السراج الوهاج من كشف مطالب صحيح مسلم بن الحجاج

صديق خان - محمد صديق حسن خان القنوجي الظاهري

صفحة جزء
181 (باب منه) وأورده النووي في الباب المتقدم

(حديث الباب)

وهو بصحيح مسلم \ النووي ص 146 -147 ج2 المطبعة المصرية

[55 عن أبي هريرة ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها، ما لم يتكلموا أو يعملوا به» ].


[ ص: 263 ] (الشرح)

(عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تبارك وتعالى» تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها) ضبطها العلماء بالنصب والرفع، وهما ظاهران. إلا أن النصب أظهر وأشهر.

قال عياض بالنصب.، قال: ويدل عليه قوله: «إن أحدنا يحدث نفسه.

وقال الطحاوي وأهل اللغة: يقولون: «أنفسها» بالرفع؛ يريدون بغير اختيارها. كما قال تعالى:

ونعلم ما توسوس به نفسه انتهى.

وأقول: كلاهما صحيح لفظا ومعنى؛ إعرابا، وتركيبا، والمعاني متقاربة.

ما لم يتكلموا أو يعملوا به .

هذا الحديث يدل على غفران كل ما وقع، من حديث النفس. فإن لفظ «ما» من صيغ العموم، كما صرح به أهل الأصول، وأهل المعاني والبيان.

فهذا اللفظ في قوة «إن الله غفر لأمتي كل ما حدثت به أنفسها» .

[ ص: 264 ] وهكذا ما ثبت في لفظ آخر في الصحيح، من حديث أبي هريرة «إن الله (عز وجل) تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها، فإنه في قوة «كل ما حدثت به» . وهكذا بقية الألفاظ في الصحيح وغيره، فإنها دالة على العموم، مفيدة لعدم اختصاص التجاوز والمغفرة، ببعض حديث النفس دون بعض.

ويؤيد ذلك الحديث الثابت في الصحيح، في سبب نزول قوله تعالى: ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا الآية.

ونسخه لقوله تعالى:

وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله .

فتقرر، أن الشيء الذي تجاوزه الله لهذه الأمة من حديث النفس، هو كل ما يصدق عليه أنه حديث النفس كائنا ما كان، سواء استقر في النفس، وطال الحديث لها به، أو قصر، وسواء بقي زمانا كثيرا، أو قليلا، وسواء مر على النفس مرورا سريعا، أو تراخى، فالكل مما غفره الله لهذه الأمة وشرفها به، وخصها برفع الحرج فيه، دون سائر الأمم، فإنها كانت مخاطبة بذلك مأخوذة به.

وظهر بذلك، أن كل ما يصدق عليه حديث النفس. فهو مغفور عفو [ ص: 265 ] متجاوز عنه، كائنا ما كان، على أي صفة كان. فلا تقع به ردة، ولا يكتب ذنب ولا تبطل به عبادة، ولا يصح به طلاق ولا عتاق، ولا شيء من العقود، كائنا ما كان. وتدل عليه الأحاديث المتقدمة في وهم الحسنة وهم السيئة، وألفاظ الحديث في هذا الباب كثيرة.

وأما ما روي عن بعض أهل العلم، من الفرق بين ما استقر من أفعال القلوب، وما لم يستقر. وأنه يؤاخذ بما استقر منها، لا ما لم يستقر. وأن حديث التجاوز هذا محمول على ما لم يستقر. فلا يخفاك أنه لا وجه لهذا التأويل المتعسف، والتفرقة بين ما يشمله الحديث ويدل عليه. بإدخال بعضه تحت حكم العفو والتجاوز، وإخراج بعضه عن ذلك الحكم، وجعله مما لم يتناوله التجاوز عن حديث النفس؛ مع كونه منه؛

وفي هذا من التعسف ما لم تلج إليه ضرورة، ولا قام عليه دليل.

والحديث المتقدم في الباب، يدل أكمل دلالة، وينادي بأعلى صوت، أن الهم مغفور بجميع أقسامه، ما لم يعمل به. ولا أصرح وأوضح من قوله: «ما لم يعملها. فإن عملها كتبت عليه سيئة» ، فإن التقييد بقوله «ما لم يعملها» ، ثم المجيء بالشرطية؛ وجعل الكتب لها عليه جزاء لعملها، في غاية الوضوح. فهل أوضح من هذا؟ وهل أظهر من دلالته؟

فكيف يقال: إن هذا محمول على ما لم يستقر، دون ما استقر من حديث النفس؟؛ وما الذي يفيد: أن هذا الاستقرار قد خرج من [ ص: 266 ] الخواطر القلبية، والأحاديث النفسية، إلى حيز الأفعال الخارجية؟ وما الموجب لهذا التأويل المتعسف، والتخصيص المتعب؟ وما المقتضي لتخصيص هذا الكلام النبوي، والعبارة المحمدية؟ فإن هذا من التقول على الله بما لم يقل؛ ومن إثبات الإثم على العباد، والمؤاخذة لهم مما صرحت الشريعة المطهرة بأنه عفو.

