صفحة جزء
61 4 - باب فرض الوضوء

4 \ 56 - وعن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مفتاح الصلاة الطهور وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم .

وأخرجه الترمذي وابن ماجه. وقال الترمذي: هذا الحديث أصح شيء في الباب وأحسن.


قال ابن القيم رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم .

اشتمل هذا الحديث على ثلاثة أحكام:

الحكم الأول: أن مفتاح الصلاة الطهور، والمفتاح: ما يفتح به الشيء المغلق، فيكون فاتحا له، ومنه: مفتاح الجنة لا إله إلا الله .

وقوله: مفتاح الصلاة الطهور يفيد الحصر، وأنه لا مفتاح لها سواه من طريقين: [ ص: 20 ] أحدهما حصر المبتدأ في الخبر إذا كانا معرفتين، فإن الخبر لا بد وأن يكون مساويا للمبتدأ أو أعم منه، ولا يجوز أن يكون أخص منه.

فإذا كان المبتدأ معرفا بما يقتضي عمومه كـ"اللام"، و"كل"، ونحوهما، ثم أخبر عنه بخبر، اقتضى صحة الإخبار أن يكون إخبارا عن جميع أفراد المبتدأ، فإنه لا فرد من أفراده إلا والخبر حاصل له.

وإذا عرف هذا لزم الحصر، وأنه لا فرد من أفراد ما يفتتح به الصلاة إلا وهو الطهور. فهذا أحد الطريقين.

والثاني: أن المبتدأ مضاف إلى الصلاة، والإضافة تعم. فكأنه قيل: جميع مفتاح الصلاة هو الطهور. وإذا كان الطهور هو جميع ما يفتتح به، لم يكن لها مفتاح غيره.

ولهذا فهم جمهور الصحابة والأمة أن قوله تعالى: وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن أنه على الحصر، أي: مجموع أجلهن الذي لا أجل لهن سواه: وضع الحمل. وجاءت السنة مفسرة لهذا الفهم مقررة له، بخلاف قوله: والمطلقات يتربصن فإنه فعل لا عموم له، بل هو مطلق.

وإذا عرف هذا ثبت أن الصلاة لا يمكن الدخول فيها إلا بالطهور. وهذا أدل على الاشتراط من قوله: لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ من وجهين:

أحدهما: أن نفي القبول قد يكون لفوات الشرط وعدمه. وقد يكون لمقارنة محرم، يمنع من القبول، كالإباق وتصديق العراف، وشرب الخمر، [ ص: 21 ] وتطيب المرأة إذا خرجت للصلاة، ونحوه.

الثاني: أن عدم الافتتاح بالمفتاح يقتضي أنه لم يحصل له الدخول فيها، وأنه مصدود عنها، كالبيت المقفل على من أراد دخوله بغير مفتاح. وأما عدم القبول فمعناه: عدم الاعتداد بها، وأنه لم يرتب عليها أثرها المطلوب منها، بل هي مردودة عليه.

وهذا قد يحصل لعدم ثوابه عليها ورضا الرب عنه بها، وإن كان لا يعاقبه عليها عقوبة تاركها جملة، بل عقوبته ترك ثوابه، وفوات الرضا لها بعد دخوله فيها، بخلاف من لم يفتتحها أصلا بمفتاحها، فإن عقوبته عليها عقوبة تاركها. وهذا واضح.

فإن قيل: فهل في الحديث حجة لمن قال: إن عادم الطهورين لا يصلي، حتى يقدر على أحدهما; لأن صلاته غير مفتتحة بمفتاحها، فلا تقبل منه؟ قيل: قد استدل به من يرى ذلك، ولا حجة فيه.

ولا بد من تمهيد قاعدة يتبين بها مقصود الحديث، وهي أن ما أوجبه الله ورسوله، أو جعله شرطا للعبادة، أو ركنا فيها، أو وقف صحتها عليه هو مقيد بحال القدرة; لأنها الحال التي يؤمر فيها به. وأما في حال العجز فغير مقدور ولا مأمور، فلا تتوقف صحة العبادة عليه. وهذا كوجوب القيام والقراءة والركوع والسجود عند القدرة، وسقوط ذلك بالعجز، وكاشتراط ستر العورة، واستقبال القبلة عند القدرة، ويسقط بالعجز.

وقد قال صلى الله عليه وسلم: لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار . ولو تعذر عليها [ ص: 22 ] الخمار صلت بدونه، وصحت صلاتها.

وكذلك قوله لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ فإنه لو تعذر عليه الوضوء صلى بدونه، وكانت صلاته مقبولة.

وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: لا تجزئ صلاة لا يقيم الرجل فيها صلبه في الركوع والسجود فإنه لو كسر صلبه وتعذر عليه إقامته أجزأته صلاته. ونظائره كثيرة. فيكون الطهور مفتاحا للصلاة هو من هذا.

