السراج الوهاج من كشف مطالب صحيح مسلم بن الحجاج

صديق خان - محمد صديق حسن خان القنوجي الظاهري

صفحة جزء
1742 (باب ما يخرج من زهرة الدنيا)

وقال النووي : (باب التحذير من الاغترار بزينة الدنيا، وما يبسط منها) .

(حديث الباب)

وهو بصحيح مسلم \ النووي ص 140 - 141 ج7 المطبعة المصرية

[عن أبي سعيد الخدري يقول قام: رسول الله صلى الله عليه وسلم فخطب الناس فقال: لا والله ما أخشى عليكم أيها الناس إلا ما يخرج الله لكم من زهرة الدنيا فقال رجل: يا رسول الله! أيأتي الخير بالشر؟ فصمت رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعة. ثم قال: "كيف قلت؟" قال: قلت: يا رسول الله أيأتي الخير بالشر؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الخير لا يأتي إلا بخير، أوخير هو؟ إن كل ما ينبت الربيع يقتل [ ص: 637 ] حبطا أو يلم إلا آكلة الخضر، أكلت حتى إذا امتلأت خاصرتاها، استقبلت الشمس ثلطت أو بالت، ثم اجترت فعادت فأكلت، فمن يأخذ مالا بحقه يبارك له فيه، ومن يأخذ مالا بغير حقه فمثله كمثل الذي يأكل ولا يشبع .]
(الشرح)

(عن أبي سعيد الخدري ) رضي الله عنه، (قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فخطب الناس، فقال: "لا والله! ما أخشى عليكم أيها الناس ! إلا ما خرج الله لكم من زهرة الدنيا ") .

فيه: التحذير من الاغترار بالدنيا، والنظر إليها، والمفاخرة بها.

وفيه: استحباب الحلف من غير استحلاف، إذا كان فيه زيادة في التوكيد والتفخيم، ليكون أوقع في النفوس.

(فقال رجل: يا رسول الله!) إنما يحصل ذلك لنا من جهة مباحة، غنيمة وغيرها. وذلك خير.

(أيأتي الخير بالشر؟) استفهام إنكار واستبعاد. أي: يبعد أن يكون الشيء خيرا، ثم يترتب عليه شر.

(فصمت رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعة، ثم قال: "كيف قلت؟".

قال: قلت: يا رسول الله! أيأتي الخير بالشر؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الخير " الحقيقي "لا يأتي إلا بخير ") .

[ ص: 638 ] أي: لا يترتب عليه إلا خير.

ثم قال: (أوخير هو ؟) بفتح الواو. أي: إن هذا الذي يحصل لكم من زهرة الدنيا، ليس بخير. وإنما هو فتنة.

وتقديره: الخير لا يأتي إلا بخير، ولكن ليست هذه الزهرة بخير، لما تؤدي إليه من الفتنة، والمنافسة، والاشتغال بها عن كمال الإقبال على الآخرة.

ثم ضرب لذلك مثلا، فقال: (إن كل ما ينبت الربيع) .

وفي رواية: " إن ما ينبت الربيع "

ورواية "كل"، محمولة على رواية "مما". وهو من باب: (دهر كل شيء) ، (وأوتيت من كل شيء) .

(يقتل حبطا) بفتح الحاء والباء: (التخمة) .

"أو يلم". أي: يقارب القتل.

(إلا آكلة الخضر) بكسر الهمزة من " إلا"، وتشديد اللام، على الاستثناء.

هذا هو المشهور، الذي قاله الجمهور؛ من أهل الحديث واللغة وغيرهم.

قال القاضي: ورواه بعضهم: (ألا) بفتح الهمزة وتخفيف اللام، على الاستفتاح.

[ ص: 639 ] (وآكلة) بهمزة ممدودة.

(والخضر) بفتح الخاء وكسر الضاد. هكذا رواه الجمهور.

وقال القاضي : وضبطه بعضهم: بضم الخاء وفتح الضاد.

(أكلت حتى إذا امتلأت خاصرتاها، استقبلت الشمس ثلطت) .

بفتح الثاء. أي: ألقت الثلط. وهو الرجيم الرقيق. وأكثر ما يقال للإبل والبقر والفيلة.

(أو بالت، ثم اجترت) أي: مضغت جرتها.

قال أهل اللغة: (الجرة) بكسر الجيم: ما يخرجه البعير من بطنه ليمضغه، ثم يبلعه.

(والقصع) : شدة المضغ.

(فعادت فأكلت) .

والمعنى: أن نبات الربيع وخضره يقتل حبطا بالتخمة لكثرة الأكل. أو يقارب القتل.

إلا إذا اقتصر منه على اليسير الذي تدعو إليه الحاجة، وتحصل به الكفاية المقتصدة، فإنه لا يضر.

وهكذا "المال". هو كنبات الربيع، مستحسن تطلبه النفوس وتميل إليه.

[ ص: 640 ] فمنهم: من يستكثر منه ويستغرق فيه، غير صارف له في وجوهه، فهذا يهلكه أو يقارب إهلاكه.

(ومنهم: من يقتصد فيه، فلا يأخذ إلا يسيرا. وإن أخذ كثيرا فرقه في وجوهه كما تثلط الدابة. فهذا لا يضره.

هذا مختصر معنى الحديث.

(من يأخذ مالا بحقه، يبارك له فيه، ومن يأخذ مالا بغير حقه، فمثله كمثل الذي يأكل ولا يشبع) .

قال الأزهري: فيه مثلان:

(أحدهما) للمكثر من الجمع، المانع من الحق. وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وآله وسلم:

"إن مما ينبت الربيع ما يقتل"؛ لأن الربيع ينبت أجرار البقول، فتستكثر منه الدابة حتى تهلك.

والثاني "للمقتصد". وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: "إلا آكلة الخضر"؛ لأن الخضر ليس من أجرار البقول.

وقال عياض : ضرب صلى الله عليه وآله وسلم مثلا بحالتي المقتصد والمكثر، فقال صلى الله عليه وسلم:

أنتم تقولون: إن نبات الربيع خير، وبه قوام الحيوان. وليس هو كذلك مطلقا، [ ص: 641 ] بل منه ما يقتل، أو يقارب القتل. فحالة المبطون المتخوم، كحالة من يجمع المال ولا يصرفه في وجوهه.

فأشار صلى الله عليه وآله وسلم: إلى أن الاعتدال، والتوسط في الجمع، أحسن.

ثم ضرب مثلا من ينفعه إكثاره. وهو التشبيه بآكلة الخضر.

وهذا التشبيه لمن صرفه في وجوهه الشرعية.

ووجه الشبه: أن هذه الدابة تأكل من الخضر حتى تمتلئ خاصرتها، ثم تثلط.

وهكذا من يجمعه ثم يصرفه. والله أعلم.

التالي السابق


الخدمات العلمية