صفحة جزء
فصل فيما يؤجر على قصده دون فعله وتختلف الأجور باختلاف رتب المصالح ; فإذا تحققت الأسباب والشرائط والأركان في الباطن ، فإن ثبت في الظاهر ما يوافق الباطن من تحقق الأسباب والشرائط والأركان ، فقد حصل مقصود الشرع ظاهرا أو باطنا من جلب المصالح ودرء المفاسد ، وترتب عليه ثواب الآخرة ، وإن كذب الظن بأن ثبت في الظاهر ما يخالف الباطن ، أثيب المكلف على قصد العمل بالحق ، ولا يثاب على عمله لأنه خطأ ولا ثواب على الخطأ ، لأنه مفسدة ولا ثواب على المفاسد ولذلك أمثلة أحدها ما ينتفع به الإنسان من المآكل والمشارب والملابس والمناكح والمساكن المراكب ، فإنه لا يقطع بحل شيء من ذلك ، فإن صدق ظنه فغلب حصلت المصلحة المقصودة من إباحة ذلك ، وإن كذب ظنه ، لزمه ضمان ما انتفع به من ذلك ، أو تلف عنده .

المثال الثاني : ما ينفقه المكلف من الأموال في القربات : كالزكاة والكفارات والأوقاف والصدقات وعمارة الربط والمدارس والمساجد والضحايا والهدايا والوصايا وجميع ما يتقرب به إلى الله من الأموال ، فإنه لا يقطع بحل شيء من [ ص: 132 ] ذلك ، فإن وافق ظاهره باطنه أثيب متعاطيه على قصده وفعله ، لأنه هم بحسنة وعملها ، فكتب له بذلك عشر حسنات بسبب ما حصله من مصالح تلك القربات . وإن اختلف ظنه في ذلك أو في شيء منه ، أثيب على قصده ونيته دون فعله ; لأن فعله خطأ معفو عنه ، لا يترتب عليه ثواب ولا يلحق به عقاب إذ لا يتقرب إلى الرب بشيء من أنواع المفاسد والشرور .

وكذلك قال صلى الله عليه وسلم في ثنائه على ربه عز وجل : { والخير كله في يديك ، والشر ليس إليك } : أي والشر ليس قربة ولا وسيلة إليك ; إذ لا يتقرب إلى الله إلا بأنواع المصالح والخيور ، ولا يتقرب إليه بشيء من أنواع المفاسد والشرور ، بخلاف ظلمة الملوك الذين يتقرب إليهم بالشرور ، كغصب الأموال وقتل النفوس ، وظلمهم العباد ، وإفشاء الفساد وإظهار العناد ، وتخريب البلاد ، ولا يتقرب إلى رب الأرباب إلا بالحق والرشاد ، فإن قيل : الجهاد إفساد ، وتفويت النفوس والأطراف والأموال ، وهو مع ذلك قربة إلى الله ؟ قلنا : لا يتقرب به من جهة كونه إفسادا ، وإنما يتقرب من جهة كونه وسيلة إلى درء المفاسد وجلب الصلاح ، كما أن قطع اليد المتآكلة وسيلة إلى حفظ الأرواح ، وليس مقصودا من جهة كونه إفسادا لليد .

وكذلك الفصد والحجامة وشرب الأدوية المرة البشعة ، وكذلك ما يتحمله الناس من المشاق التي هي وسائل المصالح .

المثال الثالث : أن يقضي المكلف دينه بمال يعتقد أنه ملكه ، أو ينفقه على من تلزمه نفقته من زوجه وأقاربه ورقيقه ودوابه ، وذلك المال في الباطن ملك لغيره ، فيثاب على قصده ونيته ، ولا يثاب على إنفاقه ، لأنه مفسدة ولا يثاب على المفاسد .

