وأنت طالق وأعتقت ونحوه من الأسباب )

قال الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني رحمه الله يثبت مسبب هذا القسم مع آخر حرف منه تشبيها [ ص: 219 ] للأسباب الشرعية بالعلل العقلية ؛ لأن العلل العقلية لا توجب معلولها إلا حالة وجودها .

وإذا عدمت لا يوجد معلولها كالعلم مع العالمية والإرادة مع المريدية من العقليات والنار مع الإحراق والماء مع الإرواء من العاديات فكذلك هذه الأسباب الشرعيات إذا عدم آخر جزء منها عدمت جملتها فلا ينبغي أن توجب حينئذ حكما ، بل تقدر مسببات هذه الأسباب مع آخر حروفها حتى يتحقق المسبب حالة وجود سببه لا حالة عدمه ؛ لأن وجود آخر حرف هو الوجود الممكن في الصيغ ؛ لأنها مصادر سيالة يستحيل وجودها بجملتها فيكتفى بوجود آخر حرف منها ؛ لأنه القدرة الممكن فيها فيحصل به الشبه بين العقليات والشرعيات .

وقال غيره من العلماء ، بل ينبغي أن لا يكون تقدير مسببات هذه الأسباب إلا عقيب حرف وإن عدمت جملة الصيغة ؛ لأن السبب إنما يتحقق عادة حينئذ فالفرق مبني على هذه الطريقة ومن وجه آخر يحصل الفرق ؛ لأن هذه الأسباب الشرعية تنقسم إلى ما يوجب مسببه إنشاء نحو عتق الإنسان عن نفسه والبيع الناجز والطلاق الناجز وإلى ما يوجب [ ص: 220 ] استلزاما كالعتق عن الغير فإنه يوجب الملك للمعتق عنه بطريق الالتزام بأن يقدر الملك قبل النطق بالصيغة بالزمن من الفرد لضرورة ثبوت الولاء له ولبراءة ذمته من الكفارة المعتق عنها ومثله العتق في زمن الخيار إذا كان الخيار للمشتري فإن الملك ينتقل إليه حينئذ بسبب عتقه التزاما ؛ لأن الملك في زمن الخيار للبائع على الأصح والأشهر حتى ينتقل بالتصريح من المشتري نحو قوله قبلت أو اخترت الإمضاء فهذه مطابقة أو يعتق أو يطأ الأمة أو نحوه بما يقتضي التزام الملك ونقله له فقال جماعة من العلماء يقدر ثبوت الملك قبل العتق حتى يقع العتق عن الغير وهو في ملكه [ ص: 221 ]

وقال بعض الشافعية يثبت معه ؛ لأن التقدم على خلاف الأصل والضرورة دعت لوقوع العتق في تلك الحالة والمقارنة تكفي في دفع تلك الضرورة ، وهذا المذهب غير متجه ؛ لأن العتق مضاد للملك واجتماع الضدين محال وتنقسم أيضا الأسباب الشرعية إلى ما يقتضي ثبوتا كالبيع والهبة والصدقة وإلى ما يقتضي إبطالا لمسبب سبب آخر كفوات المبيع قبل القبض يقتضي إبطال مسبب السبب السابق وهو المبيع ، وكذلك الطلاق والعتاق يقتضيان إبطال العصمة السابقة المترتبة على النكاح ، والملك المرتب في الرقيق على سببه ، وإذا قلنا بأن الفوات يوجب الفسخ فهل يقتضيه معه ؛ لأن الأصل عدم التقدم على [ ص: 222 ] السبب أو قبله ؛ لأن الانقلاب والفسخ يقتضي تحقق ما يحكم عليه بذلك خلاف بين العلماء فهذه الوجوه تحصل الفرق بين الأسباب الشرعية والعلل العقلية على بعض المذاهب فبطل الشبه بين البابين وعلى المذهب الآخر يحصل الشبه بينهما .


