السراج الوهاج من كشف مطالب صحيح مسلم بن الحجاج

صديق خان - محمد صديق حسن خان القنوجي الظاهري

صفحة جزء
2414 [ ص: 5 ] باب في تحريم مكة، وصيدها، وشجرها، ولقطتها

وقال النووي: (باب تحريم مكة، وتحريم صيدها، وخلاها، وشجرها، ولقطتها إلا لمنشد على الدوام ).

حديث الباب

وهو بصحيح مسلم \ النووي ص128-130 ج9 المطبعة المصرية

[عن أبي سلمة (هو ابن عبد الرحمن ) ; حدثني أبو هريرة قال: لما فتح الله عز وجل، على رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، قام في الناس فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "إن الله حبس عن مكة الفيل، وسلط عليها رسوله والمؤمنين. وإنها لن تحل لأحد كان قبلي، وإنها أحلت لي ساعة من نهار. وإنها لن تحل لأحد بعدي. فلا ينفر صيدها. ولا يختلى شوكها. ولا تحل ساقطتها إلا لمنشد. ومن قتل له قتيل، فهو بخير النظرين: إما أن يفدى، وإما أن يقتل. "

فقال العباس إلا الإذخر. يا رسول الله! فإنا نجعله في قبورنا وبيوتنا، فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إلا الإذخر". فقام أبو شاه (رجل من أهل اليمن ) فقال: اكتبوا لي يا رسول الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اكتبوا لأبي شاه"
.

قال الوليد: فقلت للأوزاعي: ما قوله: اكتبوا لي يا رسول الله ؟ قال: هذه الخطبة، التي سمعها من رسول الله صلى الله عليه وسلم. ]


[ ص: 6 ] (الشرح)

(عن أبي هريرة ) رضي الله عنه: (قال: لما فتح الله عز وجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، قام في الناس فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "إن الله حبس عن مكة الفيل، وسلط عليها رسوله والمؤمنين. وإنها لم تحل لأحد قبلي. وإنها أحلت لي ساعة من نهار. وإنها لن تحل لأحد بعدي". ).

وفي الرواية الأخرى: "إن هذا البلد، حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي، ولم يحل لي إلا ساعة من نهار، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة" .

وفي أخرى: (ثم قال: "إن مكة حرمها الله، ولم يحرمها الناس، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر: أن يسفك بها دما، ولا يعضد بها شجرة. فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها، فقولوا [ ص: 7 ] له: إن الله أذن لرسوله صلى الله عليه وسلم، ولم يأذن لكم وإنما أذن لي فيها ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها اليوم، كحرمتها بالأمس. وليبلغ الشاهد الغائب" . )

هذه الأحاديث، ظاهرة في تحريم القتال بمكة. قاله النووي.

وقال الماوردي البصري، صاحب الحاوي من الشافعية، في كتابه (الأحكام السلطانية ): من خصائص الحرم: أن لا يحارب أهله.

فإن بغوا على أهل العدل، فقد قال بعض الفقهاء: يحرم قتالهم، بل يضيق عليهم حتى يرجعوا إلى الطاعة، ويدخلوا في أحكام العدل.

قال: وقال جمهور الفقهاء: يقاتلون على بغيهم، إذا لم يمكن ردهم عن البغي إلا بالقتال، لأن قتال البغاة من حقوق الله التي لا يجوز إضاعتها، فحفظها في الحرم أولى من إضاعتها. انتهى.

قال النووي: وهذا الذي نقله عن جمهور الفقهاء، هو الصواب.

وقد نص عليه الشافعي (رحمه الله ) في كتاب: (اختلاف الحديث ) من كتب الإمام.

ونص عليه أيضا، في آخر كتابه المسمى: (بسير الواقدي، من كتب الأم ).

وقال القفال المروزي من الشافعية، في كتابه (شرح التلخيص ) في ذكر الخصائص: لا يجوز القتال بمكة. قال: حتى لو تحصن جماعة من الكفار فيها، لم يجز لنا قتالهم فيها.

