السراج الوهاج من كشف مطالب صحيح مسلم بن الحجاج

صديق خان - محمد صديق حسن خان القنوجي الظاهري

صفحة جزء
3846 [ ص: 524 ] باب منه

وقال النووي : (باب تحريم استعمال أواني الذهب والفضة ، في الشرب وغيره : على الرجال والنساء) .

حديث الباب

وهو بصحيح مسلم \ النووي ص 27 ج 14 المطبعة المصرية



[ (عن أم سلمة) رضي الله عنها، (زوج النبي صلى الله عليه) وسلم: أن رسول الله صلى الله عليه) وآله (وسلم قال "الذي يشرب في آنية الفضة، إنما يجرجر في بطنه نار جهنم ") ].

هذا الحديث متفق عليه . وفي رواية أخرى لمسلم : " أن الذي يأكل أو يشرب ؛ في آنية الفضة والذهب " .

وفي رواية : " من شرب في إناء من ذهب أو فضة ؛ فإنما يجرجر في بطنه نارا من جهنم ".


(الشرح)

قال النووي : اتفق العلماء ( من أهل الحديث ، واللغة والغريب ، وغيرهم) : على كسر الجيم الثانية من " يجرجر". واختلفوا في راء " النار " في الرواية الأولى ؛ فنقلوا فيها النصب والرفع . وهما مشهوران [ ص: 525 ] في الرواية ، وفي كتب الشارحين ، وأهل الغريب واللغة . " والنصب " هو الصحيح المشهور، الذي جزم به الأزهري ، وآخرون ، من المحققين . ورجحه الزجاج ، والأكثرون. ويؤيده الرواية الثانية : "نارا " .

قال : ورويناه في مسند أبي عوانة الإسفرايني ، وفي الجعديات من رواية عائشة ، رضي الله عنها : " إنما يجرجر في جوفه نارا ". كذا هو في الأصول . "نارا " . من غير ذكر "جهنم ".

وأما معناه ، فعلى رواية النصب : الفاعل وهو الشارب ، مضمر في " يجرجر ". أي يلقيها في بطنه بجرع متتابع ، يسمع له "جرجرة " . وهو الصوت لتردده في حلقه .

وعلى رواية الرفع : تكون " النار " فاعله . ومعناه : تصوت النار في بطنه . " والجرجرة " هي : التصويت .

وسمي المشروب " نارا " : لأنه يئول إليها ، كما قال تعالى : ( إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا ) .

قال في النيل : " الجرجرة " : صب الماء في الحلق ، كالتجرجر . وهو أن تجرعه جرعا متداركا. "جرجر الشراب " : صوت . " وجرجره ": سقاه على تلك الصفة . قاله في القاموس [ ص: 526 ] قال النووي رحمه الله : وأما " جهنم " عافانا الله منها ، ومن كل بلاء ، فقال الواحدي : قال يونس ، وأكثر النحويين : هي "عجمية " لا تنصرف ، للتعريف والعجمة . وسميت بذلك لبعد قعرها . يقال " بئر جهنام " : إذا كانت عميقة القعر . وقال بعض اللغويين : مشتقة من " الجهومة " ، وهي الغلظ . سميت بذلك : لغلظ أمرها في العذاب .

قال عياض : واختلفوا في المراد بالحديث ؛ فقيل : هو إخبار عن الكفار ؛ من ملوك العجم وغيرهم ، الذين عادتهم فعل ذلك . كما قال في الحديث الآخر : "هي لهم في الدنيا ولكم في الآخرة " . أي : هم المستعملون لها في الدنيا . وكما قال صلى الله عليه وآله وسلم ، في ثوب الحرير : " إنما يلبس هذا : من لا خلاق له في الآخرة " . أي : لا نصيب .

قال : وقيل : المراد : نهي المسلمين عن ذلك ، وأن من ارتكب هذا النهي : استوجب هذا الوعيد . وقد يعفو الله عنه . انتهى .

قال النووي : والصواب أن النهي يتناول جميع من يستعمل إناء الذهب أو الفضة ، من المسلمين والكفار . لأن الصحيح : أن الكفار مخاطبون بفروع الشرع.

[ ص: 527 ] قال : وأجمع المسلمون على تحريم الأكل والشرب ، في إناء الذهب ، وإناء الفضة : على الرجل وعلى المرأة . ولم يخالف في ذلك أحد من العلماء ، إلا ما حكى أصحابنا عن الشافعي ، في قول : أنه يكره ولا يحرم . وحكوا عن داود الظاهري : تحريم الشرب ، وجواز الأكل وسائر وجوه الاستعمال . وهذان النقلان باطلان ؛

أما قول داود : فباطل ، لمنابذة صريح هذه الأحاديث في النهي عن الأكل والشرب جميعا . ولمخالفة الإجماع قبله . قال : قال أصحابنا : انعقد الإجماع على تحريم الأكل والشرب ، وسائر الاستعمال ، في إناء ذهب أو فضة إلا ما حكي عن داود ، وقول الشافعي في القديم ، فهما مردودان بالنصوص والإجماع. وهذا إنما يحتاج إليه ، على قول من يعتد بقول داود : في الإجماع والخلاف . وإلا ، فالمحققون يقولون : لا يعتد به ، لإخلاله بالقياس . وهو أحد شروط المجتهد ، الذي يعