صفحة جزء
( الفرق السادس عشر والمائتان بين قاعدة ما يجوز التوكيل فيه وبين قاعدة ما لا يجوز التوكيل فيه ) اعلم أن الأفعال قسمان منها ما لا تحصل مصلحته إلا للمباشر فلا يجوز التوكيل فيها لفوات المصلحة بالتوكيل كالعبادة فإن مصلحتها الخضوع ، وإظهار العبودية لله تعالى فلا يلزم من خضوع الوكيل خضوع الموكل فتفوت المصلحة ، ومصلحة الوطء والإعفاف وتحصيل ولد [ ص: 27 ] ينسب إليه وذلك لا يحصل للموكل بخلاف عقد النكاح لأن مقصوده تحقيق سبب الإباحة ، وهو يتحقق من الوكيل ، ومقصود الأيمان كلها واللعان إظهار الصدق فيما ادعى ، وحلف زيد ليس دليلا على صدق عمرو ، وكذلك الشهادات مقصودها الوثوق بعدالة المتحمل ، وذلك فائت إذا أدى غيره ، ومقصود المعاصي إعدامها فلا يشرع التوكيل فيها لأن شروع التوكيل فيها فرع تقريرها شرعا فضابط الفرق أن مقصود الفعل متى كان يحصل من الوكيل كما يحصل من الموكل ، وهو مما يجوز الإقدام عليه جازت الوكالة فيه ، وإلا فلا .


[ ص: 28 ] حاشية ابن حسين المكي المالكي

( الفرق السادس عشر والمائتان بين قاعدة ما يجوز التوكيل فيه من الأفعال وبين قاعدة ما لا يجوز التوكيل فيه منها )

كتب العلامة ابن الشاط فيما مر عند قول الأصل الفرق الحادي والسبعون والمائة إلخ أن هذا الفرق بين هاتين القاعدتين قريب من الفرق العاشر والمائة بين قاعدة ما تصح فيه النيابة .

وقاعدة ما لا تصح النيابة فيه أو هو هو ا هـ قلت ، وأوفى كلامه لحكاية الخلاف ففي شرح عبق على خليل والبناني عليه ما خلاصته وسلمه الرهوني وكنون أن قول خليل في مختصره صحت الوكالة في قابل النيابة إلخ أي شرعا ، وهو ما لا يتعين فيه المباشرة أي ما تجوز فيه النيابة تصح فيه الوكالة ، وما لا تجوز فيه النيابة لا تصح فيه الوكالة مبني على ما لابن رشد وعياض من مساواة النيابة للوكالة كما نقل ابن عرفة عنهما من جعلهما نيابة الأمراء وكالة لا على أن النيابة أعم الذي هو مقتضى تعريف ابن عرفة للوكالة بقوله نيابة ذي حق غير ذي إمرة ، ولا عبادة لغيره فيه غير مشروطة بموته فتخرج نيابة إمام الطاعة أميرا أو قاضيا أو صاحب شرطة ، أو إمام الصلاة والوصي ا هـ .

قال البناني ولو أسقط ذي من قوله ذي إمرة ، وجعل غير نعتا لحق لكان تعريفه شاملا لتوكيل الإمام في حق له قبل شخص تأمل ا هـ .

قال : واعلم أنه وقع في كلام ابن عرفة هنا أنه ذكر أن شرط النيابة بمقتضى دلالة الاستقراء والاستعمال استحقاق جاعلها فعل ما [ ص: 56 ] وقعت النيابة فيه قال فإذا جعل الإنسان غيره فاعلا أمرا فإن كان يمتنع أن يباشره أو لا حق له في مباشرته فهو أمر ، وإن صحت مباشرته ، وكان له فيه حق فهو نيابة فجعل الإنسان غيره يقتل رجلا عمدا عدوانا هو أمر لا نيابة ، وجعله يقتله قصاصا نيابة ، ووكالة ا هـ .

ورد بهذا على ابن هارون الذي أبطل طرد تعريف ابن الحاجب الوكالة بأنها نيابة فيما لا تتعين المباشرة بالنيابة في المعاصي كالسرقة والغصب وقتل العدوان ثم ناقض ابن عرفة كلامه بما ذكره بعد من أن الوكالة التي هي أخص من النيابة تعرض لها الحرمة بحسب متعلقها ، ومثل ذلك بالبيع الحرام ، وهو ممنوع المباشرة فتأمله قاله الشيخ المناوي ا هـ .