لكن هنا نظر آخر، وهو أنه إذا لم يمكن اعتبار الطهور عند تعذره فإنه يسقط وجوبه، فمن أين لكم أن الصلاة تشرع بدونه في هذه الحال ؟ وهذا حرف المسألة، وهلا قلتم: إن الصلاة بدونه كالصلاة مع الحيض غير مشروعة، لما كان الطهور غير مقدور للمرأة، فلما صار مقدورا لها شرعت لها الصلاة وترتبت في ذمتها، فما الفرق بين العاجز عن الطهور شرعا والعاجز عنه حسا؟ فإن كلا منهما غير متمكن من الطهور؟.

[ ص: 23 ] قيل: هذا سؤال يحتاج إلى جواب، وجوابه أن يقال: زمن الحيض جعله الشارع منافيا لشرعية العبادات، من الصلاة، والصوم، والاعتكاف. فليس وقتا لعبادة الحائض، فلا يرتب عليها فيه شيء.

وأما العاجز فالوقت في حقه قابل لترتب العبادة المقدورة في ذمته، فالوقت في حقه غير مناف لشرعية العبادة بحسب قدرته، بخلاف الحائض، فالعاجز ملحق بالمريض المعذور الذي يؤمر بما يقدر عليه، ويسقط عنه ما يعجز عنه، والحائض ملحقة بمن هو من غير أهل التكليف، فافترقا.

ونكتة الفرق أن زمن الحيض ليس بزمن تكليف بالنسبة إلى الصلاة، بخلاف العاجز، فإنه مكلف بحسب الاستطاعة، وقد ثبت في صحيح مسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أناسا لطلب قلادة أضلتها عائشة فحضرت الصلاة، فصلوا بغير وضوء، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فذكروا ذلك له، فنزلت آية التيمم .

فلم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم عليهم، ولم يأمرهم بالإعادة، وحالة عدم التراب كحالة عدم مشروعيته، ولا فرق، فإنهم صلوا بغير تيمم لعدم مشروعية التيمم حينئذ. فهكذا من صلى بغير تيمم لعدم ما يتيمم به، فأي فرق بين عدمه في نفسه، وعدم مشروعيته؟.

فمقتضى القياس والسنة أن العادم يصلي على حسب حاله، فإن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها، ولا يعيد، لأنه فعل ما أمر به، فلم تجب عليه الإعادة، كمن ترك القيام والاستقبال والسترة والقراءة لعجزه عن ذلك، فهذا موجب النص والقياس.

[ ص: 24 ] فإن قيل: القيام له بدل، وهو القعود، فقام بدله مقامه، كالتراب عند عدم الماء، والعادم هنا صلى بغير أصل ولا بدل.

قيل: هذا هو مأخذ المانعين من الصلاة، والموجبين للإعادة، ولكنه منتقض بالعاجز عن السترة، فإنه يصلي من غير اعتبار بدل، وكذلك العاجز عن الاستقبال، وكذلك العاجز عن القراءة والذكر.

وأيضا فالعجز عن البدل في الشرع كالعجز عن المبدل سواء. هذه قاعدة الشريعة.

وإذا كان عجزه عن المبدل لا يمنعه من الصلاة، فكذلك عجزه عن البدل. وستأتي المسألة مستوفاة في باب التيمم إن شاء الله.

وفي الحديث دليل على اعتبار النية في الطهارة بوجه بديع. وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم جعل الطهور مفتاح الصلاة، التي لا تفتتح ويدخل فيها إلا به، وما كان مفتاحا للشيء كان قد وضع لأجله وأعد له. فدل على أن كونه مفتاحا للصلاة هو جهة كونه طهورا، فإنه إنما شرع للصلاة وجعل مفتاحا لها. ومن المعلوم أن ما شرع للشيء ووضع لأجله لا بد أن يكون الآتي به قاصدا ما جعل مفتاحا له ومدخلا إليه. هذا هو المعروف حسا كما هو ثابت شرعا. ومن المعلوم أن من سقط في ماء وهو لا يريد التطهر لم يأت بما هو مفتاح الصلاة، فلا تفتح له الصلاة، وصار هذا كمن حكى عن غيره أنه قال: "لا إله إلا الله"، وهو غير قاصد لقولها، فإنها لا تكون مفتاحا للجنة منه; لأنه لم [ ص: 25 ] يقصدها. وهكذا هذا، لما لم يقصد الطهور لم يحصل له مفتاح الصلاة.

ونظير ذلك الإحرام، هو مفتاح عبادة الحج، ولا يحصل له إلا بالنية فلو اتفق تجرده لحر أو غيره، ولم يخطر بباله الإحرام، لم يكن محرما بالاتفاق. فهكذا هذا يجب أن لا يكون متطهرا. وهذا بحمد الله بين.

التالي السابق


الخدمات العلمية