الجامع لأحكام الوقف والهبات والوصايا

خالد المشيقح - أ.د/ خالد بن علي بن محمد المشيقح

صفحة جزء
فرع:

فإذا أمن الإنسان لمن يعوله كفايتهم، أو كان وحده ليس له من يعوله، فهل يشرع له وقف جميع ماله؟

اتفق الأئمة الأربعة في الجملة على جواز ذلك، ولكن بشرط أن يعلم من نفسه حسن التوكل واليقين، وأن يكون عنده القناعة والصبر على الفقر وعن المسألة، أو يكون ذا كسب.

وقال ابن حزم: « ولا تنفذ هبة ولا صدقة لأحد إلا فيما أبقى له ولعياله غنى، فإن أعطى ما لا يبقى لنفسه وعياله بعده فسخ كله ».

وقد جاء عن بعض السلف، كعطاء بن أبي رباح، وسعيد بن المسيب، وابن شهاب الزهري أنهم رأوا الاقتصار على الثلث. [ ص: 389 ]

وقال ابن عابدين: « ومن أراد الصدقة بماله كله وهو يعلم من نفسه حسن التوكل، والصبر عن المسألة فله ذلك، وإلا فلا يجوز ».

وقال ابن عبد البر: « وجائز أن يتصدق الرجل في صحته بماله كله في سبيل البر والخير ».

وقال الماوردي: « إن كان حسن اليقين قنوعا لا يقنطه الفقر، ولا يسأل عند العدم فالأولى أن يتصدق بجميع ماله ».

وقال ابن قدامة: « فإن كان الرجل وحده، أو كان لمن يمون كفايتهم، فأراد الصدقة بجميع ماله، وكان ذا مكسب، أو كان واثقا من نفسه، ويحسن التوكل والصبر على الفقر، والتعفف عن المسألة، فحسن ».

وقال القاضي عياض: «جوز جمهور العلماء وأئمة الأمصار الصدقة بجميع ماله ».

وجزم جمهور الشافعية، وهو الأصح في مذهبهم، وبعض الحنابلة باستحباب ذلك، وأفضليته عند تحقق الشرط المذكور.

وفي وجه عند الشافعية، والحنابلة: بالجواز.

واستدل القائلون بالجواز والمانعون بما يلي:

(113 ) 1 - ما رواه أبو داود من طريق الفضل بن دكين، ثنا هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن أبيه قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما أن نتصدق، فوافق ذلك ما عندي، فقلت: اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يوما فجئت بنصف مالي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ ص: 390 ] « ما أبقيت لأهلك؟ » قلت: مثله، قال: وأتى أبو بكر رضي الله عنه بكل ما عنده، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ما أبقيت لأهلك؟ » قال: أبقيت لهم الله ورسوله، قلت: لا أسابقك إلى شيء أبدا.

[إسناده حسن]. [ ص: 391 ]

وقال الماوردي - وهو من القائلين بالاستحباب - : « فرسول الله صلى الله عليه وسلم إنما أقر أبا بكر رضي الله عنه على ذلك واستحسنه; لما علم من قوة إيمانه، وصحة يقينه ».

(114 ) 2 - ما رواه عبد الله من طريق الليث بن سعد، عن أبي الزبير، عن يحيى بن جعدة، عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله أي الصدقة أفضل؟ قال: « جهد المقل وابدأ بمن تعول ». [ ص: 392 ]

فالجهد بالضم: الوسع والطاقة، والمقل: الفقير وقليل المال، والمعنى: أفضل الصدقة قدر ما يحتمله حال القليل المال.

وقليل المال إذا تصدق بما يحتمله وسعه وطاقته بعد أن يبقي كفاية من يعوله يكون متصدقا بجميع ماله.

قال الفقهاء: فإن لم يتوفر فيمن يريد الصدقة بجميع ماله، الشرط المذكور، كره له ذلك.

(115 ) 3 - ما رواه أبو داود من طريق ابن عجلان، عن عياض بن عبد الله بن سعد سمع أبا سعيد الخدري رضي الله عنه يقول: دخل رجل المسجد فأمر النبي صلى الله عليه وسلم الناس أن يطرحوا ثيابا فطرحوا، فأمر له منها بثوبين، ثم حث على الصدقة، فجاء فطرح أحد الثوبين فصاح به، وقال: « خذ ثوبك ». [ ص: 393 ]

قال السندي: « عن ظهر غنى » أي: ما بقي خلفها غنى لصاحبه قلبيا كما كان للصديق، أو قالبيا فيصير الغنى للصدقة كالظهر للإنسان وراء الإنسان، فإضافة الظهر إلى الغنى بيانية، لبيان أن الصدقة إذا كانت بحيث يبقى لصاحبها الغنى بعدها إما لقوة قلبه، أو لوجود شيء بعدها إلى ما أعطى ويضطر إليه، فلا ينبغي لصاحبها التصدق به.

4 - حديث عبد الله بن كعب قال: سمعت كعب بن مالك رضي الله عنه يقول: يا رسول الله إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم قال: « أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك » قلت: فإني أمسك سهمي الذي بخيبر.

(116 ) 5 - ما رواه أبو داود من طريق محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن محمود بن لبيد، عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل بمثل بيضة من ذهب، فقال: يا رسول الله [ ص: 394 ] أصبت هذه من معدن فخذها فهي صدقة ما أملك غيرها، فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أتاه من قبل ركنه الأيمن، فقال مثل ذلك، فأعرض عنه ، ثم أتاه من قبل ركنه الأيسر، فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أتاه من خلفه ، فأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم فحذفه بها، فلو أصابته لأوجعته أو لعقرته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « يأتي أحدكم بما يملك فيقول هذه صدقة، ثم يقعد يستكف الناس، خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى ».

6 - ولأن الإنسان إذا خرج جميع ماله لا يأمن فتنة الفقر، وشدة نزاع النفس إلى ما خرج منه فيندم، فيذهب ماله ويبطل أجره، ويصير كلا على الناس.

لكن عند توفر شرط الجواز، ما هو الأرجح: القول بالاستحباب أم القول بالجواز؟ [ ص: 395 ]

يقوي القول بالاستحباب، قول الله تعالى: ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة لا خلاف في أن المقصود بهذه الآية هم الأنصار.

فقد أثنى الله تبارك وتعالى على الأنصار بأنهم يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، أي: يقدمون المحاويج على حاجة أنفسهم، ويبدؤون بالناس قبلهم في حال احتياجهم إلى ذلك، قاله ابن كثير.

ويؤيد القول بالجواز دون الاستحباب:

قول الله تعالى: ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا ، فمعنى قوله تعالى: ولا تبسطها كل البسط أي: لا تبسطها بالعطاء كل البسط فتعطي جميع ما عندك، فتقعد محسورا، أي: منقطعا بك لا شيء عندك تنفقه يقول:...دابة حسيرة إذا كانت كالة.

ففي الآية نهي عن الإسراف في إنفاق المال في وجوه الخير.

ومن حده بالثلث استدل:

(117 ) بما رواه البخاري ومسلم من طريق عامر بن سعد، عن أبيه سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، وفيه: قوله صلى الله عليه وسلم: « الثلث، والثلث كثير ».

التالي السابق


الخدمات العلمية