صفحة جزء
ولا تختص المشاق بالعبادات بل تجري في المعاملات .

مثاله : الغرر في البيوع ، وهو أيضا ثلاثة أقسام : أحدها ما يعسر اجتنابه كبيع الفستق والبندق والرمان والبطيخ في قشورها فيعفى عنه .

القسم الثاني : ما لا يعسر اجتنابه فلا يعفى عنه .

القسم الثالث : ما يقع بين الرتبتين وفيه اختلاف ، منهم من يلحقه بما عظمت مشقته ، لارتفاعه عما خفت مشقته ، ومنهم من يلحقه بما خفت مشقته لانحطاطه عما عظمت مشقته ، إلا أنه تارة يعظم الغرر فيه فلا يعفى عنه على الأصح كبيع الجوز الأخضر في قشرته ، وتارة يخف العسر فيه لمسيس الحاجة إلى بيعه فيكون الأصح جوازه كبيع الباقلاء الأخضر في قشرته .

[ ص: 12 ] فأما الصلاة فينتقل فيها القائم إلى القعود بالمرض الذي يشوش على الخشوع والأذكار ولا يشترط فيها الضرورة ولا العجز عن تصوير القيام اتفاقا ، ويشترط في الانتقال من القعود إلى الاضطجاع عذرا أشق من عذر الانتقال من القيام إلى القعود ; لأن الاضطجاع مناف لتعظيم العبادات ولا سيما والمصلي مناج ربه ، وقد قال - سبحانه - : { أنا جليس من ذكرني } .

وأما الأعذار في ترك الجماعات والجمعات فخفيفة ; لأن الجماعات سنة والجمعات بدل .

وأما الصوم فالأعذار فيه خفيفة كالسفر والمرض الذي يشق الصوم معه لمشقة الصوم على المسافر ، وهذان عذران خفيفان ، وما كان أشد منهما كالخوف على الأطراف والأرواح كان أولى بجواز الفطر .

وأما الحج : فالأعذار في إباحة محظوراته خفيفة إذ يجوز لبس المخيط فيه بالتأذي بالحر والبرد ، ويجوز حلق الرأس فيه بالتأذي من المرض والقمل ، وكذلك الطيب والدهن وقلم الأظفار .

وأما التيمم فقد جوزه الشافعي رحمه الله تارة بأعذار خفيفة ، ومنعه تارة على قول بأعذار أثقل منها ، والأعذار عنده رتب متفاوتة في المشقة .

الرتبة الأولى : مشقة عظيمة فادحة كالخوف على النفوس والأعضاء ومنافع الأعضاء فيباح بها التيمم .

الرتبة الثانية : مشقة دون هذه المشقة في الرتبة كالخوف من حدوث المرض المخوف ، فهذا ملحق بالرتبة العليا على الأصح .

الرتبة الثالثة : خوف إبطاء البرء وشدة الضنى ففي إلحاقه بالرتبة الثانية خلاف ، والأصح الإلحاق .

[ ص: 13 ] الرتبة الرابعة : خوف الشين إن كان باطنا لم يكن عذرا ، وإن كان ظاهرا ففيه خلاف والمختار الإباحة ، فهذه الأعذار كلها كما ذكرناه في إباحة الفطر في الصوم وفي إباحة القعود في الصلاة ويدل على ذلك صور جوز فيها الشافعي التيمم بمشاق خفيفة دون هذه المشاق .

أحدها : إذا بيع منه الماء بأكثر من ثمن المثل بشيء يسير فإنه لا يلزمه شراؤه ، ولا شك أن ضرر الغبن بدانق دون ضرر المشقة بظهور الشين ، وإبطاء البرء ، وشدة الضنى ، ولا سيما إذا ظهر الشين في وجوه النساء اللاتي نفاقهن في جمالهن ، مع أن ضرر الشين يدوم إلى الممات ، وضرر الغبن بالدانق ينصرم في الحال ، وقد خالف مالك في ذلك ، وخلافه متجه .

الصورة الثانية : إذا وهب منه ثمن الماء ، وهو درهم مثلا فإنه لا يلزمه قبوله ، وله أن يتيمم دفعا لتضرره بالمنة بالدرهم ، ولا شك أن تضرره بالشين والمرض المخوف وشدة الضنى وبطء البرء دوامها أعظم من تضرره بذلك مع تصرمه .

الصورة الثالثة : إذا كان معه ثمن الماء ، ولكنه محتاج إليه في نفقة سفره في ذهابه وإيابه ، فإنه يتيمم ، كي لا ينقطع عن سفره ويكون سفره سفر نزهة غير مهم في أمر الدين وتضرره لانقطاعه عن هذا السفر دون تضرره بما ذكرناه من المرض المخوف ، وشدة الضنى ، وبطء البرء ، وظهور الشين ، مع أن سفر النزهة من روعات النفوس التي لا يقصدها معظم العقلاء ، بخلاف التضرر بما ذكرناه فإنه مقصود الدفع لكل عاقل .

ونظير هذا التشديد في باب التيمم ، ما ذكره الشافعي ومالك - رحمهما الله [ ص: 14 ] في أن التحلل من الحج مختص بحصر العدو ، وقد خولفوا في ذلك ; لأن الآية دالة على جواز الخروج من الحج بالأعذار ، فإن الإحصار عند المعتبر من أهل اللغة موضوع لإحصار الأعذار ، والحصر موضوع لحصر الأعداء بدليل قوله : { وخذوهم واحصروهم } وقال بعض أهل اللغة هما لغتان في حصر الأعداء ، فإن قيل إن قوله : { فإن أحصرتم } الآية نزلت بالحديبية ولم يكن إحصار عذر وإنما كان إحصار عدو ؟ قلنا : فإنها دلت على إحصار العذر بمنطوقها ، وعلى إحصار العدو بمفهومها فتناولت الأمرين جميعا ، ونبهت على أن التحلل بحصر الأعذار أولى من التحلل بحصر الأعداء .

فإن قيل : قد قرن بها ما يدل على أنها نزلت في حصر الأعداء ، وهو قوله : { فإذا أمنتم } فالأمن إنما يستعمل في زوال الخوف من الأعداء دون زوال الأمراض والأعذار ؟ فالجواب أن الآية لما دلت على أن التحلل بالحصر أولى يرجع الأمر إلى ما دلت عليه الآية بطريق الأولى لا بطريق اللفظ ، وإن جعلنا حصر وأحصر لغتين دل أحصر على الأمرين ، ورجع لفظ الأمن إلى أحدهما دون الآخر ، والذي ذكره مالك والشافعي لا نظير له في الشريعة السمحة التي قال الله - تعالى - فيها : { وما جعل عليكم في الدين من حرج } ، وقال فيها : { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } وقال : { يريد الله أن يخفف عنكم } ، فإن من انكسرت رجله وتعذر عليه أن يعود إلى الحج والعمرة يبقى في بقية عمره حاسر الرأس متجردا من اللباس محرما عليه النكاح والإنكاح ، وأكل الصيود والتطيب والأدهان ، وقلم الأظفار وحلق الشعر ولبس الخفاف والسراويلات ، ، وهذا بعيد من رحمة الشرع ورفقه ولطفه بعباده .

[ ص: 15 ] الصورة الرابعة : أن أصحابنا قالوا لا يلزمه طلب الماء من فرسخ ولا من نصف فرسخ لما فيه من المشقة ، ولا شك أن هذه المشقة أخف مما ذكرناه من المرض المخوف ، وبطء البرء ، وشدة الضنى ، وظهور الشين ، وكذلك قالوا لا يطلبه مع الخوف على ماله ، ولم يفرقوا بين المال القليل والكثير ، قالوا : بل يطلبه من مكان لو استغاث منه برفقته لأغاثوه مع ما هم عليه من اشتغالهم .

وأما المنة فجعلوها ثلاثة أقسام : أحدها أن يوهب منه ثمن الماء والدلو والرشاء فيجوز له التيمم لعظم المنة فيها .

القسم الثاني : أن يوهب منه الماء أو يعار الدلو والرشاء أو يقرض ثمن الماء مع القدرة على الوفاء فلا يجوز له التيمم لخفة مشقة المنة بمثل ذلك .

القسم الثالث : هل يجب عليه استيهاب الماء أو استعارة الدلو والرشاء فيه ، فإن قيل : المشاق تنقسم إلى ما هو في أعلى مراتب الشدة ، وإلى ما هو في أدناها ، وإلى ما يتوسط بينهما ، فكيف تعرف المشاق المتوسطة المبيحة التي لا ضابط لها ، مع أن الشرع قد ربط التخفيفات بالشديد والأشد والشاق والأشق ، مع أن معرفة الشديد والشاق متعذرة ; لعدم الضابط ؟ قلنا : لا وجه لضبط هذا وأمثاله إلا بالتقريب فإن ما لا يحد ضابطه لا يجوز تعطيله ، ويجب تقريبه ، فالأولى في ضابط مشاق العبادات أن تضبط مشقة كل عبادة بأدنى المشاق المعتبرة في تلك العبادة ، فإن كانت مثلها أو أزيد ثبتت الرخصة بها ، ولن يعلم التماثل إلا بالزيادة ، إذ ليس في قدرة البشر الوقوف على تساوي المشاق ، فإذا زادت إحدى المشقتين على الأخرى علمنا أنهما قد استويا فما [ ص: 16 ] اشتملت عليه المشقة الدنيا منهما وكان ثبوت التخفيف والترخيص بسبب الزيادة أو ; لأمثال ذلك .

أن التأذي بالقمل مبيح للحلق في حق الناسك فينبغي أن يعتبر تأذيه بالأمراض بمثل مشقة القمل ، كذلك سائر المشاق المبيحة للبس والطيب والدهن وغير ذلك من المحظورات ، وكذلك ينبغي أن تقرب المشاق المبيحة للتيمم بأدنى مشقة أبيح بمثلها التيمم ، وفي هذا إشكال ، فإن مشقة الزيادة اليسيرة على ثمن المثل ، ومشقة الانقطاع من سفر النزهة خفيفة لا ينبغي أن يعتبر بها الأمراض .

وأما المبيح للفطر فينبغي أن تقرب مشقته بمشقة الصيام في الحضر ، فإذا شق الصوم مشقة تربى على مشقة الصوم في الحضر فليجز الإفطار بذلك ، ولهذا نظائر كثيرة .

: منها مقادير الأغرار في المعاملات ، ومنها توقان الجائع إلى الطعام وقد حضرت الصلاة ، ومنها التأذي بالرياح الباردة في الليلة المظلمة ، وكذلك التأذي بالمشي في الوحل ، ومنها غصب الحكام المانع من الإقدام على الحكام ، فإن المراتب في ذلك كله مختلفة ، ولا ضابط لمتوسطاتها إلا بالتقريب .

وقد ضبط غصب الحاكم بما يمنع من استيفاء النظر وكل هذه تقريبات يرجع في أمثالها إلى ظنون المكلفين ، ولا ينهى الحاكم الغضبان عن الحكم بما هو معلوم له إذ لا حاجة به إلى النظر فيه مثاله أن يدعي إنسان على إنسان بدرهم معلوم فينكره فلا يكره للحاكم الحكم بينهما إذ لا يحتاج في هذه المسألة إلى نظر واعتبار بل حكمه في حال رضاه ، فإن قيل قد تقرر في الشرع أن ما لا يمكن ضبطه لا يجب الحمل على أقله كمن باع عبدا ، وشرط أنه كاتب أو نجار أو رام أو بان فإن الشرط يحمل على أقل رتبة الكتابة والتجارة والخياطة والبناء ، وكذلك من أسلم في شيء ووصفه بصفات لكل [ ص: 17 ] واحدة منهن رتب عالية ، ورتب دانية ، ورتب متوسطة .

فإنه يحمل على أدناهن ، إذ لا ضبط لما زاد عليها ، فإذا وصف الجارية بإشراق اللون ، أو بالكحل ، أو بالبياض حمل على أقل رتب ذلك ، وكذلك سائر الصفات ، فهلا قلتم بالحمل ههنا على أدنى رتب المشاق لعسر ضبط رتب المشاق الزائدة على أدناهن ؟ قلنا : لا يجوز تفويت مصالح العبادات مع عظمها وشرفها بمثل هذه المشاق مع خفتها وسهولة تحملها ، بل تحمل هذه المشاق لا وزن له في تحصيل مصالح العبادات ; لأن مصالح العبادات باقية أبد الآبدين ودهر الداهرين مع ما يبتنى عليها من رضا رب العالمين ، ولذلك كان اجتناب الترخص في معظم هذه المشاق أولى ; لأن تحمل المشاق فيها أعظم أجرا من تعاطيه بغير مشقة ; لما ذكرناه من فضل تحمل المشاق ; لأجل الله .

وإنما حملنا في المعاملات على الأقل تحصيلا لمقاصد المعاملات ومصالحها ، فإن الحمل على الأعلى يؤدي في السلم إلى عزة الوجود ، وهي مبطلة للسلم ، والحمل في الصفات المشروطة في البيوع على الأعلى يؤدي إلى كثرة التنازع والاختلاف ، والحمل على ما بينهما لا ضابط له ، ولا وقوف عليه ; فتعذر تجويزه ; لعدم الاطلاع عليه .

التالي السابق


الخدمات العلمية