[ ص: 8 ] قال النووي: وهذا الذي قاله القفال غلط، نبهت عليه حتى لا يغتر به.

وأما الجواب عن هذه الأحاديث، فهو ما أجاب به الشافعي، في كتابه (سير الواقدي ): أن معناها: تحريم نصب القتال عليهم، وقتالهم مما يعم: كالمنجنيق وغيره، إذا أمكن إصلاح الحال بدون ذلك.

بخلاف ما إذا تحصن الكفار، في بلد آخر، فإنه يجوز قتالهم على كل وجه، وبكل شيء. والله أعلم.

واستدل بهذا الحديث من يقول: إن مكة فتحت عنوة. وهو مذهب أبي حنيفة، وكثيرين أو الأكثرين.

وقال الشافعي وغيره: فتحت صلحا. وتأولوا هذا الحديث على أن القتال كان جائزا له صلى الله عليه وسلم في مكة. ولو احتاج إليه لفعله. ولكن ما احتاج إليه. انتهى.

قال النووي (في قوله: فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلخ ): معناه: دخلها متأهبا للقتال لو احتاج إليه. فهو دليل الجواز له تلك الساعة. انتهى.

(فلا ينفر صيدها ).

تصريح بتحريم النفير. وهو الإزعاج، وتنحيته من موضعه.

فإن نفره عصى، سواء تلف أم لا. لكن إن تلف في نفاره ضمنه المنفر، وإلا فلا ضمان.

[ ص: 9 ] قال النووي: قال العلماء: ونبه صلى الله عليه وسلم بالتنفير، على الإتلاف ونحوه. لأنه إذا حرم التنفير، فالإتلاف أولى.

قال في (شرح المنتقى ): التنفير، قيل: هو كناية عن الاصطياد. وقيل: على ظاهره. انتهى.

قال النووي: وأما صيد الحرم، فحرام (بالإجماع ) على الحلال والمحرم. فإن قتله، فعليه الجزاء عند العلماء كافة، إلا داود فقال: يأثم ولا جزاء عليه.

ولو دخل صيد من الحل إلى الحرم ; فله ذبحه، وأكله، وسائر أنواع التصرف فيه.

قال: هذا مذهبنا، ومذهب مالك.

وقال أبو حنيفة، وأحمد: لا يجوز ذبحه، ولا التصرف فيه، بل يلزمه إرساله.

قال: فإن أدخله مذبوحا جاز أكله. وقاسوه على المحرم.

قال: واحتج أصحابنا والجمهور، بحديث: (يا أبا عمير! ما فعل النغير ؟ ). وبالقياس على ما إذا دخل من الحل شجرة، أو كلأ. ولأنه ليس بصيد حرم. انتهى.

(ولا يختلى شوكها ).

وفي رواية: (لا يعضد شوكه، ولا يختلى خلاها ).

[ ص: 10 ] وفي رواية: (لا تعضد بها شجرة ).

وفي أخرى: (لا يخبط شوكها ).

قال أهل اللغة: العضد: القطع. والخلا بفتح الخاء مقصور: هو الرطب من الكلأ.

قالوا: الخلا والعشب: اسم للرطب منه. والحشيش والهشيم: اسم لليابس منه. والكلأ مهموز: يقع على الرطب واليابس منه.

وعد ابن مكي وغيره، من لحن العوام: إطلاقهم اسم (الحشيش ) على الرطب. بل هو مختص باليابس.

ومعنى يختلى: يؤخذ ويقطع. ومعنى يخبط: يضرب بالعصا ونحوها ليسقط ورقه.

قال النووي (رحمه الله ): اتفق العلماء، على تحريم قطع أشجارها، التي لا يستنبتها الآدميون في العادة، وعلى تحريم قطع خلاها.

واختلفوا فيما ينبته الآدميون.

قال القرطبي: الجمهور على الجواز.

وقال الشافعي: في الجميع الجزاء. ورجحه ابن قدامة.

واختلفوا في جزاء ما قطع من النوع الأول ;

[ ص: 11 ] فقال مالك: يأثم، ولا فدية عليه.

