السراج الوهاج من كشف مطالب صحيح مسلم بن الحجاج

صديق خان - محمد صديق حسن خان القنوجي الظاهري

صفحة جزء
3163 [ ص: 278 ] باب الحكم فيمن يرتد عن الإسلام، ويقتل ويحارب

وقال النووي : ( باب حكم المحاربين والمرتدين ) وزاد في المنتقى : " وقطاع الطريق ".

(حديث الباب )

وهو بصحيح مسلم \ النووي ص 155 ج 11 المطبعة المصرية

[ عن أبي قلابة ، حدثني أنس، أن نفرا من عكل ثمانية، قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبايعوه على الإسلام. فاستوخموا الأرض وسقمت أجسامهم. فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " ألا تخرجون مع راعينا في إبله، فتصيبون من أبوالها وألبانها؟" فقالوا: بلى فخرجوا فشربوا من أبوالها وألبانها، فصحوا. فقتلوا الراعي، وطردوا الإبل. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعث في آثارهم، فأدركوا. فجيء بهم، فأمر بهم. فقطعت أيديهم وأرجلهم، وسمر أعينهم ثم نبذوا في الشمس، حتى ماتوا .

وقال ابن الصباح في روايته : واطردوا النعم. قال : وسمرت أعينهم (3 ) .]
[ ص: 279 ] (الشرح)

(عن أنس ) بن مالك ، رضي الله عنه ؛ (أن نفرا من عكل (بضم العين وإسكان الكاف : قبيلة من تيم الرباب (ثمانية ) .

وفي أخرى : " أن ناسا من عرينة ".

وفي رواية : "قدم على رسول الله ، صلى الله عليه وآله وسلم ، ثمانية نفر من عكل " وفي رواية : "قوم من عكل ، أو عرينة.

وفي أخرى : " أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نفر من عرينة " وفي رواية عن أنس ، عند أبي عوانة والطبري : " قال : كانوا أربعة من عرينة ، وثلاثة من عكل" .

وزعم الداودي ، وابن التين : أن " عرينة " هم عكل. وهو غلط.

بل هما قبيلتان متغايرتان. فعكل من عدنان. وعرينة من قحطان.

" وعرينة " على التصغير : حي من قضاعة. وحي من بجيلة. والمراد هنا : الثاني.

[ ص: 280 ] وفي رواية أبي هريرة : أنهم من " فزارة " وهو غلط. لأنهم ) من " مضر ) ، لا يجتمعون مع "عكل " ، ولا مع " عرينة " أصلا.

(قدموا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ) .

ذكر ابن إسحاق في المغازي : أن قدومهم ، كان بعد غزوة "ذي قرد " وكانت في جمادى الآخرة ، سنة ست.

وذكر الواقدي : أنها كانت في شوال منها. وتبعه ابن سعد ، وابن حبان ، وغيرهما.

(فبايعوه على الإسلام. فاستوخموا الأرض ) .

وفي رواية : " المدينة ". أي : لم توافقهم. وكرهوها لسقم أصابهم.

وفي أخرى " فاجتووها " ومعناه : استوخموها. قالوا وهو مشتق من " الجوى ". وهو داء في الجوف. قال ابن فارس : تقول : اجتويت المدينة : إذا كرهت المقام فيها ، وإن كنت في نعمة. وقيده الخطابي : ما إذا تضرر بالإقامة ، وهو المناسب لهذه القصة.

وقال ابن العربي : " الجوى " داء يأخذ ، من الوباء.

ورواية " استوخموا "، بمعنى هذه الرواية.

(وسقمت أجسامهم ) .

[ ص: 281 ] وللبخاري عن أنس : " أن ناسا كان بهم سقم ، قالوا : يا رسول الله ! آونا وأطعمنا. فلما صحوا قالوا : إن المدينة وخمة".

والظاهر : أنهم قدموا سقاما. فلما صحوا من السقم ، كرهوا الإقامة بالمدينة لوخمها.

فأما السقم الذي كان بهم : فهو الهزال الشديد والجهد ، من الجوع. كما رواه أبو عوانة عن أنس.

وعنده ) من رواية أبي سعيد : " مصفرة ألوانهم".

وأما " الوخم " الذي شكوا منه ، بعد ما صحت أجسامهم : فهو من حمى المدينة.

(فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال : ألا تخرجون مع راعينا في إبله ، فتصيبون من أبوالها وألبانها ؟ ) .

وفي رواية : " إن شئتم أن تخرجوا إلى إبل الصدقة ، فتشربوا من ألبانها وأبوالها".

وفي غير مسلم : " أنها لقاح النبي صلى الله عليه وآله وسلم " قال النووي : وكلاهما صحيح. فكان بعض الإبل للصدقة ، وبعضها للنبي صلى الله عليه وآله وسلم.

[ ص: 282 ] واستدل أصحاب مالك ، وأحمد ، بهذا الحديث : على أن بول ما يؤكل لحمه ، وروثه : طاهران.

