السراج الوهاج من كشف مطالب صحيح مسلم بن الحجاج

صديق خان - محمد صديق حسن خان القنوجي الظاهري

صفحة جزء
2996 باب أخذ الحلال البين، وترك الشبهات

ونحوه في النووي.

حديث الباب

وهو بصحيح مسلم \ النووي ص27- 28 ج11 المطبعة المصرية

[عن النعمان بن بشير، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (وأهوى النعمان بإصبعيه إلى أذنيه ) : "إن الحلال بين، وإن الحرام بين. وبينهما مشتبهات، لا يعلمهن كثير من الناس. فمن اتقى الشبهات: استبرأ لدينه وعرضه. ومن وقع في الشبهات: وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى، يوشك أن يرتع فيه. ألا وإن لكل ملك حمى. ألا وإن حمى الله محارمه. ألا وإن في الجسد مضغة، إذا [ ص: 55 ] صلحت: صلح الجسد كله. وإذا فسدت: فسد الجسد كله. ألا وهي القلب" . ]


(الشرح)

(عن النعمان بن بشير ) رضي الله عنهما؛ (قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول - وأهوى النعمان بإصبعيه إلى أذنيه - ) .

هذا تصريح، بسماعه عن النبي، صلى الله عليه وآله وسلم.

قال النووي: وهذا هو الصواب، الذي قاله أهل العراق وجماهير العلماء؛ قال يحيى بن معين: إن أهل المدينة، لا يصححون سماع النعمان من النبي، صلى الله عليه وآله وسلم. وهذه حكاية ضعيفة أو باطلة. والله أعلم.

وقد ادعى أبو عمرو الداني: أن هذا الحديث، لم يروه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: غير النعمان بن بشير. فإن أراد، من وجه صحيح، فمسلم. وإن أراد على الإطلاق، فمردود، فإنه "في الأوسط" للطبراني، من حديث ابن عمر، وعمار. وفي "الكبير" له، من حديث ابن عباس. وفي "الترغيب" للأصفهاني، من حديث واثلة. وفي أسانيدها مقال، كما قال الحافظ.

وحديث الباب هذا، قد روي بطرق صحيحة وألفاظ قوية صريحة، [ ص: 56 ] وهو متفق عليه. وقد جمع العلامة الشوكاني ألفاظه في "الفتح الرباني" مع اختلاف طرقها.

(إن الحلال بين، وإن الحرام بين. وبينهما مشتبهات ) .

معناه: أن الأشياء ثلاثة أقسام: حلال بين واضح، لا يخفى حله؛ كالخبز، والفواكه، والزيت، والعسل، والسمن، ولبن مأكول اللحم وبيضه، وغير ذلك من المطعومات. وكذلك الكلام، والنظر، والمشي، وغير ذلك من التصرفات. فيها: حلال بين واضح، لا شك في حله.

وأما الحرام البين؛ فكالخمر، والخنزير، والميتة، والبول، والدم المسفوح. وكذلك الزنا، واللواطة، والكذب، والنميمة، والنظر إلى الأجنبية. ومال المسلم، ودمه، وعرضه، وأشباه ذلك.

وأما المشتبهات فمعناه: أنها ليست بواضحة الحل ولا الحرمة. فلهذا (لا يعلمهن كثير من الناس ) . أي: لا يعلمون حكمها.

وجاء واضحا في رواية الترمذي. ولفظه: "لا يدري كثير من الناس: أمن الحلال هي أم من الحرام ؟".

ومفهوم قوله: "كثير": أن معرفة حكمها ممكن. لكن للقليل من الناس، وهم المجتهدون. فإنهم يعرفون حكمها بنص، أو قياس جلي، واستصحاب براءة أصلية أو ظاهرة، أو غير ذلك.

[ ص: 57 ] فإذا تردد الشيء بين الحل والحرمة، ولم يكن فيه نص ولا إجماع عند من يقول بحجيته: اجتهد فيه المجتهد، فألحقه بأحدهما بالدليل الشرعي. فإذا ألحقه به، صار حلا.

فالشبهات على هذا، في حق غير المجتهد. وقد تقع له حيث لا يظهر له ترجيح أحد الدليلين، أو يكون دليله غير خال عن الاحتمال البين. فيكون الورع تركه. ويكون داخلا في قوله صلى الله عليه وآله وسلم (فمن اتقى الشبهات، استبرأ لدينه وعرضه ) . أي: حصل له البراءة من الذم الشرعي، وصان عرضه عن كلام الناس فيه.

وما لم يظهر للمجتهد فيه شيء "وهو مشتبه"؛ فهل يؤخذ بحله، أم بحرمته، أم يتوقف ؟ فيه ثلاثة مذاهب، حكاها عياض وغيره. والأولى: التوقف. والمؤمنون وقافون عند الشبهات.

قال النووي: الظاهر: أنها مخرجة على الخلاف المشهور في الأشياء، قبل ورود الشرع. وفيه أربعة مذاهب؛

الأصح: أنه لا يحكم بحل، ولا حرمة، ولا إباحة، ولا غيرها. لأن التكليف عند أهل الحق، لا يثبت إلا بالشرع.

والثاني: أن حكمها: "التحريم".

[ ص: 58 ] والثالث: الإباحة.

والرابع: التوقف. انتهى.

وهو الموافق للسنة الصحيحة الصريحة المحكمة. والله أعلم.

والحاصل: أن الشيء، إما أن ينص الشارع على طلبه مع الوعيد على تركه، أو ينص على تركه مع الوعيد على فعله، أو لا ينص على واحد منهما.

فالأول: الحلال البين.

والثاني: الحرام البين.

والثالث: المشتبه لخفائه، فلا يدري أحلال هو أم حرام ؟ وما كان هذا سبيله: ينبغي اجتنابه، لأنه: إن كان في نفس الأمر حراما: فقد برئ من التبعة. وإن كان حلالا: فقد استحق الأجر على الترك لهذا القصد. لأن الأصل مختلف فيه؛ حظر أو إباحة ؟

وهذا التقسيم، يوافق قول من قال: إن المباح والمكروه من المشتبهات، ولكنه يشكل عليه المندوب، فإنه لا يدخل في قسم الحلال البين، على ما زعمه صاحب هذا التقسيم.

والمراد بكون كل واحد من القسمين الأولين بينا: أنه مما لا يحتاج إلى بيان. أو مما يشترك في معرفته كل أحد. وقد يردان جميعا، أي: ما يدل على الحل والحرمة. فإن علم المتأخر منهما: فذاك. وإلا كان: ما وردا فيه، من القسم الثالث. والله أعلم.

[ ص: 59 ] (ومن وقع في الشبهات: وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى، يوشك أن يرتع فيه ) .

فيه: تصوير المعقول بالمحسوس، وتشكيل المفهوم بالموجود. ومعناه يحتمل وجهين؛

أحدهما: أنه من كثرة تعاطيه الشبهات، يصادف الحرام وإن لم يتعمده. وقد يأثم بذلك، إذا نسب إلى تقصير.

والثاني: أنه يعتاد التساهل ويتمرن عليه، ويجسر على شبهة، ثم شبهة أغلظ منها، ثم أخرى أغلظ. وهكذا حتى يقع في الحرام عمدا.

وهذا نحو قول السلف: "المعاصي بريد الكفر". أي: تسوق إليه. (عافانا الله تعالى من الشرور، وهدانا إلى أحسن الخيور ) .

ويوشك: بضم الياء وكسر الشين. أي: يسرع ويقرب.

(ألا وإن لكل ملك حمى. ألا وإن حمى الله محارمه ) .

معناه: أن الملوك من العرب وغيرهم، يكون لكل ملك منهم حمى، يحميه من الناس ويمنعهم دخوله. فمن دخله: أوقع به العقوبة. ومن احتاط لنفسه: لا يقارب ذلك الحمى، خوفا من الوقوع فيه. ولله تعالى أيضا حمى في أرضه، وهي محارمه. أي: المعاصي التي حرمها الله في كتابه، أو على لسان رسوله صلى الله عليه وآله وسلم؛

كالقتل، والزنا، والسرقة، والقذف، والخمر، وأكل المال بالباطل، وأشباه ذلك.

[ ص: 60 ] فكل هذا حمى الله تعالى؛ من دخله بارتكاب شيء من المعاصي: استحق العقوبة. ومن قاربه: يوشك أن يقع فيه. فمن احتاط لنفسه: لم يقاربه، ولا يتعلق بشيء يقربه من المعصية، فلا يدخل في شيء من الشبهات.

وقد اختلف في حكمها؛

فقيل: التحريم. وهو مردود.

وقيل: الكراهة.

وقيل: الوقف. وهو الصحيح "إن شاء الله تعالى".

واختلف في تفسيرها؛

فقيل: إنها ما تعارضت فيه الأدلة.

وقيل: ما اختلف فيه العلماء. وهو منتزع من التفسير الأول.

وقيل: المراد بها: قسم المكروه، لأنه يجتذبه "جانبا الفعل والترك". وقيل: هي المباح.

ونقل ابن المنذر عن بعض مشايخه: أنه كان يقول: "المكروه": عقبة بين العبد والحرام. فمن استكثر من المكروه: تطرق إلى الحرام. "والمباح": عقبة بينه وبين المكروه. فمن استكثر منه: تطرق إلى المكروه.

ويؤيد هذا: ما وقع في رواية لابن حبان، من الزيادة، بلفظ:

[ ص: 61 ] "اجعلوا بينكم وبين الحرام، سترة من الحلال. من فعل ذلك: استبرأ لعرضه ودينه".

قال في الفتح - بعد أن ذكر التفاسير للمشتبهات، التي قدمناها -: والذي يظهر لي: رجحان الوجه الأول.

قال: ولا يبعد: أن يكون كل من الأوجه مرادة، ويختلف ذلك باختلاف الناس.

فالعالم الفطن: لا يخفى عليه تمييز الحكم، فلا يقع له ذلك إلا في الاستكثار من المباح والمكروه.

ومن دونه: تقع له الشبهة في جميع ما ذكر، بحسب اختلاف الأحوال. ولا يخفى أن المستكثر من المكروه: تصير فيه جرأة على ارتكاب المنهي المحرم. أو يكون ذلك لسر فيه؛ وهو أن من تعاطى ما نهي عنه: يصير مظلم القلب، لفقدان نور الورع، فيقع في الحرام ولو لم يختر الوقوع فيه. ولهذا قال صلى الله عليه وآله وسلم: "فمن ترك ما يشتبه عليه من الإثم: فقد استبرأ لدينه، وعرضه". انتهى.

والكلام على المشتبهات، وأنواع محارم الله، التي حذر الشارع عن الرتع والوقوع في حماها: كثير، لا يسعه المقام.

[ ص: 62 ] ومن أحسنه: ما حرره العلامة الشوكاني، في الفتح الرباني. وهذا العبد الفاني، في كتابه "دليل الطالب". وهو مقالة نفيسة، لم يسبق إليها أحد قبله وقبلي، "إن شاء الله تعالى". فراجعهما إن كنت ممن يجتهد في معرفة المدارك الشرعية، ومفاهيمها، وعطفها، وبالله التوفيق.

(ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت: صلح الجسد كله. وإذا فسدت: فسد الجسد كله. ألا وهي القلب ) .

صلح الشيء وفسد؛ بفتح اللام والسين وضمهما. والفتح: أفصح وأشهر.

والمضغة: القطعة من اللحم. سميت بذلك: لأنها تمضغ في الفم لصغرها. قالوا: المراد: تصغير القلب، بالنسبة إلى باقي الجسد. مع أن صلاح الجسد وفساده، تابعان للقلب.

قال النووي: وفي هذا الحديث: التأكيد على السعي في صلاح القلب، وحمايته من الفساد. واحتج بهذا الحديث: على أن العقل في القلب، لا في الرأس. وفيه خلاف مشهور؛

ومذهب أصحابنا، وجماهير المتكلمين: أنه في القلب.

وقال أبو حنيفة "رحمه الله": هو في الدماغ. وقد يقال في الرأس.

[ ص: 63 ] وحكوا الأول أيضا: عن الفلاسفة. والثاني: عن الأطباء.

قال المازري: واحتج القائلون بأنه في القلب، بقوله تعالى: أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها ، وقوله تعالى: إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب ، وبهذا الحديث؛ فإنه صلى الله عليه وآله وسلم: جعل صلاح الجسد وفساده، تابعا للقلب، مع أن الدماغ من جملة الجسد. فيكون صلاحه وفساده تابعا للقلب، فعلم: أنه ليس محلا للعقل.

واحتج القائلون بأنه في الدماغ: بأنه إذا فسد الدماغ، فسد العقل. ويكون من فساد الدماغ: الصرع، في زعمهم. ولا حجة لهم في ذلك، لأن الله سبحانه وتعالى: أجرى العادة بفساد العقل، عند فساد الدماغ، مع أن العقل ليس فيه. ولا امتناع من ذلك.

قال: ولا سيما على أصولهم، في الاشتراك الذي يذكرونه بين الدماغ والقلب. وهم يجعلون بين رأس المعدة والدماغ اشتراكا. والله أعلم. انتهى ما قال النووي.

وأقول: لما كان الدماغ بابا إلى القلب، والقلب محل العقل: أضافوا العقل إليه تارة، وإلى القلب أخرى. ولا بد للبيت من [ ص: 64 ] الباب. وقد قال تعالى: وأتوا البيوت من أبوابها . وقال: إلا من أتى الله بقلب سليم .

وعلى هذا؛ يرجع هذا الخلاف إلى اللفظ. والله أعلم.

وفي حديث آخر: "اللهم! ثبت قلبي على دينك". "لا ومقلب القلوب".

والأدلة على كون العقل في القلب: كثيرة جدا، لا تخفى على ممارس الكتاب والسنة.

ثم اعلم: أن العلماء قد عظموا أمر هذا الحديث، وأجمعوا على عظم وقعه في الدين، وكثرة فوائده للمسلمين، وعدوه رابع أربعة من الأحاديث، التي عليها مدار الإسلام. كما نقل عن أبي داود السختياني وغيره. وقد جمعها من قال:


عمدة الدين عندنا كلمات مسندات من قول خير     البرية اترك المشتبهات وازهد ودع
ما ليس يعنيك، واعملن بنية



والمراد "بتركها": هذا الحديث.

وبقوله "ازهد": حديث: (ازهد في الدنيا، يحبك الله. وازهد فيما عند الناس، يحبك الناس ) أخرجه ابن ماجة مرفوعا، عن سهل بن سعد. وصححه الحاكم. وحسنه الحافظ.

[ ص: 65 ] والمشهور عن أبي داود، "ما نهيتكم عنه فاجتنبوه" مكان حديث الزهد.

هذا، والحديث الثالث: قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "من حسن إسلام المرء، تركه ما لا يعنيه".

والرابع حديث: "الأعمال بالنية".

وقال جماعة: حديث الباب: هو ثلث الإسلام، وإن الإسلام يدور عليه.

وأشار ابن العربي: أنه يمكن أن ينتزع منه وحده، جميع الأحكام.

قال القرطبي: لأنه: اشتمل على التفصيل بين الحلال وغيره، وعلى تعلق جميع الأعمال بالقلب. فمن هناك يمكن أن ترد جميع الأحكام إليه.

قال النووي: قال العلماء: وسبب عظم موقعه: أنه صلى الله عليه وآله وسلم، نبه فيه على إصلاح المطعم، والمشرب، والملبس، وغيرها. وأنه ينبغي: ترك المشتبهات، فإنه سبب لحماية دينه وعرضه. وحذر من مواقعة الشبهات، وأوضح ذلك بضرب المثل بالحمى، ثم بين أهم الأمور، وهو مراعاة القلب. وبين أن بصلاحه يصلح باقي الجسد، وبفساده يفسد باقيه. انتهى.

اللهم! أصلح لي قلبي، ونور لي إياه.

التالي السابق


الخدمات العلمية