السراج الوهاج من كشف مطالب صحيح مسلم بن الحجاج

صديق خان - محمد صديق حسن خان القنوجي الظاهري

صفحة جزء
2475 باب: لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد

وقال النووي: (باب فضل المساجد الثلاثة ).

حديث الباب

وهو بصحيح مسلم \ النووي ص167- 168 ج9 المطبعة المصرية

[(عن أبي هريرة ) رضي الله عنه ; ( يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، ومسجد الحرام، ومسجد الأقصى" ).

وفي رواية: "تشد الرحال".

وفي أخرى: "إنما يسافر إلى ثلاثة مساجد: مسجد الكعبة، ومسجدي، ومسجد إيلياء" .

وفي رواية، في باب سفر المرأة مع محرم إلى حج وغيره، بلفظ: [ ص: 85 ] "لا تشدوا الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى" ]


(الشرح)

قال النووي: هكذا وقع في صحيح مسلم هنا، بإضافة الموصوف إلى صفته.

قال: وقد أجازه النحويون. وتأوله البصريون: على أن فيه محذوفا تقديره: مسجد المكان الحرام، والمكان الأقصى.

ومنه قوله تعالى: وما كنت بجانب الغربي أي: المكان الغربي. ونظائره.

قال: وأما إيلياء: فهو بيت المقدس. وفيه ثلاث لغات ;

أفصحهن وأشهرهن، هذه الواقعة هنا: "إيلياء" بكسر الهمزة واللام، وبالمد.

والثانية كذلك. إلا أنه مقصور.

والثالثة: "إلياء"، بحذف الياء وبالمد.

وسمي الأقصى ; لبعده من المسجد الحرام.

[ ص: 86 ] قال: وفي هذا الحديث: فضيلة هذه المساجد الثلاثة، وفضيلة شد الرحال إليها.

لأن معناه عند جمهور العلماء: لا فضيلة في شد الرحال إلى مسجد غيرها.

قال: وقال الشيخ أبو محمد الجويني "من أصحابنا": يحرم شد الرحال إلى غيره. وهو غلط..

قال: وقد سبق بيان هذا الحديث وشرحه، قبل هذا بقليل، في (باب سفر المرأة ). انتهى.

والذي سبق هناك، هو قوله: فيه بيان عظيم فضيلة هذه المساجد الثلاثة، ومزيتها على غيرها، لكونها مساجد الأنبياء "صلوات الله وسلامه عليهم"، ولفضل الصلاة فيها.

ولو نذر الذهاب إلى المسجد الحرام: لزمه قصده لحج أو عمرة.

ولو نذره إلى المسجدين الآخرين: فقولان للشافعي ;

أصحهما عند أصحابه: يستحب قصدهما ولا يجب.

والثاني: يجب. وبه قال كثيرون من العلماء.

[ ص: 87 ] وأما باقي المساجد سوى الثلاثة ; فلا يجب قصدها بالنذر، ولا ينعقد نذر قصدها.

هذا مذهبنا، ومذهب العلماء كافة، إلا محمد بن مسلمة المالكي فقال: إذا نذر قصد "مسجد قباء": لزمه قصده، لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يأتيه كل سبت، راكبا وماشيا.

وقال الليث بن سعد: يلزمه قصد ذلك المسجد، أي مسجد كان.

وعلى مذهب الجماهير ; لا ينعقد نذره، ولا يلزمه شيء. وقال أحمد: يلزمه كفارة يمين.

قال: واختلف العلماء في شد الرحال، وأعمال المطي، إلى غير المساجد الثلاثة ; كالذهاب إلى قبور الصالحين، وإلى المواضع الفاضلة، ونحو ذلك.

فقال الشيخ أبو محمد الجويني "من أصحابنا": هو حرام. وهو الذي أشار القاضي عياض إلى اختياره.

والصحيح عند أصحابنا، "وهو الذي اختاره إمام الحرمين والمحققون": أنه لا يحرم ولا يكره.

قالوا: والمراد: بأن الفضيلة التامة، إنما هي في شد الرحال إلى هذه الثلاثة خاصة.

[ ص: 88 ] هذا كلام النووي. والذي نسب اختياره في هذه المسألة إلى المحققين، هو غير مختار عند العارفين بكيفية الاستدلال، لأنه لم يرد دليل يدل على السفر إلى قبور الصلحاء. ولم يفعله أحد من سلف هذه الأمة وأئمتها.

وقد طال النزاع في البحث عن هذه المسألة، إلى ما لا طائل تحته. ووقعت الزلازل والقلاقل العظيمة الكثيرة لأجلها، بين المتقدمين والمتأخرين: وهي معروفة مشهورة.

قال الحافظ في فتح الباري، "في شرح هذا الحديث": قوله: "لا تشد الرحال، بضم أوله بلفظ النفي.

والمراد: النهي عن السفر إلى غيرها. قال الطيبي: هو أبلغ من صريح النهي. كأنه قال: لا يستقيم أن يقصد بالزيارة، إلا هذه البقاع، لاختصاصها بما اختصت به.

"والرحال" بالمهملة: جمع "رحل"، وهو للبعير، كالسرج للفرس.

وكنى "بشد الرحال" عن السفر، لأنه لازمه.

وخرج ذكرها مخرج الغالب في ركوب المسافر. وإلا فلا فرق بين: ركوب الرواحل، والخيل، والبغال، والحمير، والمشي، في المعنى المذكور.

[ ص: 89 ] ويدل عليه قوله في بعض طرقه: "إنما يسافر". أخرجه مسلم.

وقوله: "إلا" استثناء مفرغ، والتقدير: لا تشد الرحال إلى موضع. ولازمه: منع السفر إلى كل موضع غيرها ; لأن المستثنى منه في المفرغ، يقدر بأعم العام. لكن يمكن أن يكون المراد بالعموم هنا: الموضع المخصوص وهو المسجد. كما سيأتي.

قوله: (المسجد الحرام )، أي: المحرم. وهو كقولهم: (الكتاب ) بمعنى: المكتوب.

"والمسجد" بالخفض على البدلية، ويجوز الرفع على الاستئناف. المراد به: جميع الحرم.

وقيل: يختص بالموضع الذي يصلى فيه، دون البيوت وغيرها، من أجزاء الحرم.

قال الطبري: ويتأيد بقوله: "مسجدي هذا"، لأن الإشارة فيه إلى مسجد الجماعة، فينبغي: أن يكون باقي المستثنى كذلك.

وقيل: المراد به: "الكعبة". حكاه المحب الطبري. وذكر أنه يتأيد ما رواه النسائي بلفظ: "إلا الكعبة". وفيه نظر، لأن الذي عند النسائي: "إلا مسجد الكعبة". حتى لو سقطت لفظة: "مسجد"، لكانت مرادة.

[ ص: 90 ] ويؤيد الأول: ما رواه الطيالسي من طريق عطاء: أنه قيل له: هذا الفضل، في المسجد وحده أو في الحرم ؟ قال: بل في الحرم، لأنه كله مسجد.

قوله: (ومسجد الرسول ). أي: في بعض "الطرق". أي: محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

وفي العدول عن "مسجدي": إشارة إلى التعظيم.

ويحتمل: أن يكون ذلك من تصرف الرواة، ويؤيده قوله، في حديث أبي سعيد: "ومسجدي".

قوله: (ومسجد الأقصى ). أي: بيت المدس. وهو من إضافة الموصوف إلى الصفة. وقد جوزه الكوفيون، واستشهدوا له بقوله تعالى: وما كنت بجانب الغربي .

والبصريون يؤولونه: بإضمار المكان. أي: "بجانب المكان الغربي" )، "ومسجد المكان الأقصى" ونحو ذلك.

[ ص: 91 ] وسمي "الأقصى": لبعده عن المسجد الحرام، في المسافة. وقيل: في الزمان، وفيه نظر. لأنه ثبت في الصحيح: أن بينهما أربعين سنة.

وقال الزمخشري: سمي "الأقصى": لأنه لم يكن حينئذ وراءه مسجد. وقيل: لبعده عن الأقذار والخبث.

وقيل: هو أقصى بالنسبة إلى مسجد المدينة، لأنه بعيد من مكة، وبيت المقدس أبعد منه.

قال: ولبيت المقدس عدة أسماء، تقرب من العشرين.

قال: وقد تتبع أكثر هذه الأسماء: الحسين بن خالويه اللغوي، في كتاب "ليس".

قال: وفي هذا الحديث ; فضيلة هذه المساجد، ومزيتها على غيرها. لأن الأول: قبلة الناس، وإليه حجهم.

والثاني: كان قبلة الأمم السالفة.

والثالث: أسس على التقوى.


قال: واختلف في شد الرحال إلى غيرها ; كالذهاب إلى زيارة الصالحين أحياء وأمواتا، وإلى المواضع الفاضلة، لقصد التبرك بها والصلاة فيها ; [ ص: 92 ] فقال الشيخ أبو محمد الجويني: يحرم شد الرحال إلى غيرها، عملا بظاهر هذا الحديث. وأشار القاضي حسين إلى اختياره. وبه قال عياض وطائفة.

ويدل عليه: ما رواه أصحاب السنن، من إنكار نضرة الغفاري على أبي هريرة: خروجه إلى الطور، وقال: لو أدركتك قبل أن تخرج ما خرجت.

واستدل بهذا الحديث. فدل على أنه يرى حمل الحديث على عمومه. ووافقه أبو هريرة.

والصحيح عند إمام الحرمين، وغيره من الشافعية: أنه لا يحرم. وأجابوا عن الحديث بأجوبة ;

منها: أن المراد: أن الفضيلة التامة، إنما هي في شد الرحال إلى هذه المساجد، بخلاف غيرها فإنه جائز.

وقد وقع في رواية لأحمد بلفظ: "لا ينبغي للمطي أن تعمل". وهو لفظ ظاهر في غير التحريم.

ومنها: أن النهي مخصوص بمن نذر على نفسه الصلاة في مسجد، من سائر المساجد غير الثلاثة، فإنه لا يجب الوفاء به. قاله ابن بطال.

[ ص: 93 ] وقال الخطابي: اللفظ: لفظ الخبر، ومعناه: الإيجاب، فيما ينذره الإنسان من الصلاة، في البقاع التي يتبرك بها.

أي لا يلزم الوفاء بشيء من ذلك غير هذه المساجد الثلاثة.

ومنها: أن المراد: حكم المساجد فقط. وأنه لا تشد الرحال إلى مسجد من المساجد للصلاة فيه، غير هذه الثلاثة.

وأما قصد غير المساجد، لزيارة صالح، أو قريب، أو صاحب، أو طلب علم، أو تجارة، أو نزهة: فلا يدخل في النهي.

ويؤيده: ما روى أحمد، عن شهر بن حوشب. (قال: سمعت أبا سعيد - وذكرت عنده الصلاة في الطور - فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا ينبغي للمصلي، أن يشد رحاله إلى مسجد تبتغى فيه الصلاة، غير المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي" ).

وشهر حسن الحديث. وإن كان فيه بعض الضعف.

ومنها: أن المراد: قصدها بالاعتكاف فيها. حكاه الخطابي عن بعض السلف أنه قال: لا يعتكف في غيرها. وهو أخص من الذي قبله، ولم أر عليه دليلا.

واستدل به على أن من نذر إتيان أحد هذه المساجد، لزمه ذلك.

[ ص: 94 ] وبه قال مالك، وأحمد، والشافعي، والبويطي. واختاره أبو إسحاق المروزي.

وقال أبو حنيفة: لا يجب مطلقا.

وقال الشافعي "في الأم": يجب في المسجد الحرام، لتعلق النسك به، بخلاف المسجدين الآخرين. وهذا هو المنصور لأصحاب الشافعي.

وقال ابن المنذر: يجب إلى الحرمين. وأما "الأقصى" فلا. واستأنس بحديث جابر، (أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إني نذرت - إن فتح الله عليك مكة - أن أصلي في بيت المقدس. قال: "صل ههنا" ).

وقال ابن التين: الحجة على الشافعي، أن إعمال المطي إلى مسجد المدينة والمسجد الأقصى، والصلاة فيهما: قربة. فوجب أن يلزم بالنذر، كالمسجد الحرام. انتهى.

قال: وفيما يلزم من نذر إتيان مسجد، من هذه المساجد: تفصيل، وخلاف يطول ذكره. ومحله كتب الفروع.

قال الكرماني: وقع في هذه المسألة في عصرنا، في البلاد الشامية: مناظرات كثيرة، وصنفت فيها رسائل من الطرفين. [ ص: 95 ] قلت: يشير إلى ما رد به الشيخ تقي الدين السبكي وغيره، على الشيخ تقي الدين ابن تيمية. وما انتصر به الحافظ شمس الدين بن عبد الهادي وغيره، لابن تيمية. وهي مشهورة في بلادنا.

والحاصل: أنهم ألزموا ابن تيمية، بتحريم شد الرحل إلى زيارة قبر سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وأنكر ناصروه ذلك.

وفي شرح ذلك من الطرفين طول، وهي من أشنع المسائل المنقولة عن ابن تيمية.

ومن جملة ما استدل به على دفع ما ادعاه غيره، من الإجماع على مشروعية زيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ما نقل عن مالك ; أنه كره أن يقول: زرت قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

وقد أجاب عنه المحققون من أصحابه: بأنه كره اللفظ أدبا، لا أصل الزيارة، فإنها من أفضل الأعمال، وأجل القرب الموصلة إلى ذي الجلال. وإن مشروعيتها محل إجماع بلا نزاع، والله الهادي إلى الصواب.

[ ص: 96 ] قال بعض المحققين: قوله: "إلا إلى ثلاثة مساجد". المستثنى منه محذوف.

فإما أن يقدر عاما، فيصير المعنى: لا تشد الرحال إلى مكان في أي أمر كان، إلا إلى هذه الثلاثة. أو أخص من ذلك.

لا سبيل إلى الأول، لإفضائه إلى سد باب السفر للتجارة، وصلة الرحم، وطلب العلم، وغيرها: فتعين الثاني.

والأولى أن يقدر ما هو أكثر مناسبة، وهو: "لا تشد الرحال إلى مسجد للصلاة فيه، إلا إلى الثلاثة"، فيبطل بذلك قول من منع شد الرحال إلى زيارة القبر الشريف، وغيره من قبور الصالحين. والله أعلم.

قال: وقال السبكي الكبير: ليس في الأرض بقعة لها فضل لذاتها، حتى تشد الرحال إليها لذلك الفضل، غير البلاد الثلاثة.

ومرادي بالفضل: ما شهد الشرع باعتباره، ورتب عليه حكما شرعيا.

وأما غيرها من البلاد ; فلا تشد الرحال إليها لذاتها، بل لزيارة أو جهاد. أو علم. أو نحو ذلك من المندوبات، أو المباحات. [ ص: 97 ] قال: وقد التبس ذلك على بعضهم، فزعم: أن شد الرحال إلى الزيارة لمن في غير الثلاثة داخل في المنع. وهو خطأ، لأن الاستثناء إنما يكون من جنس المستثنى منه.

فمعنى الحديث: لا تشد الرحال إلى مسجد من المساجد، أو إلى مكان من الأمكنة - لأجل ذلك المكان - إلا إلى الثلاثة المذكورة.

وشد الرحل إلى زيارة، أو طلب علم، ليس إلى المكان. بل إلى من في ذلك المكان. والله أعلم.

هذا آخر كلام الحافظ "في الفتح". وهو مشتمل على أكثر ما نقلناه عن النووي.

ولكن إنما ذكرنا هذا الكلام، في هذا الموضع بالتمام، ليعلم الناظر فيه: أن ما جاء به الحافظ عن فقهاء المذاهب في معنى حديث الباب، أكثره غير مبني على أساس.

وفيه خلط وخبط أيضا، من جهة الاعتراض على ابن تيمية "رحمه الله"، لأنه لم يقل بمنع الزيارة، وإنما منع من السفر لها. وليس مدار حكمه هذا على هذا الحديث فقط، بل عنده دلائل أخرى، قوية [ ص: 98 ] صحيحة، صريحة في ذلك. راجع إلى كلامه وكلام ناصريه، يتضح عليك الأمر.

وقد وردت أدلة تدل على جواز السفر: للتجارة، والعلم، والجهاد، وصلة الرحم، ونحوها. ولم يرد دليل واحد، يكون له دلالة على مشروعية شد الرحل إلى زيارة القبور.

وكل ما ورد من الأخبار في زيارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فهو في الزيارة، لا في السفر إليها. وأيضا كلها ضعيفة لا تصلح للاحتجاج.

ومن شد رحلا إلى المسجد النبوي الواقع بالمدينة، على صاحبها ألف ألف صلاة وتحية، فقد أمكن له زيارة قبره الشريف من غير سفر، وخرج من مزالق الأفهام وتباين الأقدام في هذا المرام. ومن هنا كتب ابن تيمية "رحمه الله": آداب زيارته صلى الله عليه وآله وسلم "في منسك حجه".

والأجوبة التي ذكرها الحافظ تحت هذا الحديث، في هذا المقام: هي أوهن من بيت العنكبوت، عند من يعرف الدليل، ويعلم بكيفية الاستدلال.

ورد السبكي عليه في هذه المسألة: مردود بأدلة، ذكرها الحافظ شمس الدين في كتابه: "الصارم المنكي، على نحر ابن السبكي".

قيل: رده أيضا بعض الناس، ولكن لم أقف عليه إلى الآن.

[ ص: 99 ] نعم، انتصر لابن تيمية في عصرنا هذا، جماعة من أهل العلم ; منهم: السيد خير الدين نعمان "مفتي بغداد حالا". ولم يقصر في ذلك. بل أجاب عن كل ما رد به السبكي، وابن رجب، وابن حجر المكي. على شيخ الإسلام. وسماه: "جلاء العينين، بمحاكمة الأحمدين". وهذا كتاب مفيد جدا، خال عن تعصب مذهبي، وتكلف مشربي.

وقد راجعت شرح المنتقى، للعلامة الشوكاني، عندما بلغت إلى هذا الموضع، فوجدته في آخر "باب تحلل المحصر عن العمرة". تكلم على هذه المسألة مما نصه:

لم يذكر المصنف "رحمه الله تعالى" في كتابه هذا: زيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكان الموطن الذي يحسن ذكرها فيه: "كتاب الجنائز". ولكنها لما كانت تفعل في سفر الحج في الغالب، ذكرها جماعة من أهل العلم في "كتاب الحج". فأحببنا ذكرها ههنا، تكميلا للفائدة.

وقد اختلفت فيها أقوال أهل العلم ;

فذهب الجمهور: إلى أنها مندوبة.

وذهب بعض المالكية، وبعض الظاهرية: إلى أنها واجبة.

وقالت الحنفية: إنها قريبة من الواجبات.

وذهب ابن تيمية الحنبلي "رحمه الله"، حفيد المصنف "المعروف [ ص: 100 ] بشيخ الإسلام": إلى أنها غير مشروعة. وتبعه على ذلك بعض الحنابلة. وروي ذلك عن مالك، والجويني، والقاضي عياض، كما سيأتي.

احتج القائلون بأنها مندوبة، بقوله تعالى: ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول . الأية.

ووجه الاستدلال بها، أنه صلى الله عليه وآله وسلم حي في قبره بعد موته، كما في حديث: "الأنبياء أحياء في قبورهم". وقد صححه البيهقي، وألف في ذلك جزءا.

قال الأستاذ أبو منصور البغدادي: قال المتكلمون المحققون من أصحابنا: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حي بعد وفاته. انتهى.

ويؤيد ذلك: ما ثبت أن الشهداء أحياء يرزقون في قبورهم، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم منهم.

وإذا ثبت أنه حي في قبره، كان المجئ إليه بعد الموت، كالمجيء إليه قبله.

ولكنه قد ورد: "أن الأنبياء لا يتركون في قبورهم، فوق ثلاث".

[ ص: 101 ] وروي: "فوق أربعين". فإن صح ذلك، قدح في الاستدلال بالآية.

ويعارض القول بدوام حياتهم في قبورهم، ما سيأتي من "أنه صلى الله عليه وآله وسلم: ترد إليه روحه عند التسليم عليه".

نعم، حديث: "من زارني بعد موتي، فكأنما زارني في حياتي"، الذي سيأتي (إن شاء الله تعالى )، إن صح فهو الحجة في المقام.

واستدلوا ثانيا بقوله تعالى: ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله الآية. والهجرة إليه في حياته: الوصول إلى حضرته، كذلك الوصول بعد موته.

ولكنه لا يخفى: أن الوصول إلى حضرته في حياته، فيه فوائد لا توجد في الوصول إلى حضرته بعد موته ;

منها: النظر إلى ذاته الشريفة. وتعلم أحكام الشريعة منه. والجهاد بين يديه. وغير ذلك.

واستدلوا ثالثا، بالأحاديث الواردة في ذلك ;

منها: الأحاديث الواردة في مشروعية زيارة القبور على العموم، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم داخل في ذلك دخولا أوليا. وقد تقدم ذكرها في الجنائز. [ ص: 102 ] وكذلك: الأحاديث الثابتة، من فعله صلى الله عليه وآله وسلم في زيارتها.

ومنها: أحاديث خاصة بزيارة قبره الشريف، أخرج الدارقطني، عن رجل من آل حاطب، عن حاطب ; قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من زارني بعد موتي، فكأنما زارني في حياتي". ).

وفي إسناده الرجل المجهول.

وعن ابن عمر عند الدارقطني أيضا: قال: قال، فذكر نحوه.

ورواه أبو يعلى في "مسنده"، وابن عدي في "كامله"، وفي إسناده: حفص بن أبي داود، وهو ضعيف الحديث. وقال أحمد فيه: إنه صالح.

وعن عائشة (عند الطبراني في الأوسط )، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: مثله. قال الحافظ: وفي طريقه: من لا يعرف.

وعن ابن عباس "عند العقيلي": مثله. وفي إسناده: فضالة بن سعد المازني، وهو ضعيف.

وعن ابن عمر حديث آخر "عند الدارقطني"، بلفظ: "من زار قبري، وجبت له شفاعتي". وفي إسناده: موسى بن هلال العبدي. قال أبو حاتم: مجهول. أي: العدالة.

[ ص: 103 ] ورواه ابن خزيمة في صحيحه، من طريقه، وقال: إن صح الخبر، فإن في القلب من إسناده شيئا.

وأخرجه أيضا البيهقي. وقال العقيلي: لا يصح حديث موسى، ولا يتابع عليه. ولا يصح في هذا الباب شيء. وقال أحمد: لا بأس به. وأيضا قد تابعه عليه: مسلمة بن سالم، كما رواه الطبراني من طريقه.

وموسى بن هلال المذكور، رواه عن عبيد الله بن عمر، عن نافع. وهو ثقة، من رجال الصحيح.

وجزم الضياء المقدسي، والبيهقي، وابن عدي، وابن عساكر: بأن موسى رواه عن عبد الله بن عمر المكبر. وهو ضعيف، ولكنه قد وثقه ابن عدي. وقال ابن معين: لا بأس به. وروى له مسلم مقرونا بآخر.

وقد صحح هذا الحديث ابن السكن، وعبد الحق، وتقي الدين السبكي.

وعن ابن عمر: عند ابن عدي، والدارقطني. وابن حبان: في ترجمة النعمان بلفظ: "من حج ولم يزرني فقد جفاني". وفي إسناده: النعمان بن شبل. وهو ضعيف جدا. ووثقه عمران بن موسى.

وقال الدارقطني: الطعن في هذا الحديث، على ابن النعمان لا عليه.

[ ص: 104 ] ورواه أيضا البزار. وفي إسناده: إبراهيم الغفاري، وهو ضعيف. ورواه البيهقي عن عمر. قال: وإسناده مجهول.

وعن أنس عند ابن أبي الدنيا، بلفظ: "من زارني بالمدينة محتسبا ; كنت له شفيعا وشهيدا يوم القيامة". وفي إسناده: سليمان بن زيد الكعبي، ضعفه ابن حبان. والدارقطني، وذكره ابن حبان في الثقات.

وعن عمر "عند أبي داود الطيالسي" بنحوه. وفي إسناده: مجهول.

وعن عبد الله بن مسعود، عن أبي الفتح الأزدي ; بلفظ: "من حج حجة الإسلام، وزار قبري، وغزا غزوة، وصلى في بيت المقدس: لم يسأله الله فيما افترض عليه.

وعن أبي هريرة، بنحو حديث حاطب المتقدم.

وعن ابن عباس عند العقيلي، بنحوه.

وعنه "في مسند الفردوس" ; بلفظ: "من حج إلى مكة، ثم قصدني في مسجدي )، كتبت له حجتان مبرورتان".

وعن علي بن أبي طالب "عليه السلام"، عند ابن عساكر: "من زار قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كان في جواره". وفي إسناده: عبد الملك بن هارون بن عنبرة. وفيه مقال.

قال الحافظ: وأصح ما ورد في ذلك: ما رواه أحمد، وأبو داود، [ ص: 105 ] عن أبي هريرة مرفوعا ; "ما من أحد يسلم علي، إلا رد الله علي روحي، حتى أرد عليه السلام.

وبهذا الحديث صدر البيهقي الباب. ولكن ليس فيه: ما يدل على اعتبار كون المسلم عليه على قبره، بل ظاهره: أعم من ذلك.

وقال الحافظ أيضا: أكثر متون هذه الأحاديث موضوعة.

وقد رويت زيارته صلى الله عليه وآله وسلم، عن جماعة من الصحابة ; منهم: بلال، عند ابن عساكر، بسند جيد.

وابن عمر عند مالك، في الموطأ.

وأبو أيوب، عند أحمد.

وأنس، ذكره عياض في الشفاء.

وعمر عند البزار.

وعلي "عليه السلام"، عند الدارقطني. وغير هؤلاء.

ولكنه لم ينقل عن أحد منهم: شد الرحل لذلك، إلا عن بلال، لأنه روي عنه: أنه رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو بداريا، يقول له: "ما هذه الجفوة يا بلال ؟ أما آن لك أن تزورني ؟ ". روى ذلك ابن عساكر.

[ ص: 106 ] واستدل القائلون بالوجوب: بحديث: "من حج ولم يزرني، فقد جفاني"، وقد تقدم.

قالوا: والجفاء للنبي صلى الله عليه وآله وسلم محرم، فتجب الزيارة لئلا يقع في المحرم.

وأجاب عن ذلك الجمهور: بأن الجفاء يقال على ترك المندوب. كما في ترك البر والصلة. وعلى غلظ الطبع. كما في حديث: "من بدا، فقد جفا".

وأيضا ; الحديث على انفراده، مما لا تقوم به الحجة لما سلف. واحتج من قال بأنها غير مشروعة: بحديث: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد". وهو في الصحيح. وحديث: "لا تتخذوا قبري عيدا". رواه عبد الرزاق.

قال: وقد أجاب الجمهور عن حديث "شد الرحل": بأن القصر فيه إضافي باعتبار المساجد، لا حقيقي. قالوا: والدليل على ذلك، أنه قد ثبت بإسناد حسن، في بعض ألفاظ الحديث: "لا ينبغي للمطي، أن يشد رحالها إلى مسجد تبتغى فيه الصلاة، غير مسجدي هذا، [ ص: 107 ] والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى"، فالزيارة وغيرها، خارجة عن النهي.

وأجابوا ثانيا: بالإجماع على جواز شد الرحال للتجارة، وسائر مطالب الدنيا. وعلى وجوبه إلى عرفة للوقوف. وإلى منى للمناسك التي فيها. وإلى المزدلفة. وإلى الجهاد. والهجرة من دار الكفر. وعلى استحبابه لطلب العلم.

وأجابوا عن حديث: "لا تتخذوا قبري عيدا"، بأنه يدل على الحث على كثرة الزيارة، لا على منعها. وأنه لا يهمل حتى لا يزار، إلا في بعض الأوقات كالعيدين.

كذا قال الحافظ المنذري.

وقال السبكي: معناه: أنه لا تتخذوا لها وقتا مخصوصا، لا تكون الزيارة إلا فيه. أو لا تتخذوه كالعيد، في العكوف عليه وإظهار الزينة، والاجتماع للهو وغيره، كما يفعل في الأعياد. بل لا يؤتى إلا للزيارة، والدعاء، والسلام، والصلاة، ثم ينصرف عنه.

وأجيب عما روي عن مالك، من القول بكراهة زيارة قبره صلى الله عليه وآله وسلم: بأنه قال ذلك، قطعا للذريعة.

[ ص: 108 ] وقيل: إنما كره إطلاق لفظ "الزيارة"، لأن الزيارة: من شاء فعلها، ومن شاء تركها. وزيارة قبره صلى الله عليه وآله وسلم من السنن الواجبة.

كذا قال عبد الحق.

واحتج أيضا من قال بالمشروعية، بأنه لم يزل دأب المسلمين القاصدين للحج في جميع الأزمان، على تباين الديار، واختلاف المذاهب: الوصول إلى المدينة المشرفة ; لقصد زيارته صلى الله عليه وآله وسلم. ويعدون ذلك من أفضل الأعمال. ولم ينقل أن أحدا أنكر ذلك عليهم، فكان إجماعا.

هذا آخر كلام الشوكاني "رحمه الله"، في "نيل الأوطار"، في الجزء الرابع منه.

وقال في (باب أن من نذر الصلاة في المسجد الأقصى، أجزأه أن يصلي في مسجد مكة والمدينة )، في الجزء الثامن منه، تحت حديث: "لا تشد الرحال"، من رواية أبي هريرة "وهو متفق عليه": وقد تمسك بهذا الحديث: من منع السفر وشد الرحل إلى غيرها، من غير [ ص: 109 ] فرق بين جميع البقاع. وقد وقع لحفيد المصنف في ذلك وقائع، بينه وبين أهل عصره، لا يتسع المقام لبسطها. انتهى.

وأقول: حاصل هذه العبارات، التي نقلتها عن الأئمة الثلاثة الحفاظ: النووي، وابن حجر، والشوكاني، في هذه المسألة، على ما فيه من التكرار، لأدلة تدل على أن السفر للزيارة، وزيارة قبره صلى الله عليه وآله وسلم: سنة واجبة باتفاق المسلمين على ذلك، بأدلة تقدم ذكرها.

ولكن الذي يظهر من إمعان النظر في كلام هؤلاء الأئمة، أنهم لم يفرقوا بين السفر للزيارة وبين الزيارة نفسها، مع أنهما شيئان. وإنما أنكر شيخ الإسلام ابن تيمية: الأول دون الثاني.

وكل ما استدل به الموجبون لهذا السفر: من الأخبار المذكورة وغيرها، ومن الآيات المسطورة وغيرها، هو بمعزل عن محل الاحتجاج. لأن القرآن الكريم لم ينزل في هذا الباب. والأخبار لم تثبت بطريق صحيح. فلم يبق بأيديهم إلا فعل بعض الصحابة، ورؤيا بلال "رضي الله عنهم". وهو ليس من الحجج الشرعية، لا في صدر ولا في [ ص: 110 ] ورد، إلا ما حكوه من إجماع المسلمين. وهذا الإجماع محجوج: بخلاف جمع من أكابر السلف والخلف.

وقد أبدى ذلك: الحافظ شمس الدين في كتابه: "الصارم المنكي".

ولا شك ; أن الأمر بزيارة القبور وارد في الأحاديث الصحيحة، التي لا مندوحة عن القول بها، وهو عام شامل لقبور الصلحاء والأنبياء وغيرهم. وقد كانت الزيارة هذه منهيا عنها في صدر الإسلام، ثم رخص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيها، كما في حديث بريدة: "قد كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فقد أذن لمحمد في زيارة قبر أمه، فزوروها، فإنها تذكر الآخرة". رواه الترمذي وصححه. وأخرجه أيضا مسلم، وأبو داود، وابن حبان، والحاكم.

وفي حديث ابن مسعود يرفعه ; (قال: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها، فإنها تزهد في الدنيا، وتذكر الآخرة". ). رواه ابن ماجة.

وفي حديث أبي هريرة: "فزوروا القبور، فإنها تذكر الموت". رواه الجماعة، والحاكم. قال في النيل: ولم أجده في البخاري.

وفي حديث عائشة ; (قالت: نعم، كان نهي عن زيارة القبور، ثم أمر بزيارتها". رواه الأثرم في "سننه"، والحاكم، وابن ماجه، [ ص: 111 ] مختصرا: "أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، رخص في زيارة القبور".

وهذه الأحاديث ; فيها مشروعية زيارة القبور، واستحبابها، ونسخ النهي عن الزيارة.

وقد حكوا: اتفاق أهل العلم، على أنها للرجال جائزة.

وذهب ابن حزم إلى أنها واجبة، ولو مرة واحدة في العمر، لورود الأمر بها.

وهذا يتنزل على الخلاف في الأمر بعد النهي: هل يفيد الوجوب ؟ أو مجرد الإباحة فقط ؟

والكلام في ذلك مستوفى في الأصول. ولكن ليس في تلك الأحاديث، ما يرشد إلى اختيار السفر البعيد، والرحلة البائنة لها. بل دلالتها على إيقاعها لمن كانت هذه القبور في بلده: أوضح.

وظاهر قوله صلى الله عليه وآله وسلم "فزوروها": الوجوب. لأن الأمر حقيقة للإيجاب. ولذلك ذهب الظاهرية إلى وجوبها.

ومن نظر إلى الرخصة فيها بعد النهي عنها، قال: إنها مندوبة. وهم الجمهور.

[ ص: 112 ] وجمع الحنفية بين المذهبين، وقالوا: إنها قريبة من الواجبات.

وهذا الاختلاف يرجع إلى حكم الزيارة نفسها، أي زيارة كانت لأي قبر، من غير تخصيص لقبره الشريف صلى الله عليه وآله وسلم.

وقبره صلى الله عليه وآله وسلم داخل فيه دخولا أوليا، لأنه أفضل القبور بأجمعها، بأبي هو وأمي! صلى الله عليه وآله وسلم.

ومن هنا جرى هذا الخلاف في زيارته، عليه الصلاة والسلام ; فهي مندوبة، على مذهب الجمهور.

وواجبة، على مذهب الظاهرية.

وقريبة من الواجبات عند الحنفية.

كما هو جار في عامة الزيارات. ولا بد من هذا. ولا وجه لإنكار ذلك. لكن الكلام في أنه: ليس في الأحاديث الواردة في الأمر بالزيارة، ذكر السفر ولا الحث عليه.

فعلى قائل هذا: أن يأتينا بدليل مستقل، سوى دليل استحباب الزيارة، حتى يصح القول بجواز السفر إليها للزيارة. ولا دليل.

بل الدليل على خلافه. وهو حديث: "لا تتخذوا قبري عيدا".

[ ص: 113 ] وفي رواية أخرى: "اللهم! لا تجعل قبري وثنا يعبد. اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد". رواه مالك مرسلا. وهو حديث صحيح، يفيد النهي عن الاجتماع على القبر الشريف. ونبه به على المنع من ذلك، مع قبر غيره "صلى الله عليه وآله وسلم".

فإذا كان لا يجوز هذا الاجتماع على قبر، هو أفضل قبور العالم، فكيف به على سائر قبور الصلحاء ؟

وما أولوا به هذا الحديث، ليس على ما ينبغي. بل فيه تحريف لكلام النبوة، وصرف له عن معناه الظاهر الواضح.

يظهر لك هذا، إذا رجعت إلى الحديث المذكور وطرقه، وجمعت ألفاظه، وعرفت المقصود من مبانيه.

وأما السفر لغير زيارة القبور كما تقدم نظائره، فقد ثبت ذلك بأدلة صحيحة، ووقع في عصره صلى الله عليه وآله وسلم، وقرره النبي "عليه السلام"، فلا سبيل إلى المنع منه والنهي عنه. بخلاف السفر إلى زيارة القبور، فإنه لم يقع في زمنه صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يقر عليه أحدا من أصحابه، ولم يشر في حديث واحد إلى فعله واختياره، ولم يشرعه لأحد من أمته: لا قولا ولا فعلا.

[ ص: 114 ] وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، يزور أهل البقيع وغيرهم، من غير سفر ورحلة إلى قبورهم ;

فسنته التي لا غبار عليها، ولا شنار فيها: هي زيارة القبور، من دون اختيار سفر لها، لتذكر الآخرة.

وهي رخصة مشروعة. بل مندوبة مستحبة. بل سنة واجبة. إلى يوم القيامة، لمن يحب الدار الآخرة، ويتمسك بالسنة المطهرة. لكن ; لا بإيثار السفر، واختيار الرحلة إلى الشقة البعيدة.

وقد أفضى هذا السفر بأهله، إلى إحداث أفعال شركية وبدعية، لأصحاب القبور: من المسلمين والمؤمنين، حتى لم ينج منه قبر سيد المرسلين "صلى الله عليه وآله وسلم" أيضا، فضلا عن غيره. فإنا قد رأينا بأعيننا هذه، في المدينة المنورة، "على صاحبها ألف ألف صلاة وتحية": أن أهل المسجد النبوي، إذا فرغوا من صلاة الفرض وسلم الإمام عنها، قاموا كلهم متوجهين إلى المرقد الشريف، ركعا، أو خروا سجدا، إلا من عصمه الله "تعالى" ورحمه.

وأين هذا من الزيارة المشروعة ؟

قل يا هذا! إن كان بقيت فيك بقية من الحياء والإنصاف، أهذه [ ص: 115 ] هي الزيارة التي أمر بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه المؤمنين بفعلها، وأرشد الأمة الأمية إلى اعتمالها ؟ أم هي شرك جلي بالله "تعالى"، وعصيان واضح لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم ؟

وهل فاعله مسلم ؟ أم خارج من طريقة السنة المأثورة ؟ وقد قال رسول الله "صلى الله عليه وآله وسلم"، فيما صح عنه في الصحيح وغيره، عن عائشة في مرضه الذي لم يقم منه: "لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد". متفق عليه.

وتقدم حديث: "اشتد غضب الله على قوم، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد".

وفي رواية جندب قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ألا وإن من كان قبلكم، كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد. ألا فلا تتخذوا القبور مساجد. إني أنهاكم عن ذلك" ). رواه مسلم.

ولا أعلم ابن تيمية ولا غيره من أهل العلم، سلفا وخلفا: منع من زيارة القبور. وإنما منع من منع منهم: السفر لها، ويكفيه هذا المنع.

والدليل ; على من يوجب السفر للزيارة.

[ ص: 116 ] وحاصل الكلام، وجملة المرام، في هذا المقام: أن مسألة السفر لزيارة قبر من القبور، "أي قبر كان"، أقل درجاتها: أن تكون من المشتبهات. والمؤمنون وقافون عند الشبهات. لكن من شد الرحل، وأعمل المطي إلى مسجد المدينة، ونزل بها: فقد سن له، أو وجب: أن يزور قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولا يترك هذه الفضيلة. وبهذا يخرج من مزالق أفهام العلماء، وسباب الفقهاء، واعتراض السفهاء. ويحصل بذلك نوع من الجمع، بين مختلف الروايات.

ومن قال: إن زيارة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد وفاته الشريف، "في بلده المنيف"، لساكنيه أو وارديه ونازليه: يكره أو يحرم، فقد بغى وطغى، وأساء.

والكلام على هذه المسألة يطول جدا. وليس هذا موضعه. وإني "والله يعلم"، لم أقل هذا نصرة لابن تيمية، وخذلا لمخالفيه، بل حررت ما حررت، في هذا الموضع وفي غيره من مؤلفاتي: ما أدى إليه نظري عند الخوض في طرق الحديث، ومبانيه ومعانيه، وظني أن شيخ الإسلام ابن تيمية الإمام: إن ثبت عنه المنع من السفر لزيارة النبي عليه الصلاة والسلام، فإنما منع من ذلك سدا للذريعة. وإذا تعارضت مفسدة ومصلحة، فالحكم: دفع تلك المفسدة، وتقديمه على جلب المصلحة. ولذلك نظائر كثيرة ;

منها: قطع شجرة "بيعة الرضوان". وكان بأمر الفاروق "رضي الله [ ص: 117 ] عنه"، ونحوه. ومن يرد الله به خيرا يفقهه في الدين. "ومن أوتي الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرة".

وعلماء هذه الأمة، ليسوا على حد سواء: في العقل، والدين، والفهم، والتقوى. بل الله "سبحانه وتعالى" يمن على من يشاء من عباده، ويختص من يشاء برحمته. والله أعلم.

فائدة

هذا آخر كتاب الحج. وذكر النووي في آخره: بابا في فضل الصلاة بمسجدي مكة والمدينة، وبابا في بيان أن المسجد الذي أسس على التقوى هو مسجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالمدينة، وبابا في فضل مسجد قباء وفضل الصلاة فيه وزيارته.

وليست هذه الأبواب الثلاثة، في تلخيص المنذري "رحمه الله" ولا يدرى وجه ذلك.

فرأيت أن ألحق في هذا الموضع: أحاديث وردت في ذلك، تتميما للمرام، ومسكا للختام ; فأقول:

التالي السابق


الخدمات العلمية