صفحة جزء
117 12 \ 104 - وعن ابن عباس قال: دخل [علي] علي بن أبي طالب - وقد أهراق الماء - فدعا بوضوء، فأتيناه بتور فيه ماء حتى وضعناه بين يديه، فقال: يا ابن عباس ألا أريك كيف كان يتوضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلت: بلى، قال فأصغى الإناء على يده فغسلها، ثم أدخل يده اليمنى فأفرغ بها على الأخرى، ثم غسل كفيه، ثم تمضمض واستنثر، ثم أدخل يديه في الإناء جميعا، فأخذ بهما حفنة من ماء، فضرب بها على وجهه، ثم ألقم إبهاميه ما أقبل من أذنيه، ثم الثانية، ثم الثالثة مثل ذلك، ثم أخذ بكفه اليمنى قبضة من ماء فصبها على ناصيته، فتركها تستن على وجهه، ثم غسل ذراعيه إلى المرفقين ثلاثا ثلاثا، ثم مسح رأسه وظهور أذنيه، ثم أدخل يديه جميعا، فأخذ حفنة من ماء فضرب بها على رجله وفيها النعل، ففتلها بها، ثم الأخرى مثل ذلك، قال: قلت: وفي النعلين؟ قال: وفي النعلين، قال: قلت: وفي النعلين، قال: وفي النعلين، قال: قلت: وفي النعلين، قال: وفي النعلين .

في هذا الحديث مقال .


قال ابن القيم رحمه الله: هذا من الأحاديث المشكلة جدا، وقد اختلفت مسالك الناس في دفع إشكاله:

فطائفة ضعفته، منهم البخاري والشافعي، قال: والذي خالفه أكثر [ ص: 87 ] وأثبت منه، وأما الحديث الآخر - يعني هذا - فليس مما يثبت أهل العلم بالحديث لو انفرد.

وفي هذا المسلك نظر; فإن البخاري روى في صحيحه حديث ابن عباس رضي الله عنهما كما سيأتي، وقال في آخره: ثم أخذ غرفة من ماء فرش بها على رجله اليمنى حتى غسلها، ثم أخذ غرفة أخرى، فغسل بها - يعني رجله اليسرى - ثم قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ .

المسلك الثاني: أن هذا كان في أول الإسلام، ثم نسخ بأحاديث الغسل. وكان ابن عباس أولا يذهب إليه، بدليل ما روى الدارقطني: حدثنا إبراهيم بن حماد، حدثنا العباس بن يزيد، حدثنا سفيان بن عيينة، حدثنا عبد الله بن محمد بن عقيل: أن علي بن الحسين أرسله إلى الربيع بنت معوذ، يسألها عن وضوء النبي صلى الله عليه وسلم فذكر الحديث وقالت: ثم غسل رجليه قالت: وقد أتاني ابن عم لك -تعني ابن عباس- فأخبرته فقال: ما أجد في الكتاب إلا غسلتين ومسحتين . ثم رجع ابن عباس عن هذا لما بلغه غسل النبي صلى الله عليه وسلم رجليه، وأوجب الغسل.

فلعل حديث علي وحديث ابن عباس كانا في أول الأمر ثم نسخ. والذي يدل عليه أن فيه: أنه مسح عليهما بدون حائل كما روى هشام بن [ ص: 88 ] سعد: نا زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار قال: قال لنا ابن عباس: أتحبون أن أحدثكم كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ؟ فذكر الحديث، قال: ثم اغترف غرفة أخرى فرش على رجله وفيها النعل، واليسرى مثل ذلك، ومسح بأسفل الكعبين . وقال عبد العزيز الدراوردي، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن ابن عباس: توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره قال: ثم أخذ حفنة من ماء فرش قدميه وهو منتعل .

المسلك الثالث: أن الرواية عن علي وابن عباس مختلفة، فروي عنهما هذا، وروي عنهما الغسل، كما رواه البخاري في الصحيح عن عطاء بن يسار عن ابن عباس فذكر الحديث، وقال في آخره: أخذ غرفة من ماء، فرش بها على رجله اليمنى حتى غسلها، ثم أخذ غرفة أخرى فغسل بها رجله يعني اليسرى فهذا صريح في الغسل.

وقال أبو بكر بن أبي شيبة: ثنا عبد الله بن إدريس عن محمد بن عجلان عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن ابن عباس به، وقال: ثم غرف غرفة، ثم غسل رجله اليمنى، ثم غرف غرفة فغسل رجله اليسرى .

وقال ورقاء عن زيد عن عطاء عنه: ألا أريكم وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ [ ص: 89 ] فذكره، وقال فيه وغسل رجليه مرة مرة .

وقال محمد بن جعفر عن زيد: وأخذ حفنة فغسل بها رجله اليمنى، وأخذ حفنة فغسل رجله اليسرى .

قالوا: والذي روى أنه رش عليهما في النعل هو: هشام بن سعد، وليس بالحافظ، فرواية الجماعة أولى من روايته. على أن سفيان الثوري وهشاما أيضا رويا ما يوافق الجماعة، فرويا عن زيد، عن عطاء بن يسار قال: قال لي ابن عباس: ألا أريك وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فتوضأ مرة مرة، ثم غسل رجليه، وعليه نعله .

وأما حديث علي رضي الله عنه، فقال البيهقي: روينا من أوجه كثيرة عن علي أنه غسل رجليه في الوضوء . ثم ساق منها حديث عبد خير عنه "أنه دعا بوضوء" فذكر الحديث وفيه: ثم صب بيده اليمنى ثلاث مرات على قدمه اليمنى، ثم غسلها بيده اليسرى، ثم قال: هذا طهور نبي الله صلى الله عليه وسلم .

ومنها حديث زر عنه: أنه سئل عن وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فذكر [ ص: 90 ] الحديث، وفيه: وغسل رجليه ثلاثا ثلاثا .

ومنها: حديث أبي حية عنه: رأيت عليا توضأ الحديث، وفيه وغسل قدميه إلى الكعبين ، ثم قال: أحببت أن أريكم كيف كان طهور رسول الله صلى الله عليه وسلم .

قالوا: وإذا اختلفت الروايات عن علي وابن عباس، وكان مع أحدها رواية الجماعة، فهي أولى.

المسلك الرابع: أن أحاديث الرش والمسح إنما هي وضوء تجديد للطاهر، لا طهارة رفع حدث، بدليل ما رواه شعبة: حدثنا عبد الملك بن ميسرة قال: سمعت النزال بن سبرة يحدث عن علي: أنه صلى الظهر، ثم قعد في حوائج الناس في رحبة الكوفة، حتى حضرت صلاة العصر، ثم أتي بكوز من ماء، فأخذ منه حفنة واحدة، فمسح بها وجهه ويديه ورأسه ورجليه، ثم قام فشرب فضله وهو قائم، ثم قال: وإن أناسا يكرهون الشرب قائما، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم صنع كما صنعت. وقال: هذا وضوء من لم يحدث .

رواه البخاري بمعناه.

[ ص: 91 ] قال البيهقي: في هذا الحديث الثابت دلالة على أن الحديث الذي روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في المسح على الرجلين - إن صح - فإنما عنى به: وهو طاهر غير محدث، إلا أن بعض الرواة كأنه اختصر الحديث، فلم ينقل قوله هذا وضوء من لم يحدث .

وقال أحمد: حدثنا ابن الأشجعي عن أبيه، عن سفيان، عن السدي، عن عبد خير، عن علي: أنه دعا بكوز من ماء، ثم قال: ثم توضأ وضوءا خفيفا ومسح على نعليه، ثم قال: هكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما لم يحدث .

وفي رواية: للطاهر ما لم يحدث .

قال: وفي هذا دلالة على أن ما روي عن علي في المسح على النعلين إنما هو في وضوء متطوع به، لا في وضوء واجب عليه من حدث يوجب الوضوء، أو أراد غسل الرجلين في النعلين، أو أراد المسح على [ ص: 92 ] جوربيه ونعليه، كما رواه عنه بعض الرواة مقيدا بالجوربين، وأراد به جوربين منعلين.

قلت: هذا هو المسلك الخامس: أن مسحه رجليه ورشه عليهما لأنهما كانا مستورين بالجوربين في النعلين.

والدليل عليه ما رواه سفيان، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ مرة مرة، ومسح على نعليه . لكن تفرد به رواد بن الجراح عن الثوري، والثقات رووه عن الثوري بدون هذه الزيادة.

وقد رواه الطبراني من حديث زيد بن الحباب، عن سفيان، فذكره بإسناده ومتنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على النعلين .

وروى أبو داود من حديث هشيم عن يعلى بن عطاء، عن أبيه أخبرني أويس بن أبي أويس الثقفي قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح على نعليه وقدميه .

[ ص: 93 ] فقوله: "مسح على نعليه" كقوله: "مسح على خفيه". والنعل لا تكون ساترة لمحل المسح إلا إذا كان عليها جورب، فلعله مسح على نعل الجورب فقال: مسح على نعليه .

المسلك السادس: أن الرجل لها ثلاثة أحوال:

حال تكون في الخف فيجزي مسح ساترها.

وحال تكون حافية، فيجب غسلها، فهاتان مرتبتان، وهما: كشفها وسترها، ففي حال كشفها لها أعلى مراتب الطهارة، وهي الغسل التام، وفي حال استتارها لها أدناها، وهي المسح على الحائل.

ولها حالة ثالثة، وهي حالما تكون في النعل، وهي حالة متوسطة بين كشفها وبين استتارها بالخف، فأعطيت حالة متوسطة من الطهارة، وهي الرش، فإنه بين الغسل والمسح. وحيث أطلق لفظ "المسح" عليها في هذه الحال فالمراد به الرش؛ لأنه جاء مفسرا في الرواية الأخرى. وهذا مذهب - كما ترى - لو كان يعلم به قائل معين، ولكن يحكى عن طائفة لا أعلم منهم معينا.

وبالجملة فهو خير من مسلك الشيعة في هذا الحديث وهو:

المسلك السابع: أنه دليل على أن فرض الرجلين المسح، وحكي عن داود الجواربي وابن عباس. وحكي عن ابن جرير أنه مخير بين الأمرين، [ ص: 94 ] فأما حكايته عن ابن عباس فقد تقدمت، وأما حكايته عن ابن جرير فغلط بين، وهذه كتبه وتفسيره كله يكذب هذا النقل عليه، وإنما دخلت الشبهة لأن ابن جرير القائل بهذه المقالة رجل آخر من الشيعة، يوافقه في اسمه واسم أبيه، وقد رأيت له مؤلفات في أصول مذهب الشيعة وفروعهم.

فهذه سبعة مسالك للناس في هذا الحديث. وبالجملة فالذين رووا وضوء النبي صلى الله عليه وسلم: مثل عثمان بن عفان، وأبي هريرة، وعبد الله بن زيد بن عاصم، وجابر بن عبد الله، والمغيرة بن شعبة، والربيع بنت معوذ، والمقدام بن معديكرب، ومعاوية بن أبي سفيان، وجد طلحة بن مصرف، وأنس بن مالك، وأبي أمامة الباهلي، وغيرهم لم يذكر أحد منهم ما ذكر في حديث علي وابن عباس، مع الاختلاف المذكور عليهما. والله أعلم.

التالي السابق


الخدمات العلمية