السراج الوهاج من كشف مطالب صحيح مسلم بن الحجاج

صديق خان - محمد صديق حسن خان القنوجي الظاهري

صفحة جزء
2030 [ ص: 269 ] باب التلبية

وزاد النووي: (وصفتها ووقتها).

حديث الباب

وهو بصحيح مسلم \ النووي ص 88 ج 8 المطبعة المصرية

[عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا استوت به راحلته، قائمة عند مسجد ذي الحليفة، أهل فقال: "لبيك اللهم! لبيك. لبيك لا شريك لك لبيك. إن الحمد والنعمة؛ لك والملك. لا شريك لك". قالوا: وكان عبد الله بن عمر (رضي الله عنهما) يقول: هذه تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم .

قال نافع: كان عبد الله (رضي الله عنه) يزيد مع هذا: لبيك لبيك، وسعديك، والخير بيديك لبيك، والرغباء إليك والعمل].


(الشرح)

(عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان إذا استوت به راحلته، قائمة عند مسجد ذي الحليفة ، أهل) .

الإهلال هنا: رفع الصوت بالتلبية، عند الدخول في الإحرام .

وأصل الإهلال في اللغة: رفع الصوت مطلقا. ومنه: (استهل المولود).

أي: صاح.

[ ص: 270 ] ومنه قوله تعالى: وما أهل به لغير الله . أي: رفع الصوت عند ذبحه، بغير ذكر الله.

وسمي الهلال: (هلالا) ، لرفعهم الصوت عند رؤيته.

(فقال: لبيك) .

قال عياض : قال المازري : (التلبية) مثناة، للتكثير والمبالغة. ومعناها: إجابة بعد إجابة، ولزوم لطاعتك. فتثنى للتوكيد، لا تثنية حقيقية.

وقال يونس بن حبيب البصري : (لبيك) اسم مفرد، لا مثنى.

قال: وألفه إنما انقلبت ياء، لاتصالها بالضمير. كلدي، علي.

ومذهب سيبويه : أنه مثنى. بدليل قلبها ياء مع المظهر.

قال النووي : وأكثر الناس على ما قاله سيبويه . قال ابن الأبياري : ثنوا (لبيك). كما ثنوا (حنانيك). أي: تحننا بعد تحنن.

وأصل (لبيك): لببتك. فاستثقلوا الجمع بين: ثلاث باءات، فأبدلوا من الثالثة ياء. كما قالوا من الظن: (تظنيت). والأصل: تظننت.

واختلفوا في معنى: (لبيك)، واشتقاقها : فقيل معناها: اتجاهي [ ص: 271 ] وقصدي إليك. مأخوذ من قولهم: داري تلب دارك. أي: تواجهها.

وقيل: معناها: محبتي لك. مأخوذ من قولهم: امرأة لبة. إذا كانت محبة لولدها، عاطفة عليه.

وقيل: معناها: إخلاصي لك. مأخوذ من قولهم: (حب لباب). إذا كان خالصا. ومن ذلك: (لب الطعام) ولبابه.

وقيل: معناها: (أنا مقيم على طاعتك، وإجابتك). مأخوذ من قولهم: لب الرجل بالمكان وألب. إذا أقام فيه.

قال ابن الأنباري: وبهذا قال الخليل .

قال عياض : قيل: هذه الإجابة، لقوله تعالى لإبراهيم عليه السلام: ( وأذن في الناس بالحج ).

وقال إبراهيم الحربي في معنى (لبيك): أي: قربة منك وطاعة. والإلباب: (القرب).

وقال أبو نصر : معناه: (أنا ملب بين يديك). أي: خاضع.

(اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك) . بكسر همزة (إن) وفتحها: وجهان مشهوران لأهل الحديث، وأهل اللغة.

قال الجمهور: الكسر أجود. قال الخطابي : الفتح رواية العامة.

وقال ثعلب : الاختيار الكسر. وهو الأجود في المعنى من الفتح.

[ ص: 272 ] لأن من كسر جعل معناه: (إن الحمد والنعمة لك) ، على كل حال.

ومن فتح قال معناه: لبيك لهذا السبب.

والمشهور في النعمة: (النصب).

قال عياض : ويجوز رفعها على الابتداء. ويكون الخبر محذوفا.

قال ابن الأنباري : وإن شئت جعلت خبر (إن) محذوفا، تقديره: (إن الحمد لك، والنعمة مستقرة لك).

(والملك لا شريك لك) .

"فيه": نفي الشرك، وإثبات هذه الثلاثة المذكورة لله سبحانه وحده . فإنه لا يستحق الحمد إلا هو، ولا نعمة إلا منه، ولا ملك إلا له.

قال تعالى: ( لمن الملك اليوم لله الواحد القهار ).

(قالوا: وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يقول: هذه تلبية رسول الله -صلى الله عليه وسلم) -: (قال نافع : كان عبد الله رضي الله عنه يزيد مع هذا: لبيك لبيك وسعديك) .

[ ص: 273 ] قال عياض : إعرابها، وتثنيتها، كما سبق في (لبيك). ومعناه: مساعدة لطاعتك، بعد مساعدة.

(والخير بيديك). أي: الخير كله بيد الله سبحانه، ومن فضله.

(لبيك، والرغباء إليك والعمل).

قال المازري : يروى بفتح الراء والمد، وبضم الراء مع القصر. ونظيره: (العلا والعلياء) ، (والنعمى والنعماء).

قال عياض : وحكى أبو علي فيه أيضا الفتح مع القصر: (الرغبى). مثل: (كرى).

ومعناه هنا: الطلب والمسألة، إلى من بيده الخير، وهو المقصود بالعمل، المستحق للعبادة.

وأما حكم التلبية ، فقال النووي : أجمع المسلمون على أنها مشروعة. ثم اختلفوا في إيجابها.

فقال الشافعي وآخرون: هي سنة. ليست بشرط لصحة الحج، ولا بواجبة. فلو تركها صح حجه ولا دم عليه. لكن فاتته الفضيلة.

وقال بعض الشافعية : هي واجبة. تجبر بالدم. ويصح الحج بدونها.

وقال بعضهم: هي شرط لصحة الإحرام. قال: ولا يصح الإحرام ولا الحج إلا بها.

[ ص: 274 ] قال النووي : والصحيح من مذهبنا: ما قدمناه عن الشافعي .

وقال مالك : ليست بواجبة. ولكن لو تركها لزمه دم، وصح حجه. انتهى.

وأقول: ثبت عند مالك (في الموطأ) ، والشافعي ، وأحمد ، وأهل السنن، وابن حبان ، والحاكم ، والبيهقي ، من حديث: ( خلاد بن السائب ، عن أبيه، عن النبي -صلى الله عليه وسلم - قال: "أتاني جبريل فأمرني: أن آمر أصحابي: أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية" . قال: هذا حديث صحيح. وصححه ابن حبان والحاكم .

قال في (السيل): فهذا يفيد مشروعية رفع الصوت بالتلبية، في هذا الموطن، من غير فرق بين صعود وهبوط. انتهى.

قلت: ويفيد أيضا (وجوب التلبية).

وقال النووي : يستحب رفع الصوت بها، بحيث لا يشق عليه. والمرأة ليس لها الرفع. لأنه يخاف الفتنة بصوتها.

ويستحب الإكثار منها. لا سيما عند تغاير الأحوال: كإقبال الليل والنهار، والصعود والهبوط، واجتماع الرفاق، والقيام والقعود، والركوب والنزول، وأدبار الصلوات، وفي المساجد كلها.

[ ص: 275 ] قال: والأصح: أنه لا يلبي في الطواف والسعي. لأن لهما أذكارا مخصوصة.

ويستحب: أن يكرر (التلبية) كل مرة، ثلاث مرات فأكثر. ويواليها. ولا يقطعها بكلام. فإن سلم عليه، رد السلام باللفظ. ويكره السلام عليه في هذه الحال.

وإذا لبى، صلى على رسول الله -صلى الله عليه وسلم -. وسأل الله ما شاء لنفسه، ولمن أحبه، وللمسلمين.

وأفضله: سؤال الرضوان والجنة، والاستعاذة من النار.

وإذا رأى شيئا يعجبه قال: (لبيك، إن العيش عيش الآخرة).

ولا تزال التلبية مستحبة للحاج، حتى يشرع في رمي جمرة العقبة، يوم النحر. أو يطوف طواف الإفاضة إن قدمه عليها، أو الحلق عند من يقول: (الحلق نسك). وهو الصحيح.

وتستحب للعمرة، حتى يشرع في الطواف.

[ ص: 276 ] وتستحب للمحرم مطلقا: سواء الرجل، والمرأة، والمحدث، والجنب، والحائض. لقوله -صلى الله عليه وسلم - لعائشة : "اصنعي ما يصنع الحاج، غير أن لا تطوفي" .

هذا آخر كلام النووي ، في حكم التلبية.

ثم قال: قال الشافعي ومالك : ينعقد الحج بالنية بالقلب، من غير لفظ. كما ينعقد الصوم بالنية فقط.

وقال أبو حنيفة : لا ينعقد إلا بانضمام التلبية، أو سوق الهدي.

قال أبو حنيفة : ويجزئ عن التلبية، ما في معناها: من التسبيح والتهليل وسائر الأذكار . كما قال هو: إن التسبيح وغيره، يجزئ في الإحرام بالصلاة، عن التكبير. والله أعلم. انتهى.

وأقول: إن كل عمل يحتاج إلى النية. والعمل يشمل: (الفعل والترك). والقول كالفعل. وظاهر الأدلة تقتضي: أن النية شرط في جميع العبادات، الثابتة أدلتها. على أن عدمها يؤثر في العدم. وهذا هو معنى الشرط، عند أهل الأصول.

وينبغي: أن تكون النية مقارنة للتلبية . فقد ثبت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: (في دواوين الإسلام) من غير وجه: (أنه أهل ملبيا) .

وقد تقرر عند أهل العلم: أن أفعاله، وأقواله، -صلى الله عليه وسلم - في الحج: [ ص: 277 ] محمولة على الوجوب ، لأنها بيان لمجمل القرآن. وامتثال لأمره -صلى الله عليه وسلم - لأمته: أن يأخذوا عنه مناسكهم.

فمن ادعى في شيء منها: أنه غير واجب، فلا يقبل منه ذلك إلا بدليل. ولا يجزئ عن التلبية غيرها، من سائر الأذكار.

والأحاديث الواردة في التلبية، المفيدة لوجوبها، ترد على من قال بخلافه.

وأما كونها: مقارنة للتقليد، فلما ثبت عنه -صلى الله عليه وسلم -، في عام الحديبية : (أنه لما كان بذي الحليفة ، قلد الهدي وأشعره، وأحرم بالعمرة) والله أعلم.

التالي السابق


الخدمات العلمية