صفحة جزء
( الفرق الثامن والتسعون والمائة بين قاعدة ما يجوز بيعه قبل قبضه وقاعدة ما لا يجوز بيعه قبل قبضه )

قال صاحب الجواهر لا يتوقف شيء من التصرفات على القبض إلا البيع فيمتنع بيع الطعام [ ص: 280 ] قبل قبضه لقوله عليه السلام في الصحيح { من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه } فيمتنع فيما فيه حق توفية من كيل أو وزن أو عدد إلا في غير المعارضة كالقرض أو البدل ، ثم لا يجوز لمن صار إليه هذا الطعام بيعه قبل قبضه .

وأما ما بيع جزافا فيجوز قبل النقل إذا خلى البائع بينه وبينه لحصول الاستيفاء ومنع الشافعي وأبو حنيفة بيعه قبل نقله لقول ابن عمر رضي الله عنهما ما كنا نبتاع الطعام على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيبعث علينا من يأمرنا بنقله من المكان الذي نبتاعه فيه إلى مكان سواه ، وقال عمر رضي الله عنه كنا إذا ابتعنا الطعام جزافا لم نبعه حتى نحوله من مكانه والمشهور اختصاص المنع بالطعام وتعميمه فيه يتعدى لما فيه حق توفية { لنهيه صلى الله عليه وسلم عن ربح ما لم يضمن } خرجه الترمذي ، وقال الشافعي وأبو حنيفة يمتنع التصرف في البيع قبل قبضه مطلقا واستثنى أبو حنيفة العقار ؛ لأن العقد لا يخشى انفساخه بهلاكه قبل قبضه ووافق المشهور ابن حنبل .

واحتج الشافعي وأبو حنيفة رضي الله عنهما بحديث الترمذي المتقدم ؛ ولأنه عليه الصلاة والسلام لما بعث [ ص: 281 ] عتاب بن أسيد أميرا على مكة أمره أن ينهاهم عن بيع ما لم يقبضوا أو ربح ما لم يضمنوا وبالقياس على الطعام ( والجواب عن الأول والثاني ) أن هذه الأحاديث المراد بها نهيه عليه السلام عن بيع ما ليس عندك فينهى الإنسان عن بيع ملك غيره ويضمن تخليصه ؛ لأنه غرر ودليله قوله عليه السلام { الخراج بالضمان والغلة للمشتري } ، فيكون الضمان منه فما باع إلا مضمونا فما يتناول الحديث محل النزاع ( وعن الثالث ) الفرق بأن الطعام أشرف من غيره لكونه سبب قيام البنية وعماد الحياة ، فشدد الشرع على عاداته في تكثير الشروط فيما عظم شرفه كاشتراط الولي والصداق في عقد النكاح دون عقد البيع وشرط في القضاء ما لم يشترطه في منصب الشهادة ، ثم يتأكد ما ذكرناه بمفهوم نهيه عليه السلام عن بيع الطعام حتى يستوفي [ ص: 282 ] ومفهومه أن غير الطعام يجوز بيعه قبل أن يستوفى وقوله تعالى { وأحل الله البيع } ( فإن قلت ) أدلة الخصوم عامة في الطعام وغيره ، والقاعدة الأصولية أن اللفظ العام لا يخصص بذكر بعضه فالحديث الخاص بالطعام لا يخصص تلك العمومات فإن من شرط المخصص أن يكون منافيا ولا منافاة بين الجزء والكل والقاعدة أيضا أن الخاص مقدم على العام عند التعارض وقوله تعالى { وأحل الله البيع } عام وتلك الأحاديث خاصة فتقدم على الآية والاعتماد في تخصيص تلك الأدلة على عمل أهل المدينة لا يستقيم ؛ لأن الخصم لا يسلم أنه حجة فضلا عن تخصيص الأدلة .

( قلت ) أسئلة صحيحة متجهة الإيراد لا يحضرني عنها جواب نظائر : قال العبد يجوز بيع الطعام قبل قبضه في خمسة مواضع : الهبة والميراث على اختلاف والاستهلاك والقرض والصكوك ، وهي [ ص: 283 ] أعطيات الناس من بيت المال واختلف في طعام أهل الصلح ووقعت الرخصة في الشركة في الطعام قبل قبضه والإقالة والتولية تنزيلا للثاني منزلة الأول المشتري على وجه المعروف بشرط أن لا يفترق العقدان في أجل أو مقدار أو غيرهما ؛ لأن ذلك يشعر بالمكايسة ، ومنع الشافعي وأبو حنيفة وأحمد بن حنبل رضي الله عنهم الجميع نظرا للنقل والمعاوضة فهذا تلخيص الفرق بين القاعدتين .


حاشية ابن حسين المكي المالكي

( الفرق الثامن والتسعون والمائة بين قاعدة ما يجوز بيعه قبل قبضه وقاعدة ما لا يجوز بيعه قبل قبضه )

قال الحفيد في البداية يتحصل في اشتراط قبض المبيع ، ومنع البيع قبل قبضه سبعة أقوال

( الأول والثاني ) روايتان عن مالك رضي الله عنه أشهرهما اشتراطه في الطعام بإطلاق فيمتنع بيعه قبل قبضه والرواية الأخرى اشتراطه في الربوي فقط فيجوز بيع غير الربوي من الطعام قبل قبضه

( الثالث ) لأحمد وأبي ثور اشتراطه في الطعام المكيل والموزون أي والمعدود

( الرابع ) لأبي حنيفة اشتراطه في كل شيء ينقل أما المبيعات التي لا تنتقل ولا تحول وهي الدور والعقار فيجوز فيها البيع قبل القبض

( الخامس ) للشافعي والثوري اشتراطه في كل شيء ، ولو كان مما لا ينقل وهو مروي عن جابر بن عبد الله وابن عباس .

( السادس ) لأبي عبيد وإسحاق اشتراطه في المكيل والموزون فكل شيء لا يكال ولا يوزن فلا بأس ببيعه قبل قبضه

( السابع ) لابن حبيب وعبد العزيز بن أبي سلمة وربيعة اشتراطه [ ص: 286 ] في المكيل والموزون والمعدود ا هـ .

محل الحاجة منه نعم يؤخذ تقييد أشهر الروايتين عن مالك بما إذا كان في الطعام حق توفية من كيل أو وزن أو عدد من قوله بعد ورخص مالك فيما بيع من الطعام جزافا أن يباع قبل القبض وأجازه ا هـ .

فتكون هذه الرواية عين القول الثالث لابن حنبل وتكون الأقوال ستة لا سبعة وبالتقييد وموافقة قول ابن حنبل صرح الأصل حيث قال قال صاحب الجواهر يمتنع أي في مشهور مالك بيع الطعام قبل قبضه إذا كان فيه حق توفية من كيل أو وزن أو عدد لقوله عليه الصلاة والسلام في الصحيح { من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه } فلا يجوز لمن صار إليه هذا الطعام بيعه قبل قبضه .

وأما ما بيع جزافا فيجوز أي لمبتاعه بيعه قبل نقله إذا خلى البائع بينه لحصول الاستيفاء ووافق مشهور مالك هذا ابن حنبل رضي الله عنه ومنع الشافعي وأبو حنيفة رضي الله عنهما بيعه قبل نقله واحتجا بقول ابن عمر رضي الله عنهما { كنا نبتاع الطعام على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيبعث علينا من يأمرنا بنقله من المكان الذي نبتاعه فيه إلى مكان سواه } وقول عمر رضي الله عنه كنا إذا ابتعنا الطعام جزافا لم نبعه حتى نحوله من مكانه وجوابه وأن مالكا روى حديث ابن عمر رضي الله عنهما عن نافع بدون ذكر الجزاف وهو مقدم في حفظ حديث نافع على غيره فرواية جماعة وجود الجزاف عن عبد الله بن عمر وغيره لا ترد على مذهبه على أن الجزاف عند المالكية ليس فيه حق توفية فهو عندهم من ضمان المشتري بنفس العقد نعم هذا من قبيل تخصيص العموم بالقياس المظنون للعلة فافهم ، وقال الشافعي وأبو حنيفة رضي الله عنهما يمتنع التصرف في المبيع قبل قبضه مطلقا إلا أن أبا حنيفة استثنى العقار ؛ لأن العقد لا يخشى انفساخه بهلاكه قبل قبضه واحتجا أولا بأربعة أحاديث

( أحدها ) قوله عليه الصلاة والسلام { ولا ربح ما لم يضمن ولا بيع ما ليس عندك }

( وثانيها ) حديث حكيم بن حزام قال { قلت يا رسول الله إني أشتري بيوعا فما يحل لي منها وما يحرم فقال يا ابن أخي إذا اشتريت بيعا فلا تبعه حتى تقبضه } قال أبو عمر وحديث حكيم بن حزام . رواه يحيى بن أبي كثير عن يوسف بن ماهك أن عبد الله بن عصمة حدثه أن حكيم بن حزام قال ويوسف بن ماهك وعبد الله بن عصمة لا أعرف لهما جرحة إلا أنه لم يرو عنه إلا رجل واحد فقط وذلك في الحقيقة ليس بجرحة وإن كرهه جماعة من المحدثين

( وثالثها ) ما أخرجه الترمذي من { نهيه صلى الله عليه وسلم عن ربح ما لم يضمن }

( ورابعها ) ما روي من أنه صلى الله عليه وسلم { لما بعث عتاب بن أسيد أميرا على مكة أمره أن ينهاهم عن بيع ما لم يقبضوا أو ربح ما لم يضمنوا }

( وثانيا ) بقياس غير الطعام على الطعام وجواب الأول أن هذه الأحاديث المراد بها نهيه عليه الصلاة والسلام عن بيع ما ليس عندك فينهى الإنسان عن بيع ملك غيره ويضمن تخليصه لأنه غرر ودليله قوله عليه الصلاة والسلام { الخراج بالضمان والغلة للمشتري } .

فيكون الضمان منه فما باع إلا مضمونا فلم يتناول الحديث محل النزاع وجواب الثاني أنه قياس مع الفارق فإن الطعام أشرف من غيره لكونه سبب قيام البنية وعماد الحياة فشدد فيه النزاع على عادته في تكثير الشروط فيما عظم شرفه كاشتراط الولي والصداق والشهود في عقد النكاح دون عقد البيع وشرطه في منصب القضاء ما لم يشترطه في منصب الشهادة قيل ويتأكد ما ذكرناه معاشر المالكية بمفهوم { نهيه عليه الصلاة والسلام عن بيع الطعام حتى يستوفى } فإن مفهومه أن غير الطعام يجوز بيعه قبل أن يستوفى وبقوله تعالى { وأحل الله البيع } لكن يرد على تأكيده بمفهوم الحديث أن الحديث خاص بالطعام والأحاديث الأربعة التي استدل بها الخصوم أعني الشافعية والأحناف عامة في الطعام وغيره والقاعدة الأصولية أن اللفظ العام لا يخصص بذكر بعضه إذ من شرط المخصص أن يكون منافيا ولا منافاة بين الجزء والكل ولا يستقيم الاعتماد في [ ص: 287 ] تخصيص تلك الأحاديث على عمل أهل المدينة ؛ لأن الخصم لا يسلم أنه حجة فضلا عن أن يكون مخصصا للأدلة ويرد على تأكيده بالآية أن الآية أعم من الأحاديث الأربعة والقاعدة الأصولية أن الخاص مقدم على العام عند التعارض قال الأصل وهما إيرادان صحيحان متجهان لا يحضرني عنهما جواب فتأمل عسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده هذا ما يتعلق باشتراط القبض في خصوص البيع .

وأما غيره من سائر التصرفات فقال صاحب الجواهر لا يتوقف شيء من التصرفات على القبض إلا البيع ا هـ . وقال العبدي يجوز الطعام قبل قبضه في خمسة مواضع الهبة والميراث والاستهلاك والقرض والصكوك وهي أعطيات الناس من بيت المال واختلف في طعام أهل الصلح ووقعت الرخصة في الشركة في الطعام قبل قبضه والإقالة والتولية تنزيلا للثاني منزلة الأول المشتري على وجه المعروف بشرط أن لا يفترق العقدان في أجل أو مقدار أو غيرهما ؛ لأن ذلك يشعر بالمكايسة ومنع الشافعي وأبو حنيفة وأحمد رضي الله عنهم الجميع نظرا للنقل والمعاوضة ا هـ . وقال الحفيد في البداية والعقود تنقسم إلى قسمين قسم يكون بغير معاوضة كالهبات والصدقات وقسم يكون بمعاوضة وهو ينقسم ثلاثة أقسام

( أحدها ) يختص بقصد المغابنة والمكايسة وهي البيوع والإجارات والمهور والصلح والمال المضمون بالتعدي وغيره

( والقسم الثاني ) لا يختص بقصد المغابنة وإنما يكون على جهة الرفق وهو القرض

( والقسم الثالث ) ما يصح أن يقع على الوجهين جميعا أعني على قصد المغابنة وعلى قصد الرفق كالشركة والإقالة والبتولية وتحصيل أقوال العلماء في هذه الأقسام أن ما كان بيعا وبعوض فلا خلاف في اشتراط القبض فيه ، وذلك في الشيء الذي يشترط فيه القبض واحد من العلماء وأن ما كان خالصا للرفق أعني القرض فلا خلاف أيضا أن القبض ليس شرطا في بيعه أعني أنه يجوز للرجل أن يبيع القرض قبل أن يقبضه واستثنى أبو حنيفة مما يكون بعوض المهر والخلع والجعل فقال يجوز بيعها قبل القبض وأن العقود التي تتردد بين قصد الرفق والمغابنة وهي التولية والشركة والإقالة إذا وقعت على وجه الرفق من غير أن يكون الإقالة أو التولية بزيادة أو نقصان فلا خلاف أعلمه في المذهب أن ذلك جائز قبل القبض وبعده .

وقال أبو حنيفة والشافعي لا تجوز الشركة ولا التولية قبل القبض وتجوز الإقالة عندهما ؛ لأنها قبل القبض فسخ بيع لا بيع فعمدة من اشترط القبض في جميع المعاوضات أنها في معنى البيع المنهي عنه وإنما استثنى مالك من ذلك التولية والإقالة والشركة للأثر والمعنى أما الأثر فما . رواه من مرسل سعيد بن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه إلا ما كان من شركة أو تولية أو إقالة } .

وأما من طريق المعنى فإن هذه إنما يراد بها الرفق لا المغابنة ما لم تدخلها زيادة أو نقصان وإنما استثنى من ذلك أبو حنيفة الصداق والخلع والجعل ؛ لأن العوض في ذلك ليس بينا إذا لم يكن عينا ا هـ . هذا تنقيح ما في الأصل من تلخيص الفرق بين القاعدتين وبيان الخلاف ومداركه وسلمه ابن الشاط مع زيادة من البداية والله سبحانه وتعالى أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية