الجامع لأحكام الوقف والهبات والوصايا

خالد المشيقح - أ.د/ خالد بن علي بن محمد المشيقح

صفحة جزء
الأدلة:

استدل جمهور الفقهاء بما يلي:

1- قوله تعالى: وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم .

وجه الدلالة: أن الله علق دفع أموال اليتامى إليهم على شرطين -هما البلوغ والرشد- والحكم المعلق على شرطين لا يثبت بدونهما.

فدلت على أن البالغ السفيه لا يدفع إليه ماله، بل يمنع من التصرف فيه حتى يرشد.

ونوقش هذا الاستدلال: بأن الآية تدل على منع المال من اليتيم إلى أن يؤنس منه الرشد بعد البلوغ، وليس في الآية ما يدل على الحجر عليه عن التصرف.

وأجيب عن هذه المناقشة: بأن منع المال منه لا يفيد شيئا إذا كان تصرفه نافذا; لأنه يتلف ماله بنفوذ تصرفه وإقراره، ثم لو كان تصرفه نافذا لسلم إليه [ ص: 371 ] ماله كالرشيد، فإنه إنما يمنع ماله حفظا له، فإذا لم يتحفظ بالمنع وجب تسليمه إليه بحكم الأصل.

2- قول الله تعالى: فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل .

وجه الدلالة: أن الله جل وعلا أثبت الولاية على السفيه، وجعله مسلوب العبارة في الإقرار، وذلك لا يتصور إلا بالحجر عليه.

ونوقش الاستدلال بالآية من وجهين:

الوجه الأول: أن صدر الآية وهو قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه يقتضي أن السفيه يداين ويعامل، وهو مقتض لنفاذ تصرفه وعدم الحجر عليه، فتكون الآية دليلا على المستدل لا له.

الثاني: أن المراد بالسفيه في الآية هو المجنون والصبي، وعلى هذا كثير من أهل التأويل; لأن السفه انعدام العقل أو نقصانه.

وأجيب عن الوجه الأول من المناقشة: بأن الاستثناء في الآية أخرج السفيه، والضعيف، والذي لا يستطيع أن يمل عن المداينة، وقد جمعهم الله [ ص: 372 ] تبارك وتعالى بحرف العطف، والعطف يقتضي التسوية، فاقتضى اشتراكهم في الحكم، كما يقتضي كون العطف بأو المغايرة في المعنى.

وأجيب عن الوجه الثاني: بعدم التسليم بأن المراد بالسفيه: الصبي والمجنون; لأن السفة يقابله الرشد، وليس البلوغ والعقل، فالبلوغ يقابل بالصبى، والعقل يقابل بالجنون.

وعليه يراد بالسفيه في الآية: من ليس برشيد.

وقالوا أيضا: لأن السفه اسم ذم، ولا يذم الإنسان على ما لم يكتسبه، والقلم مرفوع عن غير البالغ العاقل، فالذم والحرج منفيان عنهما.

3- قول الله تعالى: ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما

وجه الدلالة: أن المراد بقوله: أموالكم أي: أموالهم، فأضاف الأموال إلى الأولياء -مع كونها للسفهاء- لأنهم القوامون عليها والمتصرفون فيها، فكانت الآية نصا في إثبات الحجر على السفيه والنظر له، فإن الولي هو الذي يباشر التصرف في مال السفيه على وجه النظر له.

[ ص: 373 ] والدليل على أنه خطاب للأولياء في أموال اليتامى قوله تعالى بعد ذلك: وارزقوهم فيها واكسوهم .

ونوقش هذا الاستدلال من وجهين:

الأول: أن المراد بالسفهاء في الآية الصبيان أو المجانين.

الثاني: أن المراد نهي الأزواج عن دفع المال إلى النساء، وجعل التصرف إليهن كما كانت العرب تفعله بدليل أنه قال: أموالكم وذلك يتناول أموال المخاطبين بهذا النهي لا أموال السفهاء.

وأجيب عن الوجه الأول: بما تقدم من أن السفه يقابله الرشد لا البلوغ والعقل.

وأيضا يقال: على فرض إرادة الصبيان والمجانين في الآية فإن لفظ السفهاء عام في كل سفيه، فيدخل فيه الصبيان والمجانين، وغيرهم من السفهاء.

يقول الطبري: «والصواب من القول في تأويل ذلك عندنا أن الله جل ثناؤه عم بقوله: تؤتوا السفهاء أموالكم فلم يخصص سفيها دون سفيه، فغير جائز لأحد أن يؤتي سفيها ماله صبيا صغيرا كان أو رجلا كبيرا، ذكرا كان أو أنثى».

والسفيه الذي لا يجوز لوليه أن يؤتيه ماله: هو المستحق الحجر بتضييعه ماله، وفساده وإفساده، وسوء تدبيره ذلك.