حاشية ابن الشاط

قال ( الفرق الحادي والثمانون والمائة بين قاعدة الأسباب العقلية وبين قاعدة الأسباب الشرعية إلى قوله فالفرق مبني على هذه الطريقة ) قلت هو فرق لا طائل وراءه والكلام فيه تعمق في [ ص: 219 ] الدين وتكلف ولا يتوصل فيه إلى اليقين قال ( ومن وجه آخر يحصل الفرق ؛ لأن هذه الأسباب الشرعية تنقسم إلى ما يوجب مسببه إنشاء إلى قوله ولبراءة ذمته من الكفارات المعتق عنها ) قلت ما قاله من تقدير الملك قبل النطق بالصيغة بالزمن الفرد لا حاجة إليه ولا دليل عليه ، بل الدليل على خلافه وهو صحة العتق عن الميت وهو لا يصح أن يملك ، ثم إن العتق عن غيره لم يقصد إلى [ ص: 220 ] ذلك المقدر ، ولو قصد إليه لما صح عتقه إياه لأنه كأن يكون حينئذ معتقا ملك غيره بغير إذنه .

وذلك لا يصح وما ذكره هو وغيره في ذلك من تقدم توكيل المعتق عنه إنما يتجه إذا كان العتق بإذنه أما إذا كان بغير إذنه فلا يتجه وبالجملة القول بتلك التقديرات في هذا الموضع لا يصح .

قال ( ومثله العتق في زمن الخيار إلى قوله مما يقتضي التزام الملك ونقله له ) قلت ما قاله من استلزام العتق والوطء إمضاء البيع المحصل للملك صحيح وحصول الملك هنا محقق لا مقدر قال ( فقال جماعة من العلماء يقدر ثبوت الملك قبل العتق حتى يقع العتق وهو في ملكه ) قلت إن أرادوا بالعتق إنشاء الصيغة التي هي سبب حصول العتق فقولهم غير صحيح وإن أرادوا به حصول العتق بنفسه فقولهم صحيح ؛ لأن إنشاء الصيغة بعينه هو المستلزم لإمضاء البيع الذي به يحصل الملك إذا لم يصدر من المشتري غير ذلك فالملك لا يحصل قبل ذلك أصلا ؛ لأنه لا موجب لحصوله [ ص: 221 ]

قال ( وقال بعض الشافعية يثبت معه إلى قوله واجتماع الضدين محال ) قلت ما قاله بعض الشافعية صحيح ، وقوله هو أن العتق مضاد الملك إن أراد بالعتق دخول الحرية في العبد فلذلك صحيح ولا يلزم عنه مقصوده وإن أراد بالعتق إنشاء الصيغة التي هي سبب حصول حرية العبد فذلك غير صحيح كيف ، وقد قال هو قبيل هذا حاكيا عن جماعة من العلماء أنه يقدر ثبوت الملك قبل العتق حتى يقع العتق وهو في ملكه وصوب هو قولهم في الله ما أسرع ما نسي .

قال ( وتنقسم أيضا الأسباب الشرعية إلى ما يقتضي ثبوتا كالبيع والهبة والصدقة وإلى ما يقتضي إبطالا لمسبب سبب آخر كفوات المبيع قبل القبض ) قلت ما قاله صحيح وبما سلف من القول يتبين أي مذهبي العلماء في المعية أو القبلية أصح والله تعالى أعلم

حاشية ابن حسين المكي المالكي

[ ص: 222 ] الفرق الحادي والثمانون والمائة بين قاعدة الأسباب العقلية وبين قاعدة الأسباب الشرعية نحو بعت واشتريت وأنت طالق وأعتقت ونحوه من الأسباب )

وهو مبني على طريقة غير الأستاذ أبي إسحاق الإسفراييني من إبطال الشبه بين البابين وأنه ينبغي أن لا يكون تقدير مسببات الأسباب الشرعية إلا عقيب آخر حرف وإن عدمت جملة الصيغة ؛ لأن السبب إنما يتحقق عادة حينئذ بخلاف الأسباب العقلية فإن العلل العقلية لا توجب معلولها إلا حالة وجودها ، وإذا عدمت لا يوجد معلولها كالعلم مع العالمية والإرادة مع المريدية من العقليات والنار مع الإحراق والماء مع الإرواء من العاديات .

وأما على طريقة الأستاذ أبي إسحاق الإسفراييني رحمه الله من أنه لا بد من تحقق حصول الشبه بين البابين وأنه لا ينبغي أن توجد الأسباب الشرعية حكما إذا عدم آخر جزء منها حتى عدمت جملتها ، بل تقدر مسببات هذه الأسباب الشرعية مع آخر حروفها حتى يتحقق المسبب حالة وجود سببه لا حالة عدمه ؛ لأن وجود آخر حرف هو الوجود الممكن في الصيغ ؛ لأنها مصادر سيالة يستحيل وجودها بجملتها فيكتفى بوجود آخر حرف منها ؛ لأنه القدر الممكن فيها فيحصل به الشبه بين العقليات والشرعيات فلا يكون بين القاعدتين فرق على هذه الطريقة قال ابن الشاط والفرق بينهما لا طائل وراءه والكلام فيه تعمق في الدين وتكلف ولا يتوصل فيه إلى اليقين نعم يحصل الفرق بينهما من وجه آخر وهو أن هذه الأسباب الشرعية تنقسم

أولا إلى ما يوجب مسببه إنشاء نحو عتق الإنسان عن نفسه والبيع الناجز والطلاق الناجز وإلى ما يوجب استلزاما كالعتق أو الوطء في زمن الخيار إذا كان الخيار للمشتري فإن الملك ينتقل إليه حينئذ بسبب عتقه أو وطئه الأمة التزاما ؛ لأن الملك في زمن الخيار للبائع على الأصح والأشهر حتى ينتقل بالتصريح من المشتري بنحو قوله قبلت أو اخترت الإمضاء مما يقتضي الملك مطابقة أو يعتق أو يطأ أو نحو ذلك مما يقتضي الملك التزاما وفي كون الملك في هذا يقدر ثبوته قبل العتق حتى يقع العتق عن الغير وهو في ملكه أو يثبت معه ؛ لأن التقدم على خلاف الأصل خلاف بين جماعة من العلماء وبعض الشافعية والظاهر أنه لفظي لا حقيقي .

وذلك ؛ لأنه يتعين أن يكون المراد بالعتق على الأول دخول الحرية في الرقيق لا إنشاء الصيغة ؛ لأن إنشاء الصيغة بعينه هو المستلزم لإمضاء البيع الذي به يحصل الملك إذ لم يصدر من المشتري غير ذلك فالملك لا يحصل قبل ذلك أصلا ؛ لأنه لا موجب لحصوله وأن يكون المراد على الثاني نفس إنشاء الصيغة لا دخول الحرية في الرقيق ؛ لأنه مضاد الملك واجتماع الضدين محال فعليك بتأمل المنصف

وثانيا إلى ما يقتضي ثبوتا كالبيع والهبة والصدقة وإلى ما يقتضي إبطالا لمسبب سبب آخر كفوات المبيع قبل القبض يقتضي إبطال مسبب السبب السابق وهو البيع وكالطلاق يقتضي إبطال العصمة السابقة المترتبة على النكاح وكالعتاق يقتضي إبطال الملك المترتب في الرقيق على سببه ، وإذا قلنا بأن الفوات يوجب الفسخ فهل يقتضيه معه وهو الأصح ؛ لأن الأصل عدم التقدم على السبب أو قبله ؛ لأن الانقلاب والفسخ يقتضي تحقق ما يحكم عليه بذلك خلاف بين العلماء والعلل العقلية لا تنقسم كذلك فتأمل والله سبحانه وتعالى أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية