السراج الوهاج من كشف مطالب صحيح مسلم بن الحجاج

صديق خان - محمد صديق حسن خان القنوجي الظاهري

صفحة جزء
3661 باب منه

وقال النووي : (باب تحريم الخمر ، وبيان أنها تكون من عصير العنب ، ومن التمر ، والبسر ، والزبيب ، وغيرهما مما يسكر) .

حديث الباب

وهو بصحيح مسلم \ النووي ص 145 ، 148 ج 13 المطبعة المصرية

[وحدثني أبو بكر بن إسحاق. أخبرنا سعيد بن كثير بن عفير (أبو عثمان) المصري. حدثنا عبد الله بن وهب. حدثني يونس بن يزيد عن ابن شهاب. أخبرني علي بن حسين بن علي، أن حسين بن علي أخبره، أن عليا قال: كانت لي شارف من نصيبي من المغنم يوم بدر. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاني شارفا من الخمس يومئذ. فلما أردت أن أبتني بفاطمة، بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم: واعدت رجلا صواغا، من بني قينقاع، يرتحل، معي فنأتي بإذخر، أردت أن أبيعه من الصواغين، [ ص: 455 ] فأستعين به في وليمة عرسي. فبينا أنا أجمع لشارفي متاعا من الأقتاب، والغرائر، والحبال. وشارفاي مناخان إلى جنب حجرة رجل من الأنصار. وجمعت (حين جمعت) ما جمعت. فإذا شارفاي قد اجتبت أسنمتهما، وبقرت خواصرهما، وأخذ من أكبادهما. فلم أملك عيني، حين رأيت ذلك المنظر منهما. قلت من فعل هذا؟ قالوا فعله حمزة بن عبد المطلب. وهو في هذا البيت، في شرب من الأنصار. غنته قينة وأصحابه، فقالت في غنائها:

ألا يا حمز! للشرف النواء.

فقام حمزة بالسيف، فاجتب أسنمتهما، وبقر خواصرهما، فأخذ من أكبادهما. فقال علي: فانطلقت حتى أدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعنده زيد بن حارثة. قال: فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجهي: الذي لقيت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"ما لك؟" قلت: يا رسول الله! والله ما رأيت كاليوم قط. عدا حمزة على ناقتي، فاجتب أسنمتهما، وبقر خواصرهما. وها هو ذا في بيت، معه شرب. قال: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بردائه، فارتداه. ثم انطلق يمشي. واتبعته أنا وزيد بن حارثة، حتى جاء الباب الذي فيه حمزة. فاستأذن، فأذنوا له، فإذا هم شرب. فطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم يلوم حمزة فيما فعل. فإذا حمزة محمرة عيناه. فنظر حمزة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم صعد النظر إلى ركبتيه. ثم صعد النظر، فنظر إلى سرته. ثم صعد النظر، فنظر إلى وجهه. فقال حمزة: وهل أنتم إلا عبيد لأبي؟ فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ثمل. فنكص رسول الله صلى الله عليه وسلم على عقبيه القهقرى. وخرج، وخرجنا معه].



[ ص: 456 ] (الشرح)

( عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ؛ قال : كانت لي شارف) . بالشين والفاء. وهي الناقة المسنة . وجمعها : "شرف" بضم الراء وإسكانها .

( من نصيبي من المغنم ، يوم بدر . وكان رسول الله صلى الله عليه) وآله ( وسلم ، أعطاني شارفا من الخمس يومئذ . فلما أردت أن أبتني بفاطمة ، بنت رسول الله صلى الله عليه) وآله (وسلم : واعدت رجلا صواغا ، من بني قينقاع ، يرتحل معي فنأتي بإذخر ، أردت أن أبيعه من الصواغين) . هكذا هو في جميع نسخ مسلم ، وفي البخاري أيضا .

وفيه : دليل لصحة استعمال الفقهاء في قولهم : بعت منه ثوبا .

وزوجت منه . ووهبت منه جارية . وشبه ذلك .

والفصيح : حذف " من " ، فإن الفعل متعد بنفسه . ولكن استعمال " من " في هذا صحيح . وقد كثر ذلك في كلام العرب . وقد جمع النووي من ذلك نظائر كثيرة في " تهذيب اللغات" ، في حرف الميم مع النون . وتكون " من " زائدة على مذهب الأخفش ، ومن وافقه في زيادتها في الإيجاب .

( فأستعين به في وليمة عرسي) .

[ ص: 457 ] وفي لفظ : " قال : أصبت شارفا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، في مغنم ، يوم بدر . وأعطاني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم "شارفا" أخرى . فأنختهما يوما ، عند باب رجل من الأنصار . وأنا أريد أن أحمل عليهما إذخرا ، لأبيعه . ومعي صائغ من بني قينقاع - فأستعين به على وليمة فاطمة" .

أما " قينقاع " : فبضم النون . وكسرها . وفتحها . وهم طائفة من يهود المدينة . فيجوز " صرفه " ، على إرادة الحي . وترك صرفه ، على إرادة القبيلة ، أو الطائفة .

وفي الحديث : اتخاذ الوليمة للعرس . سواء في ذلك من له مال كثير ، ومن دونه .

وفيه : جواز الاستعانة في الأعمال ، والأنساب : باليهودي .

وفيه : جواز " الاحتشاش" للتكسب ، وبيعه . وأنه لا ينقص المروءة .

وفيه : جواز بيع الوقود للصواغين ، ومعاملتهم .

( فبينا أنا أجمع لشارفي متاعا من الأقتاب ، والغرائر ، والحبال . وشارفاي مناخان) . هكذا في معظم النسخ. وفي بعضها : " مناختان ". بزيادة التاء. وكذلك اختلف في نسخ البخاري . وهما صحيحان . فأنث باعتبار المعنى . وذكر باعتبار اللفظ .

[ ص: 458 ] ( إلى جنب حجرة رجل من الأنصار . وجمعت - حين جمعت - ما جمعت) . قال النووي : هكذا في بعض نسخ بلادنا . ونقله عياض عن أكثر نسخهم . وسقطت لفظة : " وجمعت " في الموضع الأول من أكثر نسخ بلادنا . ووقع في بعض النسخ : "حتى جمعت " . مكان : ( حين جمعت " .

( فإذا شارفي قد اجتبت أسنمتهما) ، هكذا هو في معظم النسخ . وفي بعضها : "فإذا شارفاي " وهذا هو الصواب . أو يقول : " فإذا شارفتاي " إلا أن يقرأ : " فإذا شارفي " بتخفيف الياء ، على لفظ الإفراد . ويكون المراد : جنس الشارف . فيدخل فيه " الشارفان " . ومعنى " اجتبت " : قطعت .

( وبقرت خواصرهما) ، أي : شقت .

( وأخذ من أكبادهما . فلم أملك عيني ، حين رأيت ذلك المنظر منهما) . هذا البكاء والحزن الذي أصابه . سببه : ما خافه من تقصيره في حق فاطمة "رضي الله عنها" ، وجهازها ، والاهتمام بأمرها . وتقصيره أيضا بذلك في حق النبي صلى الله عليه وآله وسلم . ولم يكن لمجرد الشارفين ، من حيث هما من متاع الدنيا . بل لما قدمناه . والله أعلم ..

[ ص: 459 ] ( قلت : من فعل هذا ؟ قالوا : فعله حمزة بن عبد المطلب . وهو في هذا البيت ، في شرب من الأنصار) . بفتح الشين وإسكان الراء . وهم الجماعة الشاربون .

( غنته قينة) بفتح القاف : الجارية المغنية ( وأصحابه ، فقالت في غنائها : ألا يا حمز ! للشرف النواء) . " الشرف" ، بضم الشين والراء . وتسكين الراء أيضا كما سبق : جمع "شارف ".

" والنواء" ، بكسر النون وتخفيف الواو ، وبالمد : أي " السمان" . جمع "ناوية " بالتخفيف . وهي السمينة . وقد نوت الناقة ، تنوي . كرمت ترمي . يقال لها ذلك : إذا سمنت . هذا هو الصواب المشهور ، في روايات الصحيحين وغيرهما . ويقع في بعض النسخ : "النوي " بالياء. وهو تحريف . وقال الخطابي : رواه ابن جرير : "ذا الشرف النوى " بفتح الشين والراء ، وبفتح النون مقصورا . قال : وفسره بالبعد . قال الخطابي : وكذا رواه أكثر المحققين . قال : وهو غلط في الرواية والتفسير . وقد جاء في غير مسلم تمام هذا الشعر :


ألا يا حمز ! للشرف النواء وهن معقلات بالفناء     ضع السكين في اللبات منها
ضرجهن حمزة ! بالدماء     وعجل من أطايبها لشرب
قديدا من طبيخ أو شواء

[ ص: 460 ] ( فقام حمزة بالسيف ، فاجتب أسنمتها) . وفي رواية : " جب" .

وللبخاري : " أجب " وهذه غريبة في اللغة . ومعناه : " قطع " .

( وبقر) أي : شق ( خواصرهما ، وأخذ من أكبادهما . فقال علي) رضي الله عنه : ( فانطلقت حتى أدخل على رسول الله ، صلى الله عليه) وآله ( وسلم ، وعنده زيد بن حارثة . قال : فعرف رسول الله صلى الله عليه) وآله (وسلم في وجهي : الذي لقيت . فقال رسول الله صلى الله عليه) وآله ( وسلم : " ما لك ؟" قلت : يا رسول الله ! والله ! ما رأيت كاليوم قط . عدا حمزة على ناقتي فاجتب أسنمتهما ، وبقر خواصرهما . وها هو ذا في بيت ، معه شرب . قال : فدعا رسول الله صلى الله عليه) وآله ( وسلم بردائه ، فارتداه) . هكذا هو في النسخ كلها : " فارتداه ". وفيه : جواز لباس الرداء . وترجم له البخاري بابا .

وفيه : أن الكبير إذا خرج من منزله ، تجمل بثيابه . ولا يقتصر على ما يكون عليه في خلوته في بيته. وهذا من المروءات ، والآداب المحبوبة .

[ ص: 461 ] ( ثم انطلق يمشي . واتبعته أنا وزيد بن حارثة ، حتى جاء الباب الذي فيه حمزة . فاستأذن ، فأذنوا له ، فإذا هم شرب . فطفق رسول الله صلى الله عليه) وآله ( وسلم يلوم) أي : جعل يلومه . يقال بكسر الفاء وفتحها. حكاه عياض وغيره . والمشهور الكسر ، وبه جاء القرآن . قال تعالى : (فطفق مسحا بالسوق والأعناق ) . ( حمزة فيما فعل) .

قال النووي : وهذا الفعل الذي جرى من حمزة : لا إثم عليه في شيء منه ؛

أما أصل الشرب والسكر فكان مباحا ، لأنه قبل تحريم الخمر .

وأما باقي الأمور ، فجرت منه في حال عدم التكليف ، فلا إثم عليه فيها . كمن شرب دواء لحاجة ، فزال به عقله . أو شرب شيئا يظنه خلا ، فكان خمرا . أو أكره على شرب الخمر ، فشربها وسكر ؛ فهو في حال السكر غير مكلف . ولا إثم عليه فيما يقع منه في تلك الحال ، بلا خلاف .

وأما غرامة ما أتلفه ، فيجب في ماله ، فلعل عليا أبرأه من ذلك بعد معرفته بقيمة ما أتلفه . أو أنه أداه إليه حمزة بعد ذلك . أو أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أداه عنه ، لحرمته عنده ، وكمال حقه ومحبته إياه وقرابته . وقد جاء في كتاب عمر بن شيبة ، من رواية أبي [ ص: 462 ] بكر بن عياش : أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، غرم حمزة الناقتين ".

وقد أجمع العلماء : أن ما أتلفه السكران من الأموال ، يلزمه ضمانه . كالمجنون . فإن الضمان لا يشترط فيه التكليف . ولهذا أوجب الله تعالى في كتابه في قتل الخطأ : الدية ، والكفارة .

وأما هذا السنام المقطوع ، فإن لم يكن تقدم نحرهما : فهو حرام بإجماع المسلمين . لأن ما أبين من حي فهو ميت . وفيه حديث مشهور ، في كتب السنن .

ويحتمل : أنه ذكاهما . ويدل عليه : الشعر الذي قدمناه . فإن كان ذكاهما ، فلحمهما حلال باتفاق العلماء . إلا ما حكي عن عكرمة ، وإسحاق ، وداود : أنه لا يحل ما ذبحه سارق ، أو غاصب ، أو متعد . والصواب الذي عليه الجمهور : حله .

وإن لم يكن ذكاهما ، وثبت أنه أكل منهما : فهو أكل في حالة السكر المباح ، ولا إثم فيه . كما سبق . والله أعلم .

( وإذا حمزة محمرة عيناه . فنظر حمزة إلى رسول الله صلى الله عليه) وآله ( وسلم ، ثم صعد النظر إلى ركبتيه . ثم صعد [ ص: 463 ] النظر ، فنظر إلى سرته. ثم صعد النظر ، فنظر إلى وجهه . فقال حمزة : وهل أنتم إلا عبيد لأبي ؟ . فعرف رسول الله صلى الله عليه) وآله ( وسلم أنه ثمل) . بفتح الثاء وكسر الميم . أي : سكران .

( فنكص رسول الله صلى الله عليه) وآله (وسلم ، على عقبيه القهقرى . وخرج ، وخرجنا معه) .

قال جمهور أهل اللغة ، وغيرهم : " القهقرى " : الرجوع إلى وراء ، ووجهه إليك : إذا ذهب عنك . وقال أبو عمرو : وهو الإحضار في الرجوع . أي : الإسراع . فعلى هذا معناه : خرج مسرعا . والأول هو المشهور المعروف .

وإنما رجع القهقرى : خوفا من أن يبدو من حمزة أمر يكرهه ، لو ولاه ظهره ، لكونه مغلوبا بالسكر .

التالي السابق


الخدمات العلمية