صفحة جزء
وأما الأصابع : فيتعلق بها كل ما لا يتأتى إلا بها من الواجبات والمحرمات والمندوبات والمكروهات .

فأما الواجبات فكالرمي في سبيل الله وكتابة ما يجب كتابته ، وأما المندوبات فكقبض أصابع اليد اليمنى في التشهدين وعقد الإبهام مع المسبحة ورفع المسبحة عند الشهادة لله بالوحدانية ، وبسط أصابع اليد اليسرى على الفخذ اليسرى ، وفتح أصابع الرجلين في السجود ، والبداءة بتخليل خنصر أصابع الرجل اليمنى ، والختم بخنصر أصابع الرجل اليسرى ، لأن خنصر الرجل اليمنى هي يمين أصابعها وإبهامها هو يمين إبهام الرجل اليسرى وإبهام الرجل اليسرى يمين التي تليها .

وكذلك إلى آخرها ، وكذلك مسح الآذان بأصابع اليدين ولم يقدم الشرع مسح يمين الأذنين على يسراهما إذ لا فضل ليمناهما على يسراهما في المصلحة المقصودة منهما .

وكذلك لم يقدم يمين الخدين على الآخر بخلاف الأيدي والأرجل فإنه قدمت يمناها على يسراها في الطهارات والمصافحات والأكل والشرب والذبح لتمييزها بالقوى التي أودعها الله فيها ولأنها أشرف العضوين فكان من تعظيم العبادة وشكر النعم أن يستعمل فيها أفضل العضوين ، ولما شرفت بمباشرة العبادات كره الاستنجاء بها وأن يمس بها [ ص: 229 ] السوآت ، وكذلك لا يبدأ بها في الدخول في الحشوش ولا في الخروج من المساجد ولا شك أن مقابلة الشريف بالشريف حسنة في العقول ، وكذلك يبدأ بها في الانتقال لأنه إكرام لها ويؤخر نزعها لذلك ، ولأجل هذا المعنى بدئ بوجه البيت في الطواف لأنه أشرف جدرانه ، وابتدئ بالطواف من الحجر الأسود لأنه يمين البيت فيبدأ الطائف بوجه البيت من يمين الوجه ، وكذلك يدخل إلى مكة من ثنية كداء لأن الداخل منها يأتي البيت من قبل وجهه ، ولا يؤتى من ورائه ولا عن يمينه وشماله ولشرف وجه البيت أمرنا بصلاة ركعتي الطواف إليه دون سائر جهاته وهذا معروف في كل من جاء إلى بيت مكرما لربه أو زائرا فإنه يأتيه من قبل وجهه الذي فيه بابه ، وعليه يقف القاصدون ، ولذلك تزخرف الناس وجوه بيوتهم التي فيها أبوابهم ، وكل من أتى البيوت من أبوابها فقد أصاب .

وسمي اليمين يمينا لوقوعه على يمين البيت ، وسمي الشام شاما لأنه على شامة البيت ، وسمي الدبور دبورا لأنها تأتي من قبل دبر البيت وبابه نحو المشرق ، والذي يدل على ما ذكرته من اليمين واليسار ههنا أن كل شيء قابلته كان ما حذاء يمينك يسارا له وما حذاء يسارك يمينا له ، ولذلك يسمى جانباه الركنين اليمانيين ولذلك يسمى جانباه الآخران الركنين الشاميين ، وكذلك قدمنا الأعالي على الأسافل في الطهارة لشرفها فبدئ بالوجه لشرفه على سائر الأعضاء ولما اشتمل من الحواس والنطق ، وثنى باليدين لكثرة جدواهما في الطاعة وغيرها ، وقدم الرأس على الرجلين لشرفه عليهما ولا سيما لما استودع فيه من القوى الداركة والقوى الموجبة لحركات الأعضاء وأخرت الرجلان لتقاعدهما عما ذكرناه .

وقد أوجب الشافعي ذلك وخالفه أكثر العلماء ، وكذلك قال أكثرهم لا يجب ترتيب الغسل وخالف فيه بعضهم وقدمت المضمضة على الاستنشاق لشرف منافع الفم على منافع الأنف [ ص: 230 ] فإن قيل : كيف بدئ بغسل الفرجين في الإغسال ؟ قلنا : بدئ بهما لأنهما لو أخرا لانتقضت الطهارة بمسهما فقدما محافظة على الطهارة من الانتقاض من غير استعمال في طاعة ، وقد خرج عما ذكرته في تقديم اليمنى بالشرف ، حلق الرأس مع تساوي الشعر إذ لا فرق بين الفودين .

وكذلك في مواضع نادرة ككحل إحدى العينين وقص إحدى الشاربين .

وأما تقليم أظفار اليدين فإن نظرنا إلى الأفضل الأنفع فينبغي أن يبدأ بالمسبحة والإبهام ، وقد ذكر الغزالي في البداءة أشياء لا أصل لها ، ولعل البداءة بيمنى المتساويين تفعل تيمنا وتفاؤلا باليمنى والبركة ، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم { يحب الفأل ويكره الطيرة } ، لأن التفاؤل حسن الظن بالله والتطير سوء ظن بالله وقد قال تعالى ، { أنا عند ظن عبدي بي فيظن بي ما شاء } ، والتفاؤل أن يرى أو يسمع ما يدل على الخير فيرجوه ويطلبه وذلك حسن ظن بالله ، والطيرة أن يرى أو يسمع ما يدل على الشر فيخافه ويرهبه ، وذلك سوء ظن بالله .

فإن قيل : لم استحب حسن الظن عند الموت وترك الخوف بمعزل ؟ قلت : لأنه إنما شرع الخوف لأنه وسيلة زاجرة عن العصيان ، وإذا حضر الموت انقطعت المعاصي فسقط الخوف الذي هو رادع عنها مانع منها بخلاف حسن الظن .

التالي السابق


الخدمات العلمية