صفحة جزء
فصل

وقد ذكر للمنع من بيع ما لم يقبض علتان.

إحداهما: ضعف الملك؛ لأنه لو تلف انفسخ البيع.

والثانية: أن صحته تفضي إلى توالي الضمانين، فإنا لو صححناه كان مضمونا للمشتري الأول على البائع الأول، وللمشتري الثاني على البائع الثاني، فكيف يكون الشيء الواحد مضمونا لشخص مضمونا عليه ؟

وهذان التعليلان غير مرضيين.

أما الأول، فيقال: ما تعنون بضعف الملك ؟ هل عنيتم به أنه لو طرأ عليه سبب يوجب فسخه ينفسخ به، أو أمرا آخر ؟ فإن عنيتم الأول فلم قلتم: إنه مانع من صحة البيع، وأي ملازمة بين الانفساخ بسبب طارئ، وبين عدم الصحة شرعا أو عقلا ؟ وإن عنيتم بضعف [ ص: 510 ] الملك أمرا آخر، فعليكم بيانه لننظر فيه.

وأما التعليل الثاني: فكذلك أيضا، ولا تظهر فيه مناسبة تقتضي الحكم، فإن كون الشيء مضمونا على الشخص بجهة، ومضمونا له بجهة أخرى غير ممتنع شرعا ولا عقلا، ويكفي في رده أنه لا دليل على امتناعه، كيف وأنتم تجوزون للمستأجر إجارة ما استأجره، والمنفعة مضمونة له على المؤجر، وهي مضمونة عليه للمستأجر الثاني.

وكذلك الثمار بعد بدو صلاحها إذا بيعت على أصولها، فهي مضمونة على البائع إذا احتاجت إلى سقي اتفاقا.

وإن تلفت بجائحة فهي مضمونة عليه عند أحمد ومالك، ومع ذلك فله أن يبيعها على رؤوس الشجر وتصير مضمونة عليه وله.

ولهذا لما رأى أبو المعالي الجويني ضعف هذين التعليلين قال: لا حاجة إلى ذلك، والمعتمد في بطلان البيع إنما هو الإخبار.

فالشافعي يمنع التصرف في المبيع قبل قبضه، ويجعله من ضمان البائع مطلقا، وهو رواية عن أحمد، وأبو حنيفة كذلك إلا في العقار.

وأما مالك وأحمد في المشهور من مذهبه: فيقولان: ما تمكن المشتري من قبضه وهو المتعين بالعقد، فهو من ضمان المشتري، ومالك يجوز التصرف فيه وأحمد، ويقولان: الممكن من القبض جار مجرى القبض على تفصيل في [ ص: 511 ] ذلك.

فظاهر مذهب أحمد أن الناقل للضمان إلى المشتري، هو التمكن من القبض، لا نفسه، وكذلك ظاهر مذهبه: أن جواز التصرف فيه ليس ملازما للضمان، ولا مبنيا عليه، ومن ظن ذلك من أصحابه فقد وهم، فإنه يجوز التصرف حيث يكون من ضمان البائع، كما ذكرنا في الثمن ومنافع الإجارة، وبالعكس أيضا، كما في الصبرة المعينة.

وقد نص الخرقي على هذا وهذا، فقال في المختصر: وإذا وقع البيع على مكيل، أو موزون، أو معدود، فتلف قبل قبضه فهو من مال البائع.

ثم قال: ومن اشترى ما يحتاج إلى قبضه لم يجز بيعه حتى يقبضه.

ثم قال: ومن اشترى صبرة طعام لم يبعها حتى ينقلها.

فالصبرة مضمونة على المشتري بالتمكن والتخلية اتفاقا، ومع هذا لا يبيعها حتى ينقلها، وهذا منصوص أحمد.

فالمأخذ الصحيح في المسألة: أن النهي معلل بعدم تمام الاستيلاء، وعدم انقطاع علاقة البائع عنه، فإنه يطمع في الفسخ والامتناع من الإقباض إذا رأى المشتري قد ربح فيه، ويغيره الربح، وتضيق عينه منه، وربما أفضى إلى التحيل على الفسخ ولو ظلما، وإلى الخصام والمعاداة، والواقع شاهد بهذا.

[ ص: 512 ] فمن محاسن الشريعة الكاملة الحكيمة: منع المشتري من التصرف فيه حتى يتم استيلاؤه عليه، وتنقطع علق البائع، وينفطم عنه، فلا يطمع في الفسخ والامتناع من الإقباض، وهذا من المصالح التي لا يهملها الشارع، حتى إن من لا خبرة له من التجار بالشرع يتحرى ذلك ويقصده، لما في ظنه من المصلحة، وسد باب المفسدة.

وهذه العلة أقوى من تينك العلتين.

وعلى هذا فإذا باعه من بائعه قبل قبضه من بائعه جاز على الصحيح، لانتفاء هذه العلة.

ومن علل النهي بتوالي الضمانين يمنع بيعه من بائعه لوجود العلة، فبيعه من بائعه يشبه الإقالة.

والصحيح من القولين: جواز الإقالة قبل القبض، وإن قلنا: هي بيع.

وعلى هذا خرج حديث ابن عمر في الاستبدال بثمن المبيع، والمصارفة عليه قبل قبضه، فإنه استبدال ومصارفة مع العاقد، لا مع غيره.

التالي السابق


الخدمات العلمية