السراج الوهاج من كشف مطالب صحيح مسلم بن الحجاج

صديق خان - محمد صديق حسن خان القنوجي الظاهري

صفحة جزء
3085 كتاب الوقف

وهو في اللغة: الحبس. وفي الشريعة: حبس الملك "في سبيل الله تعالى"، للفقراء وأبناء السبيل. يصرف عليهم منافعه، ويبقى أصله على ملك الواقف.

باب: الوقف للأصل، والصدقة بالغلة

وقال النووي: ( باب الوقف ) .

حديث الباب

وهو بصحيح مسلم \ النووي ص86-87 ج11 المطبعة المصرية

[عن ابن عمر؛ قال: أصاب عمر أرضا بخيبر، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم يستأمره فيها؛ فقال: يا رسول الله! إني أصبت أرضا بخيبر، لم أصب مالا قط هو أنفس عندي منه. فما تأمرني به ؟ قال: "إن شئت حبست أصلها، وتصدقت بها" قال: فتصدق بها عمر؛ أنه لا يباع [ ص: 194 ] أصلها، ولا يبتاع، ولا يورث، ولا يوهب. قال: فتصدق عمر في الفقراء، وفي القربى، وفي الرقاب، وفي سبيل الله، وابن السبيل والضيف. لا جناح على من وليها: أن يأكل منها بالمعروف، أو يطعم صديقا، غير متمول فيه .

قال: فحدثت بهذا الحديث محمدا، فلما بلغت هذا المكان: "غير متمول فيه" قال محمد: غير متأثل مالا.

قال ابن عون: وأنبأني من قرأ هذا الكتاب؛ أن فيه: "غير متأثل مالا" ].


(الشرح)

(عن ابن عمر ) رضي الله عنهما؛ (قال: أصاب عمر ) رضي الله عنه، (أرضا بخيبر ) . هي المسماة: "بثمغ"، كما في رواية للبخاري، وأحمد.

(فأتى النبي صلى الله عليه ) وآله (وسلم يستأمره فيها، فقال: يا رسول الله! إني أصبت أرضا بخيبر، لم أصب مالا قط هو أنفس عندي منه (.

النفيس: الجيد. قال الداودي: سمي "نفيسا"، لأنه يأخذ بالنفس.

قال النووي: "أنفس" معناه: أجود. والنفيس: الجيد. "وقد نفس" بفتح النون وضم الفاء، "نفاسة".

[ ص: 195 ] (فما تأمرني به ؟ قال: "إن شئت حبست أصلها، وتصدقت بها" ) . أي: منفعتها.

وفي رواية للبخاري: "حبس أصلها، وسبل ثمرتها".

وفي أخرى له: "تصدق بثمره، وحبس أصله".

والحبس: الوقف.

وفي هذا الحديث: دليل على صحة أصل الوقف. وأنه مخالف لشوائب الجاهلية. هذا مذهب الجماهير، وبه قالت الشافعية.

قال النووي: ويدل عليه أيضا: إجماع المسلمين على صحة وقف المساجد، والسقايات.

وفيه: فضيلة ظاهرة، لعمر "رضي الله عنه".

وفيه: مشاورة أهل الفضل والصلاح، في الأمور وطرق الخير.

وفيه: أن "خيبر" فتحت عنوة، وأن الغانمين ملكوها واقتسموها، واستقرت أملاكهم على حصصهم، ونفذت تصرفاتهم فيها.

(قال: فتصدق بها عمر؛ أنه لا يباع أصلها، ولا تباع ولا تورث ولا توهب ). زاد الدارقطني "حبيس، ما دامت السماوات والأرض".

ظاهره: أنه من كلام عمر "رضي الله عنه".

[ ص: 196 ] وفي البخاري بلفظ: فقال النبي "صلى الله عليه وآله وسلم": تصدق بأصله؛ لا يباع ولا يوهب ولا يورث. ولكن ينفق ثمره". وهذا صريح: في أن الشرط، من كلام النبي "صلى الله عليه وآله وسلم". ولا منافاة، لأنه يمكن الجمع: بأن عمر شرط ذلك، بعد أن أمره النبي "صلى الله عليه وآله وسلم" به؛

فمن الرواة: من رفعه إلى النبي "صلى الله عليه وآله وسلم".

