السراج الوهاج من كشف مطالب صحيح مسلم بن الحجاج

صديق خان - محمد صديق حسن خان القنوجي الظاهري

صفحة جزء
2763 باب : الولاء لمن أعتق

وقال النووي : (باب بيان ، أن الولاء لمن أعتق) .

حديث الباب

وهو بصحيح مسلم النووي ص 146 - 145 ج 10 المطبعة المصرية

[عن عائشة ، قالت: دخلت علي بريرة فقالت: إن أهلي كاتبوني على تسع أواق، في تسع سنين، في كل سنة أوقية. فأعينيني. فقلت لها: إن شاء أهلك: أن أعدها لهم عدة واحدة، وأعتقك، ويكون الولاء لي، فعلت . فذكرت ذلك لأهلها، فأبوا إلا أن يكون الولاء لهم. فأتتني فذكرت ذلك. قالت: فانتهرتها. فقالت: لا ها الله [ ص: 535 ] إذا. قالت: فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألني فأخبرته، فقال: "اشتريها وأعتقيها. واشترطي لهم الولاء. فإن الولاء لمن أعتق"، ففعلت. قالت: ثم خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم عشية . فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله. ثم قال: " أما بعد! فما بال أقوام يشترطون شروطا، ليست في كتاب الله؟ ما كان من شرط، ليس في كتاب الله عز وجل، فهو باطل، وإن كان مائة. شرط كتاب الله أحق. وشرط الله أوثق. ما بال رجال منكم، يقول أحدهم: أعتق فلانا، والولاء لي؟ إنما الولاء لمن أعتق"].


(الشرح)

(عن عائشة "رضي الله عنها" ، ، قالت : دخل علي بريرة ) بفتح الباء . على زنة " فعيلة ". مشتقة من : " البرير " ، وهو ثمر الأراك .

وقيل : من " البر" ، بمعنى : مبرورة . أو بمعنى بارة .

وكانت لناس من الأنصار ، كما وقع عند أبي نعيم .

وقيل : لناس من بني هلال . قاله ابن عبد البر .

قال النووي : اسم زوج بريرة : " مغيث " ، بضم الميم . والله أعلم .

(فقالت : إن أهلي كاتبوني على تسع أواق ، في تسع سنين ، في كل [ ص: 536 ] سنة : وقية) . بغير ألف . وكلاهما صحيح . وهما لغتان ، وإثبات الألف أفصح .

والوقية الحجازية : أربعون درهما .

(فأعينيني . فقلت لها : إن شاء أهلك : أن أعدهم عدة واحدة ، وأعتقك ، ويكون الولاء لي : فعلت . فذكرت ذلك لأهلها ، فأبوا إلا أن يكون الولاء لهم . فأتتني فذكرت ذلك . قالت : فانتهرتها . فقالت : لا ها الله إذا) .

وفي بعض النسخ : "لا هاء الله إذا".

قال المازري وغيره ، من أهل العربية : هذان لحنان . وصوابه : "لا ها الله ذا " بالقصر في "هاء". وحذف الألف من " إذا " . قالوا : وما سواه : خطأ . ومعناه : "ذا يميني " . وكذا قال الخطابي وغيره : إن الصواب : "ذا " بحذف الألف .

وقال أبو زيد النحوي وغيره : يجوز القصر والمد في " ها".

وكلهم : ينكرون الألف في : " إذا " ، ويقولون : صوابه : "ذا " . قالوا :

وليست الألف من كلام العرب .

قال أبو حاتم السجستاني : جاء في القسم : "لا ها الله " . قال : والعرب تقوله بالهمزة . والقياس : "تركه" . [ ص: 537 ] قال : ومعناه : " لا والله ! هذا ما أقسم به " فأدخل "اسم الله تعالى":بين ها وذا .

(قالت : فسمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فسألني فأخبرته . فقال : " اشتريها وأعتقيها . واشترطي لهم الولاء ، فإن الولاء لمن أعتق " ففعلت . قالت: ثم خطب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عشية . فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله . ثم قال : " أما بعد : فما بال أقوام يشترطون شروطا ، ليست في كتاب الله عز وجل؟ ما كان من شرط ليس في كتاب الله عز وجل ، فهو باطل ، وإن كان مائة شرط . كتاب الله أحق . وشرط الله أوثق ".) .

قيل : المراد به ، قوله تعالى : ( فإخوانكم في الدين ومواليكم) . .