وأجاب الشافعية وغيرهم ، من القائلين بنجاستهما : بأن شربهم الأبوال ، كان للتداوي. وهو جائز بكل النجاسات ، سوى الخمر والمسكرات. انتهى.

قلت : والصواب : هو الأول. ولا يجوز التداوي بالنجاسة. فكل نجاسة محرمة. ولم يجعل الله الشفاء فيما حرم عليهم.

فإن قيل : كيف أذن لهم في شرب لبن الصدقة ؟ فالجواب : أن ألبانها كانت للمحتاجين من المسلمين. وهؤلاء إذ ذاك منهم.

(فقالوا : بلى. فخرجوا فشربوا من أبوالها وألبانها ، فصحوا. فقتلوا الراعي (.

وفي رواية : "ثم مالوا على الرعاة ، فقتلوهم".

(وطردوا الإبل. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه (وآله (وسلم ، فبعث في آثارهم ، فأدركوا. فجيء بهم ، فأمر بهم : فقطعت أيديهم وأرجلهم ، وسمر أعينهم ) بالراء والميم مخففة.

قال النووي : وضبطناه في بعض المواضع ، في البخاري : " سمر " بتشديد الميم. وفي معظم النسخ : "سمل" باللام. ومعناه : فقأها ، وأذهب ما فيها ) . ومعنى "سمر " : كحلها بمسامير محمية. وقيل : هما بمعنى.

[ ص: 283 ] قال الخطابي: "السمر" لغة في "السمل " ومخرجهما متقارب. قال : والسمل : " فقء العين " بأي شيء كان.

(ثم نبذوا في الشمس ، حتى ماتوا ) . وفي رواية : "يعضون الحجارة ".

وفي أخرى : "قال أنس : فرأيت الرجل منهم يكدم الأرض بلسانه ، حتى يموت".

وفي رواية : "يعض الأرض ، ليجد بردها ، عما يجد من الحر والشدة ".

قال النووي : هذا الحديث أصل في عقوبة المحاربين. وهو موافق لقول الله تعالى : إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض . واختلف العلماء في المراد بهذه الآية.

فقال مالك : هي على التخيير. فيخير الإمام بين هذه الأمور ، إلا أن يكون المحارب قد قتل فيتحتم قتله.

وقال أبو حنيفة : الإمام بالخيار. وإن قتلوا.

وقال الشافعي ، وآخرون : هي على التقسيم ؛ ( [ ص: 284 ] فإن قتلوا ولم يأخذوا المال : قتلوا. وإن قتلوا وأخذوا المال : قتلوا وصلبوا. فإن أخذوا المال ولم يقتلوا : قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف.

وإن أخافوا السبيل ولم يأخذوا شيئا ولم يقتلوا : طلبوا حتى يعزروا. وهو المراد بالنفي عندنا. لأن ضرر هذه الأفعال مختلف ، فكانت عقوباتها مختلفة. ولم تكن للتخيير. انتهى.

وهذا تأويل عليل ، مخالف لظاهر الكتاب العزيز. والحق : ما ذهب إليه مالك ، وموافقوه ؛ من التخيير دون التقسيم. وقد رجح صاحب البحر : أن الآية للتخيير. وتكون العقوبة بحسب الجنايات. وهو مثل تفسير ابن عباس رضي الله عنه.

وقال صاحب المنار : إن الآية تحتمل التخيير احتمالا مرجوحا. والحق : ما ذكرناه. انظر تفسير هذه الآية في تفسيرنا " فتح البيان " ، وكن من الشاكرين.

قال النووي : تثبت أحكام المحاربة في الصحراء. وهل تثبت في الأمصار ؟ فيه خلاف ؛

قال أبو حنيفة : لا تثبت.

وقال مالك ، والشافعي : تثبت. انتهى.

قلت : الآية لم تفصل. وبه قال الأوزاعي ، وأبو ثور ، وأبو يوسف؛ ومحمد.

[ ص: 285 ] قال عياض : واختلف العلماء في معنى حديث " العرينيين " هذا.

فقال بعض السلف : كان هذا قبل نزول الحدود ، وآية المحاربة ، والنهي عن المثلة. فهو منسوخ.

وقيل : ليس منسوخا. وفيهم نزلت آية المحاربة. وإنما فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بهم ما فعل ، قصاصا. لأنهم فعلوا بالرعاة مثل ذلك.

وقال بعضهم : النهي عن المثلة ، نهي تنزيه. ليس بحرام.

قال : إنهم قتلوا الراعي ، وارتدوا عن الإسلام. وحينئذ لا يبقى لهم حرمة في سقي الماء ، ولا غيره. انتهى.

قال الخطابي : إنما فعل بهم ذلك : لأنه أراد بهم الموت بذلك. والله أعلم.

التالي السابق


الخدمات العلمية