صفحة جزء
( فصل ) ولا تخلو ولاية القاضي من عموم أو خصوص ، فإن كانت ولايته عامة مطلقة التصرف في جميع ما تضمنته فنظره مشتمل على عشرة أحكام :

أحدها : ( فصل ) في المنازعات وقطع التشاجر والخصومات ، إما صلحا عن تراض ويراعى فيه الجواز أو إجبارا بحكم بات يعتبر فيه الوجوب . والثاني استيفاء الحقوق ممن مطل بها وإيصالها إلى مستحقيها بعد ثبوت استحقاقها من أحد وجهين : إقرار ، أو بينة . واختلف في جواز حكمه فيها بعلمه ; فجوزه مالك والشافعي رضي الله عنهما [ ص: 90 ] أصح قوليه ، ومنع منه في القول الآخر .

وقال أبو حنيفة رحمه الله يجوز أن يحكم بعلمه فيما علمه في ولايته ولا يحكم بما علمه قبلها .

والثالث : ثبوت الولاية على من كان ممنوع التصرف بجنون أو صغر والحجر على من يرى الحجر عليه لسفه أو فلس حفظا للأموال على مستحقيها وتصحيحا لأحكام العقود فيها .

والرابع : النظر في الأوقات بحفظ أصولها وتنمية فروعها والقبض عليها وصرفها في سبيلها ، فإن كان عليها مستحق للنظر فيها راعاه وإن لم يكن تولاه ، لأنه لا يتعين للخاص فيها إن عمت ، ويجوز أن يفضي إلى العموم وإن خصت .

والخامس : تنفيذ الوصايا على شروط الموصي فيما أباحه الشرع ولم يحظره . وإن كانت لمعينين كان تنفيذها بالإقباض ، وإن كانت في موصوفين كان تنفيذها أن يتعين مستحقوها بالاجتهاد ويملكوا بالإقباض ، فإن كان فيها وصي راعاه وإن لم يكن تولاه .

والسادس : تزويج الأيامى بالأكفاء إذا عدمن الأولياء ودعين إلى النكاح ، ولا يجعله أبو حنيفة رضي الله عنه من حقوق ولايته لتجويزه تفرد الأيم بعقد النكاح .

والسابع : إقامة الحدود على مستحقيها ، فإن كان من حقوق الله تعالى تفرد باستيفائه من غير طالب إذا ثبت بإقرار أو بينة ، وإن كان من حقوق الآدميين كان موقوفا على طلب مستحقه .

وقال أبو حنيفة لا يستوفيها معا إلا بخصم مطالب .

والثامن : النظر في مصالح عمله من الكف عن التعدي في الطرقات والأفنية وإخراج ما لا يستحق من الأجنحة والأبنية ، وله أن ينفرد بالنظر فيها وإن لم يحضره خصم .

وقال أبو حنيفة لا يجوز له النظر فيها إلا بحضور خصم مستعد ، وهي من حقوق الله تعالى التي يستوي فيها المستعدي وغير المستعدي فكان تفرد الولاية بها أخص .

والتاسع : تصفح شهوده وأمنائه واختيار النائبين عنه من خلفائه في إقرارهم والتعويل عليهم مع ظهور السلامة والاستقامة وصرفهم والاستبدال بهم مع ظهور الجرح والخيانة .

ومن ضعف منهم عما يعانيه كان موليه بالخيار من أصلح الأمرين : إما أن يستبدل به من هو أقوى منه وأكفى ، وإما أن يضم إليه من يكون اجتماعه عليه أنفذ وأمضى .

والعاشر : التسوية في الحكم بين القوي والضعيف والعدل في القضاء بين المشروف والشريف ، ولا يتبع هواه [ ص: 91 ] في تقصير المحق أو ممايلة مبطل ، قال الله تعالى : { يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب } .

وقد استوفى عمر بن الخطاب رضي الله عنه في عهده إلى أبي موسى الأشعري شروط القضاء وبين أحكام التقليد فقال فيه : أما بعد ، فإن القضاء فريضة محكمة وسنة متبعة ، فافهم إذا أدلي إليك ، فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له ، وآس بين الناس في وجهك وعدلك ومجلسك حتى لا يطمع شريف في حيفك ولا ييأس ضعيف من عدلك . البينة على من ادعى واليمين على من أنكر ; والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا ; ولا يمنعك قضاء قضيته أمس فراجعت اليوم فيه عقلك وهديت فيه لرشدك أن ترجع إلى الحق فإن الحق قديم ، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل ; الفهم الفهم فيما تلجلج في صدرك مما ليس في كتاب الله تعالى ولا سنة نبيه ، ثم اعرف الأمثال والأشباه ; وقس الأمور بنظائرها ، واجعل لمن ادعى حقا غائبا أو بينة أمدا ينتهي إليه ، فمن أحضر بينة أخذت له بحقه وإلا استحللت القضية عليه ، فإن ذلك أنفى للشك وأجلى للعمى ; والمسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلودا في حد أو مجربا عليه شهادة زور أو ظنينا في ولاء أو نسب ، فإن الله عفا عن الأيمان ودرأ بالبينات . وإياك والقلق والضجر والتأفف بالخصوم فإن الحق في مواطن الحق يعظم الله به الأجر ويحسن به الذكر ، والسلام .

فإن قيل : ففي هذا العهد خلل من وجهين : أحدهما خلوه من لفظ التقليد الذي تنعقد به الولاية : والثاني اعتباره في الشهود عدالة الظاهر والمعتبر فيه عدالة الباطن بعد الكشف والمسألة .

قيل : أما خلوه عن لفظ التقليد ففيه [ ص: 92 ] جوابان : أحدهما أن التقليد تقدمه لفظا وجعل العهد مقصورا على الوصاية والأحكام .

والثاني : أن ألفاظ العهد تتضمن معاني التقليد مثل قوله " فافهم إذا أدلي إليك " وكقوله " فمن أحضر بينة أخذت له بحقه وإلا استحللت القضية عليه " فصار فحوى هذه الأوامر مع شواهد الحال مغنيا عن لفظ التقليد .

وأما اعتباره في الشهود عدالة الظاهر ففيه جوابان :

أحدهما : أنه يجوز أن يكون ممن يرى ذلك فذكره إخبارا عن اعتقاده فيه لا أمرا به ، والثاني معناه أنهم بعد الكشف والمسألة عدول ما لم يظهر جرح إلا مجلودا في حد ، وليس لهذا القاضي وإن عمت ولايته جباية الخراج ، لأن مصرفه موقوف على رأي غيره من ولاة الجيوش ، فأما أموال الصدقات فإن اختصت بناظر خرجت عن عموم ولايته ، وإن لم يندب لها ناظر فقد قيل تدخل في عموم ولايته فيقبضها من أهلها ويصرفها في مستحقيها ، لأنها من حقوق الله تعالى فيمن سماه لها .

وقيل لا تدخل في ولايته ويكون ممنوعا من التعرض لها لأنها من حقوق الأموال التي تحمل على اجتهاد الأئمة وكذلك القول في إمامة الجمع والأعياد ، فأما إن كانت ولايته خاصة فهي منعقدة على خصوصها ومقصورة النظر على ما تضمنته كمن قلد القضاء في بعض ما قدمناه من الأحكام أو في الحكم بإقرار دون البينة أو في الديون دون المناكح أو في مقدر بنصاب فيصح هذا التقليد ولا يصح للمولي أن يتعداه لأنها استنابة فصحت عموما وخصوصا كالوكالة .

التالي السابق


الخدمات العلمية