وقوله تعالى : ( وما آتاكم الرسول فخذوه) .

قال عياض : وعندي ، أنه قوله صلى الله عليه وآله وسلم : " إنما الولاء لمن أعتق ".

(ما بال رجال منكم ، يقول أحدهم : أعتق فلانا والولاء لي ؟ إنما الولاء لمن أعتق) .

استدل صاحب "المنتقى" ، بهذا الحديث : على جواز البيع ، بشرط العتق .

[ ص: 538 ] قال النووي : قال العلماء : الشرط في البيع ونحوه ، أقسام ; أحدها : شرط يقتضيه إطلاق العقد . كشرط تسليمه .

الثاني : شرط فيه مصلحة. كالرهن .

وهما جائزان اتفاقا .

الثالث : اشتراط "العتق " في العبد. وهو جائز عند الجمهور ، لهذا الحديث .

الرابع : ما يزيد على مقتضى العقد، ولا مصلحة فيه للمشتري .

كاستثناء منفعته . فهو باطل .

قال : وهذا حديث عظيم ، كثير الأحكام والقواعد . وفيه : مواضع تشعبت فيها المذاهب ;

أحدها : أنها كانت " مكاتبة " . وأقر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بيعها . فيجوز بيع " المكاتب " . وبه قال أحمد ، ومالك ، وأبو حنيفة ، والشافعي .

[ ص: 539 ] الثاني : اشترتها ، وشرطت لهم " الولاء ". وهذا الشرط يفسد البيع . وكيف أذن لعائشة في هذا ؟ ولهذا الإشكال : أنكر بعض العلماء : هذا الحديث بجملته . وهذا منقول عن يحيى بن أكثم .

وقال الجماهير : هذه اللفظة صحيحة . ومعنى : " اشترطي لهم " . أي : عليهم . كما في قوله تعالى : ( لهم اللعنة ) . ( وإن أسأتم فلها ) . وهذا منقول عن الشافعي وغيره . قال : وهو ضعيف . لأنه صلى الله عليه وآله وسلم : أنكر عليهم . ولو كان كما قال : لم ينكر .

وأجيب : إنما أنكر ما أرادوا اشتراطه ، في أول الأمر .

وقيل : معناه : أظهري لهم : حكم الولاء.

وقيل : المراد : الزجر والتوبيخ لهم . أي : لا تبالي ، فإنه شرط باطل مردود . فعلى هذا ، لا يكون الأمر للإباحة .

قال : والأصح في التأويل : أن هذا الشرط خاص في قصة عائشة .

وهي قضية عين لا عموم لها ، ثم ذكر الحكمة في إذنه ثم إبطاله .

الثالث : أجمع المسلمون ، على ثبوت الولاء لمن أعتق : عبده أو أمته [ ص: 540 ] عن نفسه ، وأنه يرث به . وأما العتيق فلا يرث سيده عند الجماهير .

وقال جماعة من التابعين : يرثه ، كعكسه .

قال : وفي هذا الحديث : دليل على أنه لا ولاء لمن أسلم على يديه .

ولا لملتقط اللقيط . ولا لمن حالف إنسانا على المناصرة .

قال : وبهذا كله ; قال مالك ، والشافعي ، وأحمد ، وداود ، وجماهير العلماء . قالوا : وما له لبيت المال .

وقالت الحنفية : ولاؤه لمن أسلم على يديه .

وقال به ابن راهويه في اللقيط.

وأثبت أبو حنيفة الولاء : " بالحلف" . قال : ويتوارثان به .

وحديث الباب : حجة على هؤلاء لعمومه .

الرابع : أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، خيرها في فسخ نكاحها . كما في الرواية الأخرى .

الخامس : أن الحديث صريح ، في إبطال كل شرط ، ليس له أصل في كتاب الله ، ولو شرط مائة مرة . والشرط أقسام كما تقدم مختصرا . [ ص: 541 ] السادس : في اللحم الذي تصدق على بريرة به . " هو لها : صدقة .ولنا : هدية". كما في حديث آخر .

قال : واعلم أن في حديث " بريرة " هذا : فوائد وقواعد كثيرة . وقد صنف فيه : ابن خزيمة ، وابن جرير : تصنيفين كبيرين ;

إحداها : ثبوت الولاء للمعتق.

الثانية : أنه لا ولاء لغيره .

الثالثة : ثبوت الولاء للمسلم على الكافر ، وعكسه .

