الجامع لأحكام الوقف والهبات والوصايا

خالد المشيقح - أ.د/ خالد بن علي بن محمد المشيقح

صفحة جزء
الأمر الثاني: أن يكون فقيرا:

إذا كان فقيرا، فقد اختلف العلماء -رحمهم الله- في ملكه الأكل من مال [ ص: 327 ] اليتيم على قولين:

القول الأول: أنه يملك ذلك.

وهو قول الجمهور، فهو قول للحنفية، ومذهب المالكية، والشافعية، والحنابلة.

وحجته:

1- قوله تعالى: ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف

وقد تقدمت آثار الصحابة -رضي الله عنهم- في ذلك، وأن الآية نزلت في ولي اليتيم يستعفف إذا كان غنيا، ويأكل بالمعروف إذا كان فقيرا.

ونوقش الاستدلال بهذه الآية من وجوه:

الوجه الأول: أن هذه الآية نسختها الآية التي تليها إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا كما ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما.

وقيل: إن الناسخ قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم .

وأجيب عن هذا الوجه بجوابين:

الأول: أن الوارد عن ابن عباس - رضي الله عنهما- ضعيف، وعلى فرض ثبوته، فهو مخالف لما ورد عن ابن عباس -رضي الله عنهما- بجواز الأكل للفقير.

[ ص: 328 ] الثاني: أنه لا يصار إلى النسخ إلا مع التعارض بين الدليلين، وعدم إمكان الجمع، قال ابن العربي: «أما من قال: إنه منسوخ، فهو بعيد لا أرضاه; لأن الله تعالى يقول: فليأكل بالمعروف وهو الجائز الحسن، وقال: إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما فكيف ينسخ الظلم المعروف؟!

بل هو تأكيد له في التجويز; لأنه خارج عنه مغاير له، وإذا كان المباح غير المحظور لم يصح دعوى نسخ فيه، وهذا أبين من الإطناب».

الوجه الثاني: أن المراد بالآية أن يأكل الولي من مال نفسه بالمعروف حتى لا يحتاج إلى مال اليتيم.

كما ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما.

وأجيب عن هذا الوجه بجوابين:

الأول: أنه مخالف لتفسير غيره من الصحابة -رضي الله عنهم- للآية، ومخالف لما ورد عن ابن عباس نفسه، قال ابن النحاس: «واختلف عن ابن عباس في تفسير الآية اختلافا كثيرا على أن الأسانيد عنه صحاح».

الثاني: أنه لو كان هذا معنى الآية لما احتيج إلى ذكره لكونه ظاهرا.

الوجه الثالث: أن المراد بالآية إن كان غنيا وسع عليه، وإن كان فقيرا أنفق عليه بقدره.

[ ص: 329 ] ونوقش: هذا الوجه بما نوقش به الوجه السابق، وأيضا فإن اليتيم يأكل بالمعروف سواء كان غنيا أو فقيرا بخلاف الولي، فتبين أن الخطاب للولي.

وأيضا كما قال ابن العربي: «إن الخطاب لا يصلح أن يكون له; لأنه غير مكلف ولا مأمور بشيء.

(334) 2- ما رواه أبو داود من طريق حسين -يعني: المعلم- عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده رضي الله عنهم «أن رجلا أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: إني فقير ليس لي شيء ولي يتيم، فقال: كل من مال يتيمك غير مسرف، ولا مبادر ولا متأثل».

ونوقش الاستدلال بهذا الحديث: بأنه محمول على ما إذا عمل الولي في مال اليتيم مضاربة، فله الأخذ مقدار ربحه.

وأجيب: بأنه تقييد لمطلق الحديث، ولا دليل على ذلك.

[ ص: 330 ] 3- قول عمر -رضي الله عنه-: «ألا إني أنزلت نفسي من مال الله منزلة الولي من مال اليتيم، إن استغنيت استعففت، وإن افتقرت أكلت بالمعروف».

(335) 4- ما رواه الطبري من طريق ليث، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال في قوله تعالى: ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف من مال نفسه، ومن كان فقيرا منهم إليها محتاجا، فليأكل بالمعروف».

ويأتي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن المراد أكل الولي.

5- وتقدم عن عائشة قريبا.

القول الثاني: أنه لا يجوز الأكل من مال اليتيم مطلقا، لا فقيرا ولا غيره.

وهو مذهب الحنفية، وبه قال ابن حزم.

وحجة هذا القول:

1- قوله تعالى: وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوبا كبيرا وقال تعالى: فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا وقال تعالى: ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن [ ص: 331 ] وقوله تعالى: إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما وقوله تعالى: وأن تقوموا لليتامى بالقسط وقال تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم

وجه الدلالة: قال الجصاص: «وهذه الآي محكمة حاضرة لمال اليتيم على وليه في حال الغنى والفقر، وقوله تعالى: ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف متشابه محتمل للوجوه التي ذكرنا، فأولى الأشياء بها حملها على موافقة الآي المحكمة، وهو أن يأكل -أي: الولي- من مال نفسه بالمعروف; لئلا يحتاج إلى مال اليتيم; لأن الله تعالى قد أمرنا برد المتشابه إلى المحكم، ونهانا عن اتباع من غير رد إلى المحكم...».

ونوقش الاستدلال من وجهين:

الوجه الأول: أن هذه الآيات عامة في الحظر من مال اليتيم، والمبيحة لأكل الفقير خاصة، والخاص مقدم على العام.

الوجه الثاني: عدم التسليم على أن أدلة جواز الأكل من مال اليتيم من المتشابه، بل من المحكم البين، كما ورد تفسير الآية عن الصحابة رضي الله عنهم.

2- قوله تعالى: واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى

[ ص: 332 ] وجه الدلالة: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يأخذ الخمس من مال المسلمين، فالوصي فيما يتولاه من مال اليتيم كذلك.

ونوقش: بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يأخذ من مال الفيء; لقوله -صلى الله عليه وسلم-: «إلا الخمس».

(336) 3- ما رواه محمد بن الحسن في كتاب الآثار من طريق رجل، عن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: «لا يأكل الوصي من مال اليتيم قرضا ولا غيره».

ولكنه ضعيف لا يثبت.

4- أن دخول الوصي في الوصية على وجه التبرع من غير شرط أجرة كان بمنزلة المستبضع، فلا أجرة له كالمستبضع.

ونوقش هذا الاستدلال: أن ما يأكله الولي من مال اليتيم ليس أجرة، وإنما رخصة من الله -عز وجل- مقابل قيامه على ماله.

الترجيح:

الراجح -والله أعلم- قول جمهور أهل العلم; إذ هو ظاهر القرآن الكريم، والقاعدة: أن جميع ظواهر نصوص القرآن مفهومة لدى المخاطبين، فتبقى الآية على ظاهرها، وبهذا فسر الصحابة -رضي الله عنهم- الآية.

التالي السابق


الخدمات العلمية