وقال عطاء: يستغفر.

وقال أبو حنيفة: يؤخذ بقيمة هدي.

وقال الشافعي: في الشجرة الكبيرة العظيمة: بقرة. وفيما دونها: شاة. وكذا جاء عن ابن عباس، وابن الزبير، وبه قال أحمد.

ويجوز عند الشافعي، ومن وافقه: رعي البهائم في كلأ الحرم.

وقال أبو حنيفة، وأحمد، ومحمد: لا يجوز.

قال ابن العربي: اتفقوا على تحريم قطع شجر الحرم، إلا أن الشافعي أجاز: قطع السواك من فروع الشجرة. كذا نقله أبو ثور عنه.

وأجاز أيضا: أخذ الورق والثمر، إذا كان لا يضرها ولا يهلكها. وبهذا قال عطاء، ومجاهد، وغيرهما.

وأجاز جمهور الشافعية (إلا المتولي ): قطع الشوك، لكونه يؤذي بطبعه، فأشبه الفواسق الخمس.

ومنعه الجمهور، لنهيه صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وهو الحق.

قال النووي: ويخصون الحديث بالقياس. والصحيح: ما اختاره المتولي. انتهى.

قال الشوكاني (رحمه الله ) في (النيل ): القياس مصادم لهذا النص، فهو فاسد الاعتبار.

[ ص: 12 ] وهو أيضا قياس غير صحيح، لقيام الفارق. فإن الفواسق المذكورة: تقصد بالأذى، بخلاف الشجرة.

قال ابن قدامة: ولا بأس بالانتفاع بما كسر من الأغصان، وانقطع من الشجر، من غير صنيع الآدمي. ولا ما يسقط من الورق. نص عليه أحمد، ولا نعلم فيه خلافا.

(ولا تحل ساقطتها إلا لمنشد ). وفي الرواية الأخرى: (ولا يلتقط لقطتها إلا من عرفها ).

والمنشد، هو المعرف. وأما طالبها، فيقال له: ناشد. وأصل النشد والإنشاد: رفع الصوت.

ومعنى الحديث: لا تحل لقطتها وساقطتها، لمن يريد أن يعرفها سنة، ثم يتملكها، كما في باقي البلاد. بل لا تحل إلا لمن يعرفها أبدا، ولا يتملكها.

وبهذا قال الشافعي، وعبد الرحمن بن مهدي، وأبو عبيد، وغيرهم.

وقال مالك: يجوز تملكها بعد تعريفها سنة، كما في سائر البلاد. وبه قال بعض الشافعية. ويتأولون الحديث تأويلات ضعيفة.

قاله النووي.

[ ص: 13 ] وفي الروضة الندية: ولقطة مكة المكرمة (زادها الله شرفا ): أشد تعريفة من غيرها، لما ثبت في الصحيح: أنها لا تحل إلا لمعرف، مع أن التعريف لا بد منه في لقطة مكة وغيرها، فحمل ذلك على المبالغة في التعريف.

وقد قيل غير ذلك. انتهى.

( ومن قتل له قتيل، فهو بخير النظرين: إما أن يفدى، وإما أن يقتل ) .

معناه: ولي المقتول بالخيار: إن شاء قتل القاتل، وإن شاء أخذ فداءه. وهي الدية.

وهذا تصريح بالحجة: للشافعي وموافقيه: أن الولي له إجبار الجاني، على أي الأمرين شاء.

وبه قال سعيد بن المسيب، وابن سيرين، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور.

وقال مالك: ليس للولي إلا القتل، أو العفو. وليس له الدية، إلا برضا الجاني. وهذا خلاف نص الحديث.

وفيه أيضا: دلالة لمن يقول: القاتل عمدا، يجب عليه أحد الأمرين: القصاص، أو الدية. وهو أحد القولين للشافعي.

[ ص: 14 ] والثاني: أن الواجب القصاص لا غير، وإنما تجب الدية بالاختيار. وتظهر فائدة الخلاف في صور ;

منها: لو عفا الولي عن القصاص، (إن قلنا: الواجب أحد الأمرين ): سقط القصاص، ووجبت الدية. (وإن قلنا: الواجب القصاص بعينه ): لم يجب قصاص، ولا دية.

وهذا الحديث: محمول على القتل عمدا، فإنه لا يجب القصاص في غير العمد. هذا كلام النووي.

(فقال العباس: إلا الإذخر يا رسول الله! فإنا نجعله في قبورنا وبيوتنا ).

وفي رواية أخرى: (فإنه لقينهم وبيوتهم ). والقين بفتح القاف، هو الحداد والصائغ.

والمعنى: يحتاج إليه القين في وقود النار، ويحتاج إليه في القبور، لتسد به فرج اللحد، المتخللة بين اللبنات، ويحتاج إليه في سقوف البيوت، يجعل فوق الخشب.

(فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إلا الإذخر" ) بكسر الهمزة والخاء، وسكون الذال.

[ ص: 15 ] هو نبت معروف، طيب الرائحة، (زاد في الفتح ): عند أهل مكة، له أصل مندفن، وقضبان دقاق، ينبت في السهل والحزن. انتهى.

قال في (النيل ): يجوز في قوله: "إلا الإذخر": الرفع على البدل مما قبله. والنصب على الاستثناء.

قال النووي: هذا محمول على أنه صلى الله عليه وسلم أوحي إليه في الحال: باستثناء الإذخر، وتخصيصه من العموم.

أو أوحي إليه قبل ذلك: أنه إن طلب أحد استثناء شيء، فاستثنه. أو أنه اجتهد في الجميع. انتهى.

وفي (شرح المنتقى ): واستدل به، على جواز الاجتهاد منه صلى الله عليه وسلم.

وعلى جواز الفصل بين المستثنى والمستثنى منه. والكلام في ذلك معروف في الأصول..

واستدل به أيضا على جواز النسخ قبل الفعل. وهذا ليس بواضح، كما قال الحافظ. انتهى.

(فقام أبو شاه ) هو بهاء. وتكون هاء في الوقف والدرج، ولا يقال بالتاء.

قالوا: ولا يعرف اسم أبي شاه. وإنما يعرف بكنيته.

(رجل من أهل اليمن ).

[ ص: 16 ] فيه: أن اليمن، لأهله إلمام بالعلم: قديما وحديثا إلى هذا اليوم.

(فقال: اكتبوا لي يا رسول الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اكتبوا لأبي شاه". )

هذا تصريح، بجواز كتابة العلم غير القرآن.

ومثله: حديث علي (رضي الله عنه ): ما عنده إلا ما في هذه الصحيفة.

ومثله: حديث أبي هريرة: (كان عبد الله بن عمر يكتب ولا أكتب ).

وجاءت أحاديث، بالنهي عن كتابة غير القرآن. فمن السلف من منع كتابة العلم. وقال جمهور السلف بجوازه.

ثم أجمعت الأمة بعدهم على استحبابه، وأجابوا عن أحاديث النهي بجوابين ;

أحدهما: أنها منسوخة. وكان النهي في أول الأمر، قبل اشتهار القرآن لكل أحد، فنهي عن كتابة غيره: خوفا من اختلاطه واشتباهه. فلما اشتهر وأمنت تلك المفسدة: أذن فيه.

والثاني: أن النهي، نهي تنزيه، لمن وثق بحفظه، وخيف اتكاله على الكتابة. والإذن لمن لم يوثق بحفظه.

هذا كلام النووي. والظاهر: هو الأول. لأن هذا آخر الأمرين.

[ ص: 17 ] (قال الوليد: فقلت للأوزاعي: ما قوله: اكتبوا لي يا رسول الله ؟ قال: هذه الخطبة التي سمعها من رسول الله صلى الله عليه وسلم ).

وفيه: جواز خطاب الواحد: بصيغة الجمع تعظيما له.

والحرص على طلب العلم.

التالي السابق


الخدمات العلمية