الرابعة : جواز الكتابة .

الخامسة : جواز فسخ الكتابة ، إذا عجز "المكاتب " نفسه .

السادسة : جواز كتابة الأمة ، ككتابة العبد .

السابعة : جواز كتابة المزوجة .

الثامنة : أن "المكاتب " : لا يصير حرا بنفس الكتابة . بل هو عبد ما بقي عليه درهم . وفيه مذاهب ، ذكرها .

التاسعة : أن الكتابة تكون على "نجوم". لقوله في رواية : " على تسع أواق ، في تسع سنين".

العاشرة : ثبوت الخيار للأمة ، إذا عتقت تحت عبد .

[ ص: 542 ] الحادية عشرة : تصحيح الشروط ، التي دلت عليها أصول الشرع .

وإبطال ما سواها

.الثانية عشرة : جواز الصدقة على موالي قريش .

الثالثة عشرة : جواز قبول هدية الفقير والمعتق .

الرابعة عشرة : تحريم الصدقة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم . لقولها في بعض الروايات : " وأنت لا تأكل الصدقة" .قال النووي : ومذهبنا ، أنه كان : تحرم عليه صدقة الفرض ، بلا خلاف . وكذا صدقة التطوع على الأصح .

الخامسة عشرة : أن الصدقة لا تحرم على قريش " غير بني هاشم ، وبني المطلب " : لأن عائشة قرشية ، وقبلت ذلك اللحم من بريرة ، على أن له : حكم الصدقة ، وأنها حلال لها دون النبي صلى الله عليه وآله وسلم . ولم ينكر عليها النبي صلى الله عليه وآله وسلم : هذا الاعتقاد .

السادسة عشرة : جواز سؤال الرجل ، عما يراه في بيته .

السابعة عشرة : جواز السجع ، إذا لم يتكلف . وإنما نهي عن سجع" الكهان " ونحوه . مما فيه تكلف.

الثامنة عشرة : إعانة " المكاتب " ، في كتابته .

[ ص: 543 ] التاسعة عشرة : جواز تصرف المرأة في مالها : بالشراء ، والإعتاق ، وغيره ، إذا كانت رشيدة .

العشرون : أن بيع الأمة المزوجة ، ليس بطلاق . ولا ينفسخ به النكاح .

وقال ابن المسيب : هو طلاق .

وعن ابن عباس : أنه ينفسخ النكاح .

وحديث " بريرة " : يرد المذهبين ، لأنها خيرت في بقائها معه .

الحادية والعشرون : جواز اكتساب "المكاتب " : بالسؤال .

الثانية والعشرون : احتمال أخف المفسدتين ، لدفع أعظمهما .

واحتمال مفسدة يسيرة ، لتحصيل مصلحة عظيمة .

الثالثة والعشرون : جواز الشفاعة من الحاكم : إلى المحكوم له ، للمحكوم عليه . وجواز الشفاعة إلى المرأة ، في البقاء مع زوجها .

الرابعة والعشرون : لها الفسخ بعتقها ، وإن تضرر الزوج بذلك ، لشدة حبه إياها . لأنه كان يبكي على " بريرة " . كما في رواية أخرى.

الخامسة والعشرون : جواز خدمة العتيق لمعتقه : برضاه . كما في رواية أخرى .

السادسة والعشرون : أنه يستحب للإمام "عند وقوع بدعة ، أو أمر [ ص: 544 ] يحتاج إلى بيانه " : أن يخطب الناس ، ويبين لهم حكم ذلك . وينكر على من ارتكب ما يخالف الشرع.

السابعة والعشرون : استعمال الأدب . وحسن العشرة . وجميل الموعظة . لقوله صلى الله عليه وآله وسلم : " ما بال أقوام ، يشترطون شروطا ، ليست في كتاب الله ؟ " . ولم يواجه صاحب الشرط بعينه . لأن المقصود يحصل له ولغيره ، من غير فضيحة وشناعة عليه .

الثامنة والعشرون : أن الخطبة تبدأ بحمد الله ، والثناء عليه بما هو أهله.

التاسعة والعشرون : أنه يستحب في الخطبة أن يقول - بعد الحمد والثناء والصلاة - : " أما بعد". وقد تكرر هذا في خطب النبي صلى الله عليه وآله وسلم .

الثلاثون : التغليظ : في إزالة المنكر ، والمبالغة في تقبيحه .

انتهى حاصله .

[ ص: 545 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية