السراج الوهاج من كشف مطالب صحيح مسلم بن الحجاج

صديق خان - محمد صديق حسن خان القنوجي الظاهري

صفحة جزء
3427 باب: البيعة على السمع والطاعة، إلا أن يروا كفرا بواحا

وقال النووي : ( باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية، وتحريمها في المعصية) .

حديث الباب

( وهو بصحيح مسلم \ النووي ص228 ج12 المطبعة المصرية)

[عن جنادة بن أبي أمية ; قال: دخلنا على عبادة بن الصامت، وهو مريض، فقلنا: حدثنا ( أصلحك الله) بحديث ينفع الله به، سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: دعانا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبايعناه. فكان فيما أخذ علينا: أن بايعنا على السمع والطاعة; في منشطنا ومكرهنا. وعسرنا [ ص: 318 ] ويسرنا. وأثرة علينا. وأن لا ننازع الأمر أهله. قال: "إلا أن تروا كفرا بواحا، عندكم من الله فيه برهان" ].


(الشرح)

( عن جنادة بن أبي أمية; قال: دخلنا على عبادة بن الصامت، وهو مريض. فقلنا: حدثنا - أصلحك الله - بحديث ينفع الله به، سمعته من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فقال: دعانا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فبايعناه) . المراد "بالمبايعة": المعاهدة. وهي مأخوذة من "البيع"; لأن كل واحد من المتبايعين كان يمد يده إلى صاحبه. وكذا هذه البيعة تكون بأخذ الكف.

وقيل: سميت "مبايعة": لما فيها من المعاوضة، لما وعدهم الله تعالى من عظيم الجزاء. قال تعالى: إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة . الآية.

( فكان فيما أخذه علينا: أن بايعنا على السمع والطاعة; في منشطنا) بفتح الميم والمعجمة، وسكون النون التي بينهما. أي: في حال نشاطنا. ( ومكرهنا) أي: في حال كراهتنا، وعجزنا عن العمل، بما نؤمر به.

[ ص: 319 ] ونقل ابن التين عن الداودي : أن المراد: الأشياء التي يكرهونها. قال ابن التين : والظاهر أنه أراد في وقت الكسل والمشقة في الخروج، ليطابق معنى منشطنا. ويؤيده: ما عند أحمد، في حديث عبادة; بلفظ: "في النشاط والكسل".

( وعسرنا ويسرنا، وأثرة علينا) . قال النووي : قال أهل العلم: معناه: تجب طاعة ولاة الأمور، فيما يشق وتكرهه النفوس، وغيره مما ليس بمعصية. فإن كانت معصية، فلا سمع ولا طاعة. كما صرح به في الأحاديث الأخرى. فتحمل هذه الأحاديث "المطلقة لوجوب طاعة ولاة الأمور": على موافقة تلك الأحاديث المصرحة بأنه: لا سمع ولا طاعة في المعصية.

"والأثرة" بفتح الهمزة والثاء. ويقال بضم الهمزة وإسكان الثاء، وبكسر الهمزة وإسكان الثاء. ثلاث لغات حكاه في "المشارق" وغيره. وهي: الاستئثار، والاختصاص بأمور الدنيا.

( ولا ننازع الأمر أهله) . أي: الملك والإمارة. زاد أحمد في رواية: "وإن رأيت أن لك في الأمر حقا، فلا تعمل بذلك الظن. بل اسمع وأطع إلى أن يصل إليكم، بغير خروج عن الطاعة" .

[ ص: 320 ] ( قال: "إلا أن تروا كفرا بواحا") ، هكذا هو لمعظم الرواة، وفي معظم النسخ: "بواحا"، بالواو. وفي بعضها: "براحا" والباء مفتوحة فيهما. ومعناهما: كفرا ظاهرا.

قال الخطابي : معنى "بواحا"، يريد: ظاهرا باديا. من قولهم: "باح بالشيء، يبوح به، بوحا وبواحا": إذا ادعاه وأظهره. قال: ويجوز "بوحا" بسكون الواو. ويجوز بضم أوله ثم همزة ممدودة . قال: ومن رواه بالراء، فهو قريب من هذا المعنى. وأصل "البراح": الأرض القفر، التي لا أنيس فيها، ولا بناء. وقيل: "البراح": البيان. يقال: "برح الخفاء": إذا ظهر.

قال الحافظ: ووقع عند الطبراني : "كفرا صراحا"، وفي رواية: "إلا أن تكون معصية لله بواحا".

وفي رواية لأحمد: "ما لم يأمر بإثم بواحا".

وفي الحديث: دليل على أنها لا تجوز المنابذة; إلا عند ظهور الكفر البواح.

قال النووي : والمراد بالكفر هنا: المعاصي.

( عندكم من الله فيه برهان) . أي: نص آية، أو خبر صحيح لا يحتمل [ ص: 321 ] التأويل. ومقتضاه: أنه لا يجوز الخروج عليهم، ما دام فعلهم يحتمل التأويل.

قال النووي : "برهان" يعني: تعلمونه من دين الله تعالى.

ومعنى الحديث: لا تنازعوا ولاة الأمور في ولايتهم، ولا تعترضوا عليهم: إلا أن تروا منهم منكرا، محققا، تعلمونه من قواعد الإسلام. فإذا رأيتم ذلك: فأنكروه عليهم، وقولوا بالحق حيثما كنتم.

وأما الخروج عليهم، وقتالهم: فحرام بإجماع المسلمين، وإن كانوا فسقة ظالمين. وقد تظاهرت الأحاديث بمعنى ما ذكرته. انتهى .

قال في الفتح: وقال غيره: إذا كانت المنازعة في الولاية، فلا ينازعه بما يقدح في الولاية، إلا إذا ارتكب الكفر. وحمل رواية المعصية: على ما إذا كانت المنازعة فيما عدا الولاية، فإذا لم يقدح في الولاية، نازعه في المعصية: بأن ينكر عليه برفق، ويتوصل إلى تثبيت الحق له بغير عنف. ومحل ذلك إذا كان قادرا.

ونقل ابن التين عن " الداودي " قال: الذي عليه العلماء في أمراء الجور: أنه إن قدر على خلعه بغير فتنة ولا ظلم، وجب. وإلا، فالواجب الصبر.

وعن بعضهم: لا يجوز عقد الولاية لفاسق ابتداء. فإن أحدث جورا بعد أن كان عدلا، فاختلفوا في جواز الخروج عليه; والصحيح: المنع. إلا أن يكفر; فيجب الخروج عليه.

[ ص: 322 ] قال في الفتح: وقد أجمع الفقهاء: على وجوب: طاعة السلطان المتغلب ، والجهاد معه. وأن طاعته خير من الخروج عليه، لما في ذلك من حقن الدماء، وتسكين الدهماء. ولم يستثنوا من ذلك، إلا إذا وقع من السلطان الكفر الصريح. فلا يجوز طاعته في ذلك، بل تجب مجاهدته لمن قدر عليها. كما في الحديث. انتهى .

قال النووي : أجمع أهل السنة: أنه لا ينعزل السلطان بالفسق. وأما الوجه المذكور في كتب الفقه لبعض أصحابنا: أنه ينعزل ( وحكي عن المعتزلة أيضا) : فغلط من قائله، مخالف للإجماع. قال العلماء: وسبب عدم انعزاله، وتحريم الخروج عليه: ما يترتب على ذلك من الفتن، وإراقة الدماء، وفساد ذات البين. فتكون المفسدة في عزله أكثر منها في بقائه.

قال عياض : أجمع العلماء: على أن الإمامة لا تنعقد لكافر. وعلى أنه لو طرأ عليه الكفر: انعزل. قال: وكذا لو ترك إقامة الصلوات، والدعاء إليها. قال: وكذلك "عند جمهورهم ": البدعة. قال: وقال بعض البصريين: تنعقد له، وتستدام له; لأنه متأول.

قال عياض : فلو طرأ عليه كفر، وتغيير للشرع. أو بدعة: خرج عن حكم الولاية، وسقطت طاعته، ووجب على المسلمين القيام عليه [ ص: 323 ] وخلعه، ونصب إمام عادل إن أمكنهم ذلك. فإن لم يقع ذلك إلا لطائفة، وجب عليهم القيام بخلع الكافر. ولا يجب في المبتدع، إلا إذا ظنوا القدرة عليه. فإن تحققوا العجز، لم يجب القيام. وليهاجر المسلم عن أرضه، إلى غيرها. ويفر بدينه. قال: ولا تنعقد لفاسق ابتداء. فلو طرأ على الخليفة فسق، قال بعضهم: يجب خلعه; إلا أن يترتب عليه فتنة وحرب. وقال جماهير أهل السنة "من الفقهاء، والمحدثين، والمتكلمين": لا ينعزل بالفسق والظلم، وتعطيل الحقوق. ولا يخلع. ولا يجوز الخروج عليه بذلك. بل يجب وعظه وتخويفه; للأحاديث الواردة في ذلك.

قال عياض : وقد ادعى أبو بكر بن مجاهد في هذا: الإجماع. وقد رد عليه بعضهم هذا: بقيام الحسن، وابن الزبير، وأهل المدينة : على بني أمية . وبقيام جماعة عظيمة من التابعين، والصدر الأول: على الحجاج، مع ابن الأشعث . وتأول هذا القائل قوله: "أن لا ننازع الأمر أهله": في أئمة العدل.

وحجة الجمهور: أن قيامهم على الحجاج ليس بمجرد الفسق، بل لما غير من الشرع، وظاهر من الكفر.

قال عياض : وقيل: إن هذا الخلاف كان أولا، ثم حصل الإجماع على منع الخروج عليهم. والله أعلم. انتهى .

[ ص: 324 ] قلت: وقد استدل القائلون: "بوجوب الخروج على الظلمة، ومنابذتهم السيف، ومكافحتهم بالقتال": بعمومات من الكتاب والسنة، في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ولا ريب ولا شك: أن الأحاديث الواردة في هذا الباب أخص من تلك العمومات مطلقا. وهي متواتر المعنى، كما يعرف ذلك: من له نسبة بعلم السنة. ولكنه لا ينبغي لمسلم: أن يحط على من خرج من السلف الصالح من العترة وغيرهم، على أئمة الجور. فإنهم فعلوا ذلك باجتهاد منهم. وهم أتقى لله وأطوع لسنة رسول الله، من جماعة ممن جاء بعدهم من أهل العلم.

قال الشوكاني في النيل: ولقد أفرط بعض أهل العلم; كالكرامية ومن وافقهم في الجمود على أحاديث الباب، حتى حكموا بأنالحسين السبط "رضي الله عنه وأرضاه"، باغ على الخمير السكير ، الهاتك لحرم الشريعة المطهرة: "يزيد بن معاوية" لعنه الله . فيا لله العجب! من مقالات تقشعر منها الجلود، ويتصدع من سماعها كل جلمود. انتهى.

التالي السابق


الخدمات العلمية