صفحة جزء
واعلم أن الأجساد مساكن الأرواح وللساكن والمسكن أحوال :

إحداها : أن يكون الساكن أشرف من المسكن .

الثانية : أن يكون المسكن أشرف من الساكن الثالث : يتساويا في الشرف فلا يفضل أحدهما على الآخر وإذا كان الشرف للساكن فلا مبالاة بخساسة المسكن ، وإذا كان الشرف للمسكن فلا يتشرف به الساكن والأجساد مساكن الأرواح ، وقد اختلف الناس في التفضيل الواقع بين البشر والملك : فإن فاضل بينهما مفضل من جهة تفاوت الأجساد التي هي مساكن الأرواح فلا شك أن الملائكة أفضل وأشرف من أجساد البشر المركبة من الأخلاط المستقذرة ، وإن فاضل بين أرواح البشر وأرواح الملائكة مع قطع النظر إلى الأجساد ، فأرواح الأنبياء أفضل من أرواح الملائكة ، لأنهم فضلوا عليهم من وجوه : أحدها الإرسال ورسل الملائكة قليل ، ولأن رسول الملائكة يأتي إلى نبي واحد ، ورسول الأمم يأتي إلى أمم وإلى أمة واحدة فيهديهم الله على يديه فيكون له أجر تبليغه ، ومثل أجر كل من اهتدى على يديه ، وليس مثل هذا الملك .

الثاني : القيام بالجهاد في سبيل الله .

الثالث : الصبر على المصائب الدنيا ومحنها والله يحب الصابرين .

الرابع : الرضا بمر القضاء وحلوه .

الخامس : نفع العباد بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجلب المنافع ودفع المكاره ، وليس للملائكة شيء مثل هذا

السادس : ما أعده في الآخرة لعباده الصالحين مما لا عين رأت [ ص: 233 ] ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، ولم يثبت مثل هذا للملائكة .

السابع : ما أعده الله لهم في الآخرة من النعيم الروحاني كالأنس والرضا والنظر إلى وجهه الكريم ، وليس للملائكة مثل هذا .

فإن قيل الملائكة يسبحون الليل والنهار لا يفترون ، والأنبياء يفترون وينامون ؟ قلت إذا فترت الأنبياء عن التسبيح فقد يأتون في حال فتورهم من الثناء على الله ومن الطاعات والعبادات بما هو أفضل من التسبيح ، والنوم مختص بأجسادهم ، وقلوبهم متيقظة غير نائمة وسيساوونهم في الآخرة في إلهام التسبيح كما يلهمون النفس .

الوجه الثامن : وهو مختص بآدم عليه السلام أن الله عرفه من أسماء كل شيء ومنافعه ما لا يعرفون . الوجه التاسع : وهو أيضا مختص به أن الله تعالى أمر الملائكة بالسجود لآدم ، ولا شك أن المسجود له أفضل وأشرف من الساجدين .

وعلى الجملة فما يفضل الملائكة على الأنبياء إلا هجام يبنى التفضيل على خيالات توهمها ، وأوهام فاسدة اعتمدها ولم يتقرر بالخيالات والتوهمات من أمور يعلم الله خلافها ، بل قد يرى الإنسان اثنين فيظن أن أحدهما أفضل من الآخر ، لما يرى من طاعته الظاهرة ، والآخر أفضل منه بدرجات كثيرة لما اشتمل عليه من المعارف والأحوال ، والقليل من أعمال الأعرف خير من الكثير من أعمال العارف ، وأين الثناء من المستحضرين لأوصاف الجلال وتعرف الكمال من ثناء المسبحين بألسنتهم الغافلين بقلوبهم .

ليس التكحل في العينين كالكحل



ليس استجلاب الأحوال باستذكارها المعارف كمن تحضره المعارف بغير سعي ولا اكتساب ، ولا عبرة بفضل أجساد الملائكة على أجساد الأنبياء ، لأن الأجساد مساكن ولا شرف بالمساكن ، وإنما الشرف بالأوصاف القائمة [ ص: 234 ] بالساكن ، والاعتبار إنما هو بالساكنين دون المساكن ، فإن الأنبياء قد سكنوا بطون أمهاتهم مع القطع بأنهم أفضل من أمهاتهم .

نفس عصام سودت عصاما



فروح المسيح عليه السلام أفضل من جسد مريم ، وكذلك روح إبراهيم عليه السلام أفضل من جسد أمه .

وأما من كفر من أولاد المؤمنات فهم شر البرية ، ومساكنهم خير منهم ، فإذا حملت مؤمنة بكافر كان جسدها خيرا من روحه ، إذ قام بروحه أخس الصفات وهو الكفر برب الأرضين والسموات .

فإن قيل أين محل الأرواح من الأجساد ؟ قلنا في كل جسد روحان : إحداهما : روح اليقظة ، وهي الروح التي أجرى الله العادة أنها إذا كانت في الجسد كان الإنسان مستيقظا ، فإذا خرجت من الجسد نام الإنسان ورأت تلك الروح المنامات إذا فارقت الجسد ، فإن رأتها في السموات صحت الرؤيا فلا سبيل للشياطين إلى السموات ، وإن رأتها دون السماء كان من إلقاء الشياطين وتحريفهم ، فإذا رجعت هذه الروح إلى الإنسان يستيقظ الإنسان كما كان .

الروح الثانية : روح الحياة وهي الروح التي أجرى الله العادة أنها إذا كانت في الجسد كان حيا ، فإذا فارقته مات الجسد فإذا رجعت إليه حيي .

وهاتان الروحان في باطن الإنسان لا يعرف باطن مقرهما إلا من أطلعه الله على ذلك ، فهما كجنينين في بطن امرأة واحدة ، وقد يكون في بطن [ ص: 235 ] الإنسان روح ثالثة وهي روح الشيطان ومقرها الصدور بدليل قوله : { الذي يوسوس في صدور الناس } وجاء في [ الحديث الصحيح : { إن المتثائب إذا قال هاه هاه ضحك الشيطان في جوفه } وجاء في الحديث : { إن للملك لمة وإن للشيطان لمة } وقال بعض المتكلمين : الذي يظهر أن الروح بقرب القلب ، ولا يبعد عندي أن يكون الروح في القلب ، ويجوز أن يحضر الملك في باطن الإنسان حيث يحل الروحان ، ويحضر الشيطان .

ويجوز في كل واحدة من الأرواح أن تكون جوهرا فردا يقوم به ما يليق به من الصفات الخسيسة والنفيسة ، ويجوز أن تكون كل واحدة منهن جسما لطيفا حيا سميعا بصيرا عليما قديرا مريدا متكلما ، فتكون حيوانا كاملا في داخل حيوان ناقص ، ويجوز أن تكون الأرواح كلها نورانية لطيفة شفافة ، ويجوز أن يخص ذلك بأرواح المؤمنين والملائكة ، دون أرواح الجن والشياطين .

فإن قيل : إذا أتى جبريل النبي عليه السلام في صورة دحية فأين تكون روحه ؟ في الجسد الذي يتشبه بجسد دحية ، أم في الجسد الذي خلق عليه ستمائة جناح ؟ فإن كانت في الجسد الأعظم فما الذي أتى إلى الرسول جبريل لا من جهة روحه ولا من جهة جسده ، وإن كانت في الجسد المشبه دحية فهل يموت الجسد الذي له ستمائة جناح كما تموت الأجساد إذا فارقتها الأرواح أم يبقى حيا خاليا من الروح المنتقلة من الجسد المشبه بجسد دحية ؟ قلت : لا يبعد أن يكون انتقالها من الجسد الأول غير موجب لموته ، لأن موت الأجساد بمفارقة الأرواح ليس بواجب عقلا ، وإنما هو بعبادة مطردة [ ص: 236 ] أجراها الله في أرواح بني آدم فيبقى ذلك الجسد حيا لا ينقص معارفه ولا طاعته شيء ، ويكون انتقال روحه إلى الجسد الثاني كانتقال أرواح الشهداء إلى أجواف الطيور الخضر ، تأكل تلك الطيور من ثمار الجنة وتشرب من أنهارها وتأوي إلى قناديل معلقة بالعرش .

وقالت طائفة : الأرواح باقية في القبور ، ولذلك سلم عليه السلام عليهم وأمرنا بالتسليم عليهم ، وقال : { سلام على أهل الديار من المسلمين والمؤمنين } وأهل الدار في عرف الناس من سكن الدار أو كان بفنائها ، وقد أمرنا بالاستعاذة من عذاب القبر ، ومر بقبرين فقال : { إنهما يعذبان وما يعذبان في كبير } وهذا يدل على أن الأرواح في القبور دون أفنيتها وهو المختار .

ولذلك قال عليه السلام في المؤمن : { ويفسح له في قبره ويملأ عليه خضرا إلى يوم يبعثون } وقيل إن الأنبياء ترفع أجسادهم ولم يثبت ذلك ، وزعمت طائفة أن أرواح الكفار ببئر باليمن وظاهر السنة يرد عليهم فإنه عليه السلام أمر بالتعوذ من عذاب القبر ، وقال : { لولا أن لا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب الموتى في قبورهم } والأرواح كلها تنتقل يوم القيامة إلى أجساد غير أجسادها ، لأن ضرس الكافر مثل أحد ، وغلظ جسده مسيرة ثلاثة أيام ، ومقعده كما بين مكة والمدينة ، وأجساد المؤمنين على هيئة جسد آدم ستون ذراعا في السماء (

فما الديار الديار ولا الخيام الخيام

) .

التالي السابق


الخدمات العلمية