التحصيل لفوائد كتاب التفصيل الجامع لعلوم التنزيل

المهدوي - أبو العباس أحمد بن عمار المهدوي

صفحة جزء
[ ص: 133 ] التفسير:

(أم) : بمعنى: (بل) ، على ما تقدم من القول في مثله.

(ولما) بمعنى: (لم) ، وهو جواب من قال: (قد فعل) ، و (لم) : جواب من قال: (فعل) ، هذا مذهب سيبويه .

و (العلم) : يعني به: العلم الذي يقع عليه الثواب والعقاب.

(ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه) يعني: تمنيهم القتال، عاتبهم الله; لأن كثيرا ممن لم يحضر بدرا كانوا يتمنون يوما يكون فيه القتال، فلما كان يوم أحد; انهزموا.

وقوله: (وأنتم تنظرون) معناه: وأنتم بصراء ليس في أعينكم علل، وقيل: هو تكرير بمعنى التأكيد.

(وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل) : نزلت هذه الآية بسبب انهزام المسلمين يوم أحد، حين صاح الشيطان: قد قتل محمد، فأعلم الله تعالى أن الرسل ليست بباقية في قومها أبدا.

[ ص: 134 ] ودخل الاستفهام على حرف الجزاء; لأن الشرط قد انعقد به، وصار جملة واحدة، وخبرا واحدا، والمعنى: أفتنقلبون على أعقابكم إن مات أو قتل؟ وكذلك كل استفهام دخل على حرف الجزاء; فإنه في غير موضعه، وموضعه: أن يكون قبل جواب الشرط.

وقوله: (انقلبتم على أعقابكم) : تمثيل، ومعناه: ارتددتم كفارا بعد إيمانكم، فالكافر راجع عما كان عليه، كالراجع يمشي إلى خلفه.

(وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا) : هذا حض على الجهاد، وإعلام أن الموت المخوف فيه لا يكون إلا بإذن الله.

(ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها) يعني: الغنيمة، وقيل: هو عام في كل من أراد الدنيا دون الآخرة، والمعنى: نؤته منها ما قسم له.

(ومن يرد ثواب الآخرة) أي: من يعمل لها نؤته منها; أي: نؤته جزاء عمله، على ما وصف الله عز وجل من تضعيفه الحسنات لمن يشاء.

(وسنجزي الشاكرين) : تأكيد لما تقدم من إيتاء مريد الآخرة، وقيل: المعنى: وسنجزي الشاكرين من الرزق في الدنيا; لئلا يتوهم أن الشاكر يحرم ما قسم له مما يناله الكافر.

[ ص: 135 ] وأما قوله (وسيجزي الله الشاكرين) عقيب قوله: (ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا) ، فهو إيصال وعد بوعيد.

وقوله: (وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير) : (كأين) : بمعنى: (كم) ، وهي (أي) دخلت عليها كاف التشبيه، فغير لفظها; لتغير معناها.

و (الربيون) : الجماعات الكثيرة، عن مجاهد ، وقتادة ، وغيرهما.

ابن زيد : هم الأتباع.

والمخبر عنهم بالقتل: قيل: هم الربيون، ومعنى (فما وهنوا) على هذا: فما وهن من بقي منهم، ولا يوقف على (قتل) على هذا التأويل، وهو مذهب الحسن وغيره، قال الحسن : لم يقتل نبي قط في حرب.

قتادة ، وعكرمة ، وغيرهما: المخبر عنه بالقتل: النبي، فالوقف على هذا على (قتل) جائز، وقوله: (معه ربيون كثير) : ابتداء وخبر.

(فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله) أي: ما وهنوا لقتل نبيهم، أو لقتل من قتل منهم.

(وما ضعفوا) عن عدوهم.

(وما استكانوا) : لما أصابهم في الجهاد، و (الاستكانة) : الذل والخضوع، وأصلها: (استكانوا) : (افتعلوا) ، فأشبعت فتحة الكاف، فتولدت منها ألف، [ ص: 136 ] ومن جعلها من الكون; فهي (استفعلوا) ، والأول أشبه بمعنى الآية.

وقوله: (وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا) أي: صغير ذنوبنا، (وإسرافنا في أمرنا) : كبيرها.

(وثبت أقدامنا) أي: على دينك، وفي قتال عدوك.

(فآتاهم الله ثواب الدنيا) يعني: النصر والغنيمة.

(وحسن ثواب الآخرة) يعني: ما أعد لهم في الآخرة.

(يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا) يعني: مشركي العرب، وقيل: اليهود والنصارى.

(بل الله مولاكم) أي: متولي نصركم.

(سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب) : قال السدي ، وغيره: هم أبو سفيان وأصحابه; بالرجوع بعد أحد لاستئصال المسلمين، فألقى الله عز وجل الرعب في قلوبهم حتى انقلبوا خائبين) .

وقوله: (ما لم ينـزل به سلطانا) أي: حجة، وأصل (السلطان) :

القوة; فالحجة يقهر بها، كما يقهر بالسلطان.

(ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه) : قتادة ، وغيره: معنى (تحسونهم) : تقتلونهم، وأصله من الحس الذي هو الإدراك بالحاسة، فمعنى (حسه) إذا قتله: أبطل حسه، ومعنى (بإذنه) : بعلمه.

[ ص: 137 ] (حتى إذا فشلتم) : أي جبنتم.

(حتى إذا فشلتم) يعني: تنازع الرماة حين قال بعضهم: نلحق الغنائم، وقال بعضهم: بل نثبت في مكاننا الذي أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بالثبوت فيه.

(من بعد ما أراكم ما تحبون) يعني: من الغلبة التي كانت للمسلمين يوم أحد في أول أمرهم.

(من يريد الدنيا) أي: الغنيمة، (ومنكم من يريد الآخرة) أي: الأجر.

(ثم صرفكم عنهم ليبتليكم) أي: بعد أن استوليتم عليهم.

(ولقد عفا عنكم) أي: إذ لم يستأصلكم، والخطاب: قيل: هو للجميع، وقيل: هو للرماة الذين خالفوا ما أمروا به.

(إذ تصعدون ولا تلوون على أحد) : (الإصعاد) : الابتداء في السير.

القتبي: (أصعد في الأمر) ; إذا أمعن، فالإصعاد: يكون في المستوي من الأرض، والصعود: في المرتفع، فكأن الإصعاد إبعاد في الأرض كإبعاد الارتفاع.

قتادة ، والربيع : أصعدوا يوم أحد في الوادي.

ابن عباس ، والحسن : صعدوا في أحد فرارا، وهذا على قراءة من قرأ: (تصعدون) ، [ويجوز أن يكون صعودهم في الجبل بعد إصعادهم في الوادي; فيصح المعنى على قراءة من قرأ: (تصعدون) ].

(والرسول يدعوكم في أخراكم) : قال ابن عباس ، وغيره: كان دعاء [ ص: 138 ] النبي صلى الله عليه وسلم: "إلي عباد الله ارجعوا".

(فأثابكم غما بغم) : قال مجاهد ، وقتادة ، وغيرهما: الغم الأول: القتل والجراح، والغم الثاني: الإرجاف بقتل النبي عليه الصلاة والسلام; إذ صاح به الشيطان.

وقيل: الأول: أسفهم على فوت الغنيمة، والثاني: اطلاع أبي سفيان عليهم في الجبل.

و (الباء) : قيل: هي بمعنى (على) ، وقيل: بمعنى (مع) ، وقيل: هي على بابها.

والمعنى: أنهم غموا النبي عليه الصلاة والسلام بمخالفتهم إياه، فأثابهم بذلك الغم غمهم بما أصيب منهم.

الحسن : معناه: غم يوم أحد بغم يوم بدر.

وسمي الغم ثوابا، كما سمي جزاء الذنب ذنبا، على ما قدمناه.

وقوله: (لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم) أي: على ما فاتكم من الغنيمة، ولا ما أصابكم من الهزيمة، و (اللام) من (لكيلا) متعلقة بقوله: (فأثابكم غما بغم) ، ويجوز أن تكون متعلقة بقوله: (ولقد عفا عنكم) .

[ ص: 139 ] (ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا) : (الأمنة) و (الأمن) سواء، ونزلت (الأمنة) المذكورة ههنا يوم أحد، فغشي طائفة من المؤمنين النعاس.

(وطائفة قد أهمتهم أنفسهم) يعني: المنافقين، والواو في (وطائفة) : واو الحال; بمعنى: (إذ طائفة) .

(يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية) يعني: ما ظنوه من اضمحلال أمر النبي صلى الله عليه وسلم.

(يقولون هل لنا من الأمر من شيء) أي: يقولون: ليس لنا من الظفر الذي وعدنا به محمد شيء.

وقيل: معناه: يقولون: ليس لنا من أمر الخروج شيء، إنما أخرجنا كارهين; يدل على ذلك قوله إخبارا عنهم: (لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ها هنا) ، ويروى: أن الذي قال ذلك عبد الله بن أبي، ومعتب بن قشير، عن الزبير بن العوام وغيره.

(قل إن الأمر كله لله) أي: ينصر من يشاء، ويخذل من يشاء.

(يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك) يعني: من الشك والنفاق.

(وليبتلي الله ما في صدوركم) أي: وليبتلي ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم فرض عليكم القتال، ومعناه: أنه ابتلاهم، ليظهر للمؤمنين ما يخفونه، وليقع منهم الفعل الذي يجازون عليه.

[ ص: 140 ] وقيل: هي على حذف المضاف، والتقدير: وليبتلي أولياء الله .

(وليمحص ما في قلوبكم) أي: يذهب ما اقترفتم من السيئات إن تبتم وأخلصتم، وقد تقدم ذكر التمحيص.

(إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا) يعني: من تولى عن المشركين يوم أحد، عن عمر رضي الله عنه، وغيره.

السدي : يعني: من هرب إلى المدينة في وقت الهزيمة، دون من صعد الجبل.

وقيل: هي في قوم بأعيانهم، أقاموا عن النبي عليه الصلاة والسلام في هزيمتهم ثلاثة أيام، ثم انصرفوا.

ومعنى (استزلهم الشيطان) : استدعى أن يزلوا.

وقيل: ذكرهم الشيطان ذنوبهم; فكرهوا الموت، وهو معنى (ببعض ما كسبوا) على هذا التأويل.

وقيل: معناه: محبتهم الغنيمة، وحرصهم على الحياة.

(ولقد عفا الله عنهم) أي: إذ لم يعاجلهم بالعقوبة، عن ابن جريج ، وابن زيد.

وقوله: (يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا) يعني بـ (كالذين كفروا) : المنافقين، قالوا في السرايا التي بعث النبي عليه الصلاة والسلام إلى بئر معونة: (لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا) ، فنهي المسلمون أن يقولوا مثل قولهم.

وقوله: (إذا ضربوا في الأرض) : هو لما مضى; لأن في الكلام معنى الشرط، من [ ص: 141 ] حيث كان (الذين) مبهما غير مؤقت، فوقع (إذا) موقع (إذ) ، كما يقع الماضي في الجزاء موضع المستقبل.

ومعنى (ضربوا في الأرض) : سافروا.

(ليجعل الله ذلك حسرة) : [اللام متعلقة بـ(قالوا) من قوله: (وقالوا لإخوانهم) ، أو يكون المعنى: لا تكونوا مثلهم; ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم]، و (الحسرة) : على ما يفوتهم من الظفر والغنيمة.

(فبما رحمة من الله لنت لهم) : (ما) : صلة، والمعنى: فبرحمة من الله. ابن كيسان : (ما) : نكرة في موضع جر بالباء، و (رحمة) : بدل منها.

(ولو كنت فظا غليظ القلب) : (الفظ) : الجافي، الغليظ الجانب، السيئ الخلق، و (الغليظ القلب) : القاسي القلب، وجمع بين الصفتين; لئلا يتوهم أنه يعني فظاظة الكلام، يقال: (فظظت تفظ فظاظة; فأنت فظ) ، وأصله: (فظظ) .

(لانفضوا من حولك) أي: تفرقوا.

(وشاورهم في الأمر) : قال قتادة ، والربيع بن أنس : معنى مشاورته إياهم: أنه تطييب لنفوسهم، ورفع لأقدارهم.

سفيان بن عيينة: إنما ذلك; لتقتدي به أمته في المشاورة.

وقيل: أمر بذلك; لأنه قد يكون عند بعضهم من أمور الدنيا ما ليس عنده [ ص: 142 ] إذا لم يوح إليه.

(إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده) أي: وإن يترككم من معونته، وقوله: (فمن ذا الذي ينصركم من بعده) تقرير.

التالي السابق


الخدمات العلمية