[ ص: 374 ] أما الجواب عن الوجه الثاني:

فيقول الطبري -رحمه الله-: «وأما قول من قال: عنى بالسفهاء النساء خاصة، فإنه جعل اللغة على غير وجهها; وذلك أن العرب لا تكاد تجمع فعيلا على فعلاء إلا في جمع الذكور، أو الذكور والإناث، وأما إذا أرادوا جمع الإناث خاصة لا ذكران معهم، جمعوه على فعائل، وفعيلات، مثل غريبة تجمع: غرائب، غريبات، فأما الغرباء فجمع غريب».

وأما قوله تعالى: أموالكم فتقدم في وجه الدلالة من الآية وجه كون المراد به أموال السفهاء.

وعلى فرض أن المراد بقوله: أموالكم أي: أموال المخاطبين، فإن الآية لا تخرج عن أن تكون دليلا للحجر على السفهاء; لأنهم يكونون محجورا عليهم في أموال المخاطبين، فلا تدفع إليهم; لأنهم لا يحسنون التصرف بها.

(347) 4- ما رواه البيهقي من طريق أحمد بن عبيد، حدثنا إسماعيل بن الفضل البلخي، حدثنا سهل بن عثمان، حدثنا حفص، عن الأعمش، عن الشعبي، عن النعمان بن بشير -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «خذوا على أيدي سفهائكم».

[ ص: 375 ] 5- إقرار النبي -صلى الله عليه وسلم- لقرابة حبان بن منقذ على طلبهم الحجر عليه.

ولو كان الحجر على السفيه غير سائغ لما طلبوه، ولما أقرهم النبي -صلى الله عليه وسلم- على طلبهم، بل إنه دعا حبان وطلب منه الامتناع عن البيع.

وأما عدم حجر النبي -صلى الله عليه وسلم- عليه، فلا يبطل إقراره -عليه الصلاة والسلام- ودلالته على مشروعية الحجر; لأنه يرد عليه عدة احتمالات، منها: احتمال الخصوصية.

(348) 5- ما رواه البخاري ومسلم من طريق عمرو بن دينار، عن جابر -رضي الله عنه-: «أن رجلا من الأنصار أعتق غلاما له عن دبر، ولم يكن له مال غيره، فبلغ ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: «من يشتريه مني؟ فاشتراه نعيم بن عبد الله بثمانمائة درهم قد دفعها إليه».

وجه الاستدلال: رد النبي -صلى الله عليه وسلم- عتق من أعتق عبدا له عن دبر، ولا مال له غيره، كما أشار إلى ذلك البخاري وترجم عليه: «باب من رد أمر السفيه والضعيف العقل وإن لم يكن حجر عليه الإمام».

(349) 6- ما رواه الإمام مالك، عن عمر بن عبد الرحمن بن دلاف [ ص: 376 ] المزني، عن أبيه: «أن رجلا من جهينة كان يسبق الحاج، فيشتري الرواحل فيغلي بها، ثم يسرع السير فيسبق الحاج، فأفلس، فرفع أمره إلى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فقال: أما بعد: أيها الناس: فإن الأسيفع أسيفع جهينة رضي من دينه وأمانته بأن يقال: سبق الحاج، ألا وإنه قد دان معرضا، فأصبح قد دين به، فمن كان له عليه دين فليأتنا بالغداة نقسم ماله بينهم، وإياكم والدين؛ فإن أوله هم، وآخره حرب».

[ ص: 377 ] (350) ما رواه الشافعي: أخبرنا محمد بن الحسن أو غيره من أهل الصدق في الحديث، أو هما عن يعقوب بن إبراهيم، عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: «ابتاع عبد الله بن جعفر بيعا، فقال علي -رضي الله عنه-: لآتين عثمان فلأحجرن عليك، فأعلم ذلك ابن جعفر للزبير، فقال: أنا شريكك في بيعك، فأتى علي عثمان، فقال: احجر على هذا، فقال الزبير: أنا شريكه، فقال عثمان: أحجر على رجل شريكه الزبير؟!».

[ ص: 378 ] وجه الدلالة: فعلي سأل عثمان الحجر على عبد الله، فدل على أنهما يريانه.

ونوقش: بأنه دليل لهم; لأن عثمان -رضي الله عنه- امتنع عن الحجر على عبد الله مع سؤال علي -رضي الله عنه- له مما يدل على عدم جوازه، وسؤال علي لعثمان -رضي الله عنهما- لم يكن إلا على سبيل التخويف والتهديد.

[ ص: 379 ] وأجيب عن هذه المناقشة: بأن عبد الله بن جعفر والزبير لما اقتسما الغبن صار نصيب كل واحد مما يغبن الرشيد في مثله عادة.

7- القياس على الصبي، حيث إن السفيه مبذر في ماله، فيحجر عليه لحظ نفسه كالصبي بل أولى; لأن الصبي إنما يحجر عليه لتوهم التبذير واحتمال وجوده منه، وهو متحقق الوجود في السفيه، فكان أولى بالحجر عليه منه.

ونوقش هذا الاستدلال: بأنه قياس مع الفارق، فلا يصح; لأن الصبي عاجز عن النظر لنفسه قادر عليه لكمال عقله، فلا يصح قياس القادر على العاجز، قالوا: وأما جري السفيه على خلاف العقل فهو لسوء اختياره لا لعجزه.