وقال بعض هؤلاء، القائلين بالفرق بين ما استقر من حديث النفس، وما لم يستقر. بأنه: لا يمكن إدخال الحديث المستقر تحت قوله: «ما لم يعمل» وما أبعد هذا! فإن «العمل والتكلم» هما قسيما حديث النفس. ومقابلاه، كما في حديث الهم بالسيئة، وهما أيضا الغاية، التي ينتهي عندها التجاوز.

و كل عربي، أو فاهم للغة العرب؛ يفهم من هذا التركيب المذكور في الحديثين، غير ما فهمه هذا القائل. وغير ما فهمه من قبله.

وبهذا تعرف بطلان ما قاله المتخصصون للمستقر من حديث النفس بالمؤاخذة؛ وأنه ليس في أيديهم أثارة من علم. بل مجرد رأي بحت لا وجه له، ولا دليل عليه، ولا ملجئ إليه، ولا مسوغ له، والصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم قد حكى لنا عن ربه سبحانه وتعالى «أنه لا يؤاخذه» ، إلا إذا عملها. ولا شك ولا ريب: أن المقصد، والعزم، وعقد القلب والنية، لو فرضنا أنها أمور زائدة على مجرد الهم، لم يكن بها مؤاخذة، لأنها ليست «بعمل» والمؤاخذة إنما هي «بالعمل» ، ولا يخالف في ذلك مخالف من أهل اللسان، ولا من أهل الشرع.

[ ص: 267 ] وقد دلت هذه الأحاديث على أن المؤاخذة، ليست إلا بالعمل. كما دلت الأحاديث المصرحة بأن الله غفر لهذه الأمة ما حدثت به أنفسها. على أن المؤاخذة ليست إلا بالعمل أو التكلم.

ومن أعظم الأدلة، وأوضحها، ما في حديث ابن عباس المتقدم «وإن هم بسيئة فلم يعملها، كتبها الله له حسنة» . وفي لفظ آخر من حديث أبي هريرة: «وإن تركها فاكتبوها له حسنة» .

فإن هذا يدل على أن الله، يكتب لمن هم بالسيئة ولم يعملها حسنة. ومعلوم أن القاصد، والعازم، والناوي، والمريد للسيئة، لم يعملوها.

فهم في عداد من يكتب له تلك السيئة التي قصدها، أو عزم عليها أو، نواها، أو أرادها. «حسنة» . لأنه لم يعملها، ولأنه تركها بلا شك، ولا شبهة، فاندفع ما جاء به الفارقون بين الهم وبين تلك الأمور، ولم يشتمل كلامهم على فائدة، يعتد بها. فيما نحن بصدده.

وقد زعم قوم من علماء الكلام: أن «العزم» ، إن شارك الفعل للمعزوم عليه، كان مؤاخذا به، معاتبا عليه. قالوا: فمن عزم على أن يستخف بنبي من الأنبياء، أو بكتاب من الكتب المنزلة، كفر بمجرد هذا العزم؛ وإن لم يفعل فعلا ولا قال قولا. هذا معنى كلامهم، وهو كلام ساقط، وتفرقة باطلة، ليس عليها أثارة من علم: نقل، ولا عقل.

وبيان ذلك: أن الغاية التي أثبتت الأدلة المؤاخذة بها. هي «العمل [ ص: 268 ] أو التكلم، وهذا العازم لم يعمل، ولا تكلم. فالقول بالمؤاخذة له، قول بلا دليل، بل قول مخالف للدليل مخالفة واضحة ظاهرة. والذي حملهم على هذا خيال مختل، وشبهة داحضة، وهو أنهم ظنوا أن هذا العازم على ما ذكروه قد عزم على ما لا يجوز، وأن ذلك موجب للمؤاخذة.

وهذا غلط ظاهر. فإنه لا شك أنه قد عزم على ما لا يجوز. لكن الذي لا يجوز، هو ما عزم عليه. وهو لم يفعله. وليس الذي لا يجوز، هو مجرد ذلك الخاطر القلبي والنزعة الشيطانية، فإن الشرع قد جاءنا بأنها عفو، مغفورة. ما لم يعمل أو يتكلم، وهذا لم يعمل ولا تكلم. وليس عزمه بعمل ولا كلام، باتفاق أهل اللغة والشرع.

وهذا هو المعنى الذي فهمه السلف الصالح، من هذه الأحاديث؛ ورحم الله الإمام الشافعي، فإنه قال في «الأم» : كل ما لم يحرك به لسانه فهو حديث النفس. الموضوع عن بني آدم انتهى.

ولم يصب من تأوله، كما لم يصب من تأول الأحاديث. فقد تبين بجميع ما ذكرنا، أن الحرج المغفور لهذه الأمة، هو ما كان من تكليف غيرهم من العقوبة على حديث النفس، وما تخفيه الضمائر، وما تهم به القلوب، من غير فرق بين ما استقر وطال أمد به، وتردد في النفس وتكرر حديثها به، وبين ما مر سريعا وعرض عرضا يسيرا. فإنه مغفور لنا، ومعاقب به من قبلنا.

والكلام على هذه المسألة قد طال، وتمامه في كتابنا «دليل الطالب [ ص: 269 ] على أرجح المطالب» ، وأرى أنك لا تجد مثله في غير كتبنا إن شاء الله تعالى.

التالي السابق


الخدمات العلمية