صفحة جزء
( فصل ) والقسم الرابع من أحكام هذه الإمارة ما يلزم المجاهدين معه من حقوق الجهاد وهو ضربان : أحدهما ما يلزمهم في حق الله تعالى .

والثاني : ما يلزمهم في حق الأمير فأما اللازم لهم في حق الله تعالى فأربعة أشياء :

أحدها مصابرة العدو عند التقاء الجمعين بأن لا ينهزم عنه من مثليه فما دونه ، وقد [ ص: 55 ] كان الله تعالى فرض في أول الإسلام على كل مسلم أن يقاتل عشرة من المشركين ، فقال : { يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين ، وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون } .

ثم خفف الله عز وجل عنهم عند قوة الإسلام وكثرة أهله فأوجب على كل مسلم لاقى العدو أن يقاتل رجلين منهم .

فقال : { الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا ، فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين ، وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين } .

وحرم على كل مسلم أن ينهزم من مثليه إلا لإحدى حالتين : إما أن يتحرف لقتال فيولي لاستراحة أو لمكيدة ويعود إلى قتالهم ، وإما أن يتحيز إلى فئة أخرى يجتمع معها على قتالهم لقول الله تعالى : { ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله } .

وسواء قربت الفئة التي يتحيز إليها أو بعدت فقد قال عمر رضي الله عنه لأهل القادسية حين انهزموا إليه أنا فئة لكل مسلم ، ويجوز إذا زادوا على مثليه ولم يجد إلى المصابرة سبيلا أن يولي عنهم غير متحرف لقتال ولا متحيز إلى فئة ، هذا مذهب الشافعي .

واختلف أصحابه فيمن عجز عن مقاومة مثليه وأشرف على القتل في جواز انهزامه ، فقالت طائفة : لا يجوز أن يولي عنهم متهوما وإن قتل للنص فيه وقالت طائفة : يجوز أن يولي ناويا أن يتحرف لقتال [ ص: 56 ] أو يتحيز إلى فئة ليسلم من القتل وما ثم خلاف ، فإنه وإن عجز عن المصابرة فليس يعجز عن هذه النية . وقال أبو حنيفة لا اعتبار بهذا التفصيل والنص فيه منسوخ وعليه أن يقاتل ما أمكنه وينهزم إذا عجز وخاف القتل . والثاني أن يقصد بقتاله نصرة دين الله تعالى وإبطال ما خالفه من الأديان : { ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون } .

فيكون بهذا الاعتقاد حائزا لثواب الله تعالى ومطيعا له في أوامره ونصرة دينه ومستنصرا به على عدوه ليستهل ما لاقي ، فيكون أكثر ثباتا وأبلغ نكاية ، ولا يقصد بجهاده استفادة المغنم فيصير من المكتسبين لا من المجاهدين ، { فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما جمع أسرى بدر وكانوا أربعة وأربعين رجلا بعد أن قتل في المعركة من أشراف قريش مثلهم شاور أصحابه فيهم فقال عمر : يا رسول الله اقتل أعداء الله أئمة الكفر ورءوس الضلالة فإنهم كذبوك وأخرجوك ، وقال أبو بكر : هم عشيرتك وأهلك تجاوز عنهم يستنقذهم الله بك من النار ، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة قبل الأسرى بيوم فمن قائل القول ما قاله عمر ومن قائل القول ما قال أبو بكر ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه وقال : ما قولكم في هذين الرجلين ؟ إن مثلهما كمثل إخوة لهما كانوا من قبلهما قال نوح { رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا } وقال موسى : { ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم } وقال عيسى : { إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم } وقال إبراهيم : { فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم } إن الله سبحانه ليشدد قلوب رجال فيه حتى تكون أشد من الحجارة ، ويلين قلوب رجال حتى تكون ألين من اللبن وإن يكن منكم عيلة فلا ينقلب أحد منكم إلا بفداء أو ضربة عنق . وفاداه كل أسير بأربعة آلاف درهم وكان في الأسرى العباس بن عبد [ ص: 57 ] المطلب أسره أبو اليسر كان العباس رجلا جسيما وأبو اليسر رجلا مجتمعا فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي اليسر : كيف أسرت العباس يا أبا اليسر ؟ قال : يا رسول الله لقد أعانني عليه رجل ما رأيته قط ، هيئته كذا وكذا . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لقد أعانك عليه ملك كريم : وقال للعباس : افد نفسك وابني أخيك عقيل بن أبي طالب ، ونوفل بن الحارث وحليفك عتبة بن عمر . فقال يا رسول الله إني كنت مسلما ولكن القوم استكرهوني . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أعلم بإسلامك . فإن كان ما قلت فإن الله سبحانه يجزيك . ففدى العباس نفسه بمائة أوقية وفدى كل واحد من ابني أخيه وحليفه بأربعين أوقية } .

ونزل في العباس قوله تعالى : { يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا مما أخذ منكم ويغفر لكم والله غفور رحيم } .

فلما أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم فداء أسرى بدر لفقر المهاجرين وحاجتهم عاتب الله تعالى نبيه على ما فعل فقال : { ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض } يعني به القتل { تريدون عرض الدنيا } يعني مال الفداء { والله يريد الآخرة } يعني العمل بما يوجب ثواب الآخرة { والله عزيز حكيم } يعني عزيز فيما كان من نصركم ، حكيم فيما أراده لكم ، { لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم } .

يعني به مال الفداء المأخوذ من الأسر ، وفيه ثلاثة تأويلات : أحدها لولا كتاب من الله سبق في أهل بدر أن لا يعذبهم لمسكم فيما [ ص: 58 ] أخذتم من فداء أسرى بدر عذاب عظيم ، وهذا قول مجاهد . والثاني لولا كتاب من الله سبق في أنه تستحل الغنائم لمسكم في تعجيلها من أهل بدر عذاب عظيم ، وهذا قول ابن عباس رضوان الله عليه .

والثالث : لولا كتاب من الله سبق أن لا يؤاخذ أحدا بعمل أتاه على جهالة لمسكم فيما أخذتموه عذاب عظيم ، وهذا قول ابن إسحاق ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية : { لو عذبنا الله في هذه الآية يا عمر ما نجا غيرك } .

والثالث : من حقوق الله تعالى أن يؤدي الأمانة فيما حازه من الغنائم ولا يغل أحد منهم شيئا حتى يقسم بين جميع الغانمين ممن شهد الواقعة وكان على العدو يدا لأن لكل واحد منهم فيها حقا ; قال الله تعالى : { وما كان لنبي أن يغل ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة } .

وفيه ثلاثة تأويلات : أحدها وما كان لنبي أن يغل أصحابه ويخونهم في غنائمهم ، وهذا قول ابن عباس رضوان الله عليه .

والثاني : وما كان لنبي أن يغله أصحابه ويخونوه في غنائمهم وهذا قول الحسن وقتادة .

والثالث : ما كان لنبي أن يكتم أصحابه ما بعثه الله تعالى به إليهم لرهبة منهم ولا لرغبة فيهم ، وهذا قول محمد بن إسحاق .

والرابع : من حقوق الله تعالى أن لا يمايل من المشركين ذا قربى ولا يحابي في نصرة دين الله ذا مودة فإن حق الله أوجب ونصرة دينه ألزم ، قال الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق } . { نزلت في حاطب بن أبي بلتعة وقد كتب كتابا إلى أهل مكة حين هم رسول الله صلى الله عليه وسلم بغزوهم يعلمهم فيه حال مسيره إليهم وأنفذه مع سارة مولاة [ ص: 59 ] لبني عبد المطلب فأطلع الله نبيه عليها فأنفذ عليا والزبير في أثرها حتى أخرجاه من قرن رأسها ، فدعا حاطبا وقال ما حملك على ما صنعت ؟ فقال والله يا رسول الله إني لمؤمن بالله ورسوله ما كفرت ولا بدلت ولكني امرؤ ليس لي في القوم أصل ولا عشيرة وكان لي بين أظهرهم أهل ولد فطالعتهم بذلك وعفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم } .

وأما ما يلزمهم في حق الأمير عليهم فأربعة أشياء : أحدها التزام طاعته والدخول في ولايته لأن ولايته عليهم انعقدت وطاعته بالولاية وجبت ، قال الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم } .

وفي أولي الأمر تأويلان : أحدهما أنهم الأمراء ، وهذا قول ابن عباس رضوان الله عليه .

والثاني أنهم العلماء ، وهذا قول جابر بن عبد الله والحسن وعطاء ; وروى أبو صالح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { : من أطاعني فقد أطاع الله . ومن أطاع أميري فقد أطاعني . ومن عصاني فقد عصى الله . ومن عصى أميري فقد عصاني } .

والثاني : أن يفوضوا الأمر إلى رأيه ويكلوه إلى تدبيره حتى لا تختلف آراؤهم فتتلف كلمتهم ويفترق جمعهم ، قال تعالى : { ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم } .

فجعل تفويض الأمر إلى وليه سببا لحصول العلم وسداد الأمر ، فإن ظهر لهم صواب خفي عليه بينوه له وأشاروا به عليه ، ولذلك ندب إلى المشاورة ليرجع بها إلى الصواب .

والثالث : أن يسارعوا إلى امتثال الأمر والوقوف عنه نهيه وزجره ، لأنهما من لوازم طاعته . فإن توقفوا عما أمرهم به وأقدموا على ما نهاهم عنه فله تأديبهم على المخالفة بحسب أحوالهم ولا يغلظ ، فقد قال الله تعالى : [ ص: 60 ] { فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك } ، وروى سعيد بن المسيب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { خير دينكم أيسره } .

والرابع : أن لا ينازعوه في الغنائم إذا قسمها ويرضوا منه بتعديل القسمة عليهم فقد سوى الله تعالى فيها بين الشريف والمشروف ، وماثل بين القوي والضعيف . وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده .

{ إن الناس اتبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حنين يقولون اقسم علينا فيئنا حتى ألجأه إلى شجرة فاختطف عنه رداؤه ، فقال ردوا علي ردائي أيها الناس والله لو كان لكم عدد شجر تهامة نعما لقسمته عليكم . وما ألفيتموني بخيلا ولا جبانا ولا كذوبا . ثم أخذ وبرة من سغام بعيره فرفعها وقال : يا أيها الناس والله مالي من فيئكم ولا هذه الوبرة إلا الخمس والخمس مردود فيكم . فأدوا الخيط والمخيط ، فإن الغلول يكون على أهله عارا ونارا وشنارا يوم القيامة فجاءه رجل من الأنصار بكبة من خيوط شعر . فقال : يا رسول الله أخذت هذه الكبة أعمل بها برذعة بعير لي قد برد . فقال : أما نصيبي منها فلك ، فقال أما إذا بلغت هذا فلا حاجة لي فيها ثم طرحها بين يديه } .

التالي السابق


الخدمات العلمية