وقد تقدم في الفرق العاشر والمائة توضيح الفرق بين ما تصح النيابة فيه وبين ما لا تصح النيابة فيه ، وفي الفرق الحادي والسبعين والمائة ما يوضحه من المسائل ، وبقي هنا مسألة ، وهي أنه قد تقدم أن ما كان من العبادة كالصلاة العينية من حيث إن مصلحتها الخضوع ، والخشوع ، وإجلال الرب سبحانه وتعالى ، وإظهار العبودية له لا تصح النيابة فيها لذاتها فرضا أو سنة أو رغيبة أو مندوبة لعدم سقوطها عن المستنيب إذا فعلها النائب عنه لفوات المصلحة التي طلبها الشارع حينئذ إذ لا يلزم من خضوع الوكيل خضوع الموكل ، وقال عبق على خليل ، وأما النيابة على إيقاعها بمكان وزمن مخصوصين فتصح كالقارئ مطلقا ، وكنيابة في أذان وإمامة ، ونحوهما كقراءة بمصحف بمكان مخصوص لضرورة ا هـ .

المراد قال البناني ، وفي التوضيح في باب الحج لما ذكر أن أجير الحج لا يجوز له أن يصرف ما أخذه من الأجرة إلا في الحج ، ولا يقضي بها دينه ، ويسأل الناس ، وأن ذلك جناية منه لأن ذلك خلاف غرض الميت الموصي كما أشار إليه في مختصره بقوله ، وجنى إن وفى دينه ، ومشى ما نصه ، وكان شيخنا يعني المنوفي رحمه الله تعالى يقول ، ومثل هذا المساجد ونحوها يأخذها الوجيه بوجاهته ثم يدفع من مرتباتها شيئا قليلا لمن ينوب عنه فأرى أن الذي أبقاه لنفسه حرام لأنه اتخذ عبادة الله متجرا ، ولم يوف بقصد صاحبها إذ مراده التوسعة ليأتي الأجير بذلك مشروح الصدر قال رحمه الله تعالى وأما إن اضطر إلى شيء من الإجارة على ذلك فإني أعذره لضرورته ا هـ .

فكلام المنوفي هذا صريح في أمرين : ( الأول ) أن النائب مع الضرورة ليس له إلا ما اتفق عليه مع المنوب عنه من قليل أو كثير . ( الثاني ) أن النائب مع عدم الضرورة مستحق لجميع الخراج ، وصريح كلام القرافي الموافقة للمنوفي في الأمر الأول [ ص: 57 ] ومخالفته في الأمر الثاني ، وأن الاستنابة إذا وقعت مع عدم الغدر لم يكن للنائب ، ولا للمنوب عنه شيء من خراج الوقف حيث قال في الفرق الخامس عشر والمائة ما نصه إذا وقف الواقف على من يقوم بوظيفة الإمامة أو الأذان أو الخطابة أو التدريس فلا يجوز لأحد أن يتناول من ريع ذلك شيئا إلا إذا قام بذلك الشرط على مقتضى ما شرطه الواقف فإن استناب غيره في هذه الحالة عنه في غير أوقات الأعذار فإنه لا يستحق واحد منهما شيئا من ريع ذلك الوقف أما النائب فلأن من شرط استحقاقه صحة ولايته ، وهي مشروطة بأن تكون ممن له النظر ، وهذا المستنيب ليس له نظر إنما هو إمام أو مؤذن أو خطيب أو مدرس فلا تصح الولاية الصادرة منه ، وأما المستنيب فلا يستحق شيئا أيضا بسبب أنه لم يقم بشرط الواقف فإن استناب في أيام الأعذار جاز له تناول ريع الوقف ، وأن يطلق لنائبه ما أحب من ذلك الريع ا هـ .

وسلمه أبو القاسم بن الشاط وأبو عبد الله القوري ا هـ .

كلام البناني بتصرف ، وفي حاشية كنون قال الشيخ المسناوي رحمه الله تعالى ، ويبقى النظر فيما يعد عذرا ، ويعتبر في ذلك شرعا فإن الأسباب العارضة للمرء منها ما تتعذر معه مباشرة الوظيفة عادة كالمرض الشديد والحبس والغيبة الجبرية ، ومنها ما تمكن المباشرة معه بترك ذلك العارض غير أن في تركه فوات منفعة أو ترتيب مضرة كخروج من لا كافي له إلى مطالعة ضيعته أو تفقد بعض شئونه أو شهود وليمة دعي إليها في وقت الوظيفة أو تشييع جنازة قريب أو صديق أو غيرهما ، وما أشبه ذلك ، ومنها ما تمكن معه أيضا مع عدم ترتب شيء من ذلك كقصد الاستراحة ، وكتعاطي أسباب غير حاجيته ، والظاهر أن المراد القسمان الأولان دون الثالث كما يدل له ما نقله في آخر نوازل الصلاة من المعيار عن إمامي المتأخرين من الشافعية عز الدين بن عبد السلام ومحيي الدين النووي من قول الأول ، ولا يستنيب إلا لعذر جرت العادة بالاستنابة فيه كالمرض والحبس ، وقول الثاني لعذر لا يعد بسببه مقصرا ، وما نقله أيضا في أثناء نوازل الحبس عن أبي محمد عبد الله العبدوسي من تمثيله للعذر بالخروج إلى الضيعة ، وانظر السفر للزيارة هل هو من القسم الثالث كما هو المتبادر أو من الثاني لجريان العادة به في الجملة ا هـ .

واعلم أن متولي الوظيفة إذا عطلها رأسا بأن لم يباشر القيام بها بنفسه ، ولا استناب فيها من يقوم مقامه لا يخلو حاله من أن يكون ذلك لعذر أو لغيره ، وفي كل إما أن تكون المدة كثيرة أو يسيرة ، والحكم أنه لا يستحق المرتب [ ص: 58 ] المجعول لمتوليها إلا في صورة واحدة ، وهي أن يكون عدم قيامه بها لعذر لا يعد بسببه مقصرا عادة ، والمدة مع ذلك يسيرة عرفا كما أفاده السيد عبد الله العبدوسي في جواب له مذكور في المعيار ، ونصه قال علماؤنا كل من جعل له مرتب على قراءة أو غيرها ثم لم يقم بذلك لعذر من مرض أو خوف أو لغير عذر فإنه لا يستحق ذلك المرتب كالأجير على شيء لا يقوم بحق المنفعة المستأجر عليها فإنه لا يستحق الأجرة إلا أن يكون ما عطل مدة يسيرة كخروجه إلى ضيعته ، وتفقد شئونه أو يمرض المدة اليسيرة فإنه لا يحرم الأجرة ا هـ .

ومثل للمدة اليسيرة في جواب له آخر مذكور فيه أيضا بالجملة ونحوها ، وكذا نقل ابن عرفة عن ابن فتوح انظر القول الكاشف ا هـ .

بلفظها ، وقد قدمت في الفرق الخامس عشر والمائة عن الشيخ منصور الحنبلي في شرحه على الإقناع أن مذهبهم جواز استنابة الأجير في مثل تدريس وإمامة وخطابة ونحوها جائزة ، ولو نهى الواقف عن ذلك إذا كان النائب مثل مستنيبه في كونه أهلا لما استنيب فيه فلا تغفل ، والله سبحانه وتعالى أعلم .

( فائدة ) في حاشية الرهوني على عبق ما نصه ابن يونس الأصل في جواز الوكالة قوله تعالى { فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة } وقوله { فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم } والأوصياء كالوكلاء ، ومن السنة حديث فاطمة بنت قيس حين طلقها زوجها ، وجعل وكيله ينفق عليها ، وأن { النبي صلى الله عليه وسلم أمر رجلا أن يشتري له أضحية بدينار فاشترى شاتين بدينار فباع واحدة بدينار فأتاه بشاة ودينار فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم بالبركة } ، والإجماع على جواز الوكالة للمريض والغائب والحاضر مثل ذلك ا هـ منه بلفظه ا هـ .

التالي السابق


الخدمات العلمية