المثال الرابع : إذا اعتكف المكلف في مكان يظنه مسجدا ، فإن كان مسجدا في الباطن أثيب على قصده واعتكافه ، لأنه هم بحسنة وعملها ، وإن لم يكن مسجدا في الباطن أثيب على قصده دون اعتكافه ، لأن اعتكافه إفساد لمنافع لا يستحقها وتلزمه أجرتها . [ ص: 133 ] المثال الخامس : أن يقتل الحاكم من يجوز قتله في ظاهر الشرع ، أو يرجمه أو يحده ، أو يسلم المرأة إلى من ثبت أنه زوجها ، فإن كذب الظن في ذلك كله فإنه يؤجر على قصده ، ولا يؤجر على فعله ، لأنه معاونة على مفاسد عظيمة من قتل نفس معصومة ، وحد نفس بريئة مظلومة أو رجمها ، وتسليم امرأة أجنبية إلى من يزني بها ، والإعانة على المفاسد أقصى غاياتها أن يعفى عنها ، أما أن تكون سببا للثواب فلا .

وكذلك كل من ساعده وعاونه على تنفيذ أحكامه . وإن صدق ظنه في ذلك فقد أعان على إقامة الحق ، فيثاب على نيته وفعله ، لأنه هم بحسنات وعملها .

وكذلك كل من ساعده وعاونه من أتباعه وأنصاره على تنفيذ أحكامه . وقد أمرنا بالمعاونة على البر والتقوى ، ونهينا عن المعاونة على الإثم والعدوان .

ولو علم الشاهد والحاكم ومباشر القتل والرجم أن القتيل مظلوم ، وأن المرأة أجنبية ، كان إثم المباشر أعظم من إثم الحاكم إذا لم يخبر الحاكم ، وإثم الحاكم أعظم من إثم الشاهد ، لأن المباشر قد حقق المفاسد ، والحاكم سبب لمباشرته ، والشاهد سبب لحكم الحاكم . فإن قيل : لو صلى المكلف صلاة معتقدا لاجتماع أركانها وشرائطها ، ثم ظهر أنه صلى محدثا ، أو صلى قبل الوقت ، أو أن إمامه كان كافرا أو امرأة ، أو صلى على غير القبلة ، فهل يبطل جميع ما باشره من أفعال الصلاة وأقوالها وخضوعها وخشوعها أم لا ؟ فالجواب : أن ما لا يشترط فيه صحة الطهارة ولا الوقت ، كالتسبيح والتهليل ، والدعاء والتشهد والتسليم ، والصلاة والتسليم على سيد المرسلين ، والدعاء لنفسه وللمؤمنين ، والخضوع والخشوع ، وملاحظة معاني الأذكار والقراءة ، والخوف والرجاء ، والمهابة والإجلال ، فإن هذا كله صحيح يثاب كما لو فعله في غير [ ص: 134 ] الصلاة .

وأما ما يقف على الطهارة وعلى دخول الوقت ، فلا يثاب عليه ، لأنه خطأ محرم لو شعر به .

وأما قراءة القرآن في صلاة الجنب ففي الثواب عليها نظر مأخذه النظر في تعذر الجهة ، كما في الصلاة في الدار المغصوبة .

فإن قيل : قد قال عليه السلام : { إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر } ، فهذه كان بمثابته ؟ قلنا : لا يثاب المجتهد على خطئه وإنما ثوابه على اجتهاده وقصده فكذلك ههنا ، وإذ أصاب المجتهد فله أجر على قصده وأجر على إصابته ، كما ذكرناه فيما إذا وافق الظاهر الباطن في جلب المصالح ودرء المفاسد .

فإن قيل : لو فعل المكلف ما هو مفسدة في ظنه واعتقاده ، وليس بمفسدة في نفس الأمر ، فهل يعاقب عليه عقاب من عصى الله بتحقيق المفسدة ؟ فالجواب ألا يعاقب إلا على جرأته ومخالفته دون تحقيقه المفسدة ، لأن الأوزار تختلف باختلاف صغر المفاسد وكبرها ، وإنما قلنا إن المفاسد لا يثاب عليها ، إذ لا تعظيم فيها للرب ولا مصلحة فيها لعباده ، بل هي ضارة للعباد كما ذكرناها في رجم من لا يجوز رجمه ، وقتل من لا يجوز قتله ، وأخذ ما لا يجوز أخذه ، وتسليم من لا يجوز تسليمه ; كتسليم الجارية والزوجة بما بعث في الظاهر من البيع والنكاح على خلاف الباطن .

التالي السابق


الخدمات العلمية