وأجيب: بأن عجز الصبي عن النظر لنفسه وسوء اختيار السفيه كليهما سبب في جري تصرفهما على خلاف ما يقضيه العقل والشرع، فساغ قياس أحدهما على الآخر لتحقق الوصف المقتضي للحكم في المقيس.

أدلة الرأي الثاني: (عدم الحجر) :

1- قول الله تعالى: وآتوا اليتامى أموالهم

2- قوله تعالى: ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا

وجه الدلالة: أن الآيتين نص في وجوب دفع مال اليتيم إليه بعد [ ص: 380 ] البلوغ، فالمراد باليتامى في الآية الأولى: البالغون، وسموا يتامى لقرب عهدهم به.

ومعنى الآية الثانية: النهي عن أكل أموال اليتامى؛ مخافة أن يكبروا، فلا يبقى لهم عليهم ولاية، ويلزمهم دفع أموالهم إليهم، والتنصيص على زوال الولاية عن اليتامى بعد الكبر يكون تنصيصا على زوال الحجر عنهم بالكبر.

ونوقش الاستدلال بالآيتين: بالتسليم بدلالتهما على وجوب دفع المال إلى اليتيم بعد البلوغ; غير أنهما مخصوصان بآية النساء التي استدل بها الجمهور، والتي تدل على اشتراط الرشد مع البلوغ.

وأيضا هما مخصوصتان بما قبل الخمس والعشرين سنة لعلة السفه، وهو موجود بعد الخمس والعشرين، فيجب أن تخصا به، كما أنهما مخصوصتان بالبالغ المجنون، فإنه يحجر عليه لأجل جنونه قبل الخمس والعشرين وبعده، فكذلك السفيه لورود ما يخصصه.

3- آيات الكفارات من الظهار والقتل وغيرهما، كقوله تعالى: والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا وقوله تعالى : ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله .

ففي عموماتها بيان أن هذه الكفارات تجب على كل من يتحقق منه [ ص: 381 ] أسبابها شرعا، سفيها كان أو غير سفيه، وارتكاب هذه الأسباب اختيارا نوع من السفه، فدل على أنه مع السفه يتصور منه السبب الموجب لاستحقاق المال، ومن ضرورته أن لا يمنع من أداء ما لزمه شرعا، وبه يتبين أن الحجر عن التصرفات ليس منه كثير فائدة; لتمكنه من إتلاف جميع ماله بهذه الأسباب.

ونوقش: بأن عموم الآيات مخصوص بالصغير والمجنون اتفاقا، فيخص أيضا بالسفيه؛ للأدلة الدالة على الحجر عليه، على أن ما ذكروه من تمكن السفيه من إتلاف جميع ماله بهذه الأسباب مجرد احتمال، فمن الذي يأتي على كل ماله بالظهار أو القتل الخطأ، فإن هو فعل ذلك مرة فالكفارة مؤدبة له ألا يفعل ذلك مرة أخرى.

4- أن السفيه حر مخاطب عاقل، فيكون مطلق التصرف في ماله كالرشيد; لأنه بكونه مخاطبا تثبت له أهلية التصرف، فإن التصرف كلام ملزم، وأهلية الكلام بكونه مميزا، والكلام الملزم بكونه مخاطبا، والمحلية تثبت بكونه خالص ملكه، والملكية تثبت بالحرية.

وبعد صدور التصرف من أهله في محله لا يمنع نفوذه إلا لمانع، والسفه لا يصلح أن يكون مانعا لنفوذ التصرف; لأنه بسبب السفه لا يظهر نقصان عقله، ولكن السفيه يكابر عقله، ويتابع هواه في التبذير، مع علمه بقبحه وفساد عاقبته.

وهذا لا يكون معارضا في حق التصرف، كما لا يكون معارضا في توجه الخطاب عليه بحقوق الشرع.

[ ص: 382 ] ونوقش هذا الاستدلال: بأنه قياس في مقابلة النصوص التي تدل على الحجر على السفيه، والقياس في مقابلة النص فاسد الاعتبار.

وأيضا: أن العلة غير متحققة في الفرع، فإن علته في الأصل كونه مخاطبا بالغا رشيدا، فالرشد جزء علة، ولم يوجد في السفيه.

5- أن الحجر على السفيه وإبطال تصرفاته فيه ضرر عليه أشد من ضرر التبذير; لأن في حجره إلحاقه بالبهائم، وإهدار آدميته، وهو أشد ضررا من التبذير، ولا يتحمل الأعلى لدفع الأدنى.

ونوقش هذا الدليل: بعدم التسليم بأن الحجر على السفيه يقتضي إهدار كرامته وآدميته، فملكيته للمال محفوظة، غاية ما في الأمر أن يعين له ولي يرشده إلى التصرف الصحيح في المال، وفي هذا مصلحة للسفيه; إذ لو ترك وشأنه لبذر ماله وضيعه، وقضى عليه في وقت قصير، فيبقى بعد فقيرا عالة على الناس.

التالي السابق


الخدمات العلمية