ومنهم: من وقفه على عمر، لوقوعه منه امتثالا للأمر الواقع منه "صلى الله عليه وآله وسلم" به.

(قال: فتصدق بها عمر في الفقراء، وفي القربى (.

قال في الفتح: يحتمل أن يكون المراد بهم: من ذكر في الخمس. أو المراد بهم: قربى الواقف. وبهذا جزم القرطبي.

قال النووي: فيه: فضيلة صلة الأرحام، والوقف عليهم.

(وفي الرقاب، وفي سبيل الله، وابن السبيل، والضيف ) : هو من نزل بقوم، يريد القرى.

(لا جناح على من وليها: أن يأكل منها بالمعروف (.

[ ص: 197 ] معناه: يأكل المعتاد، ولا يتجاوزه. قاله النووي.

وقيل: المعروف هنا: هو ما ذكر في ولي اليتيم.

قال القرطبي: جرت العادة بأن العامل يأكل من ثمرة الوقف. حتى لو اشترط الواقف أن العامل لا يأكل: لاستقبح ذلك منه.

والمراد بالمعروف: القدر الذي جرت به العادة. وقيل: القدر الذي يدفع الشهوة. وقيل: المراد: أن يأخذ منه بقدر عمله.

والأول: أولى. كذا في الفتح.

(أو يطعم صديقا ) أي: حبيبا (غير متمول فيه ) .

وفي رواية: "غير متأثل مالا". وهو اتخاذ أصل المال، حتى كأنه عنده قديم. وأثلة كل شيء: أصله.

قال الحافظ في الفتح: حديث عمر هذا، أصل في مشروعية الوقف. وقد روى أحمد عن ابن عمر: "قال: أول صدقة" أي: موقوفة "كانت في الإسلام: صدقة عمر".

وعن عمرو بن سعد بن معاذ: "قال: سألنا عن أول حبس في الإسلام ؟ فقال المهاجرون: صدقة عمر. وقال الأنصار: صدقة رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم".

[ ص: 198 ] وفي مغازي الواقدي: "إن أول صدقة موقوفة، كانت في الإسلام: أراضي مخيريق" بالمعجمة، مصغرا "التي أوصى بها إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فوقفها".

وقد ذهب إلى جواز الوقف ولزومه: جمهور العلماء.

قال الترمذي: لا نعلم بين الصحابة والمتقدمين؛ من أهل العلم: خلافا في جواز وقف الأرضين.

وجاء عن شريح: أنه أنكر الوقف. وقال أبو حنيفة: لا يلزم. وخالفه جميع أصحابه، إلا زفر. وعن أبي يوسف أنه قال: لو بلغ أبا حنيفة، لقال به. قال القرطبي: رأيه في الوقف مخالف للإجماع. فلا يلتفت إليه. انتهى.

قال في النيل: ومما يؤيد هذا: حديث "أما خالد، فقد حبس" أي: وقف "أدراعه، وأعتاده في سبيل الله". وهو متفق عليه.

وقوله "صلى الله عليه وآله وسلم"، في حديث آخر: "صدقة جارية": يشعر بأن الوقف يلزم، ولا يجوز نقضه. ولو جاز النقض، لكان الوقف صدقة منقطعة، وقد وصفه في هذا الحديث بعدم الانقطاع.

ومن ذلك: قوله "صلى الله عليه وآله وسلم": "لا يباع، ولا يوهب، ولا يورث" كما تقدم. فإن هذا منه "صلى الله عليه وآله وسلم": بيان [ ص: 199 ] لماهية التحبيس، التي أمر بها عمر "رضي الله عنه". وذلك يستلزم: لزوم الوقف، وعدم جواز نقضه. وإلا لما كان تحبيسا.

قال: فالحق: أن الوقف من القربات، التي لا يجوز نقضها بعد فعلها. لا للواقف، ولا لغيره.

التالي السابق


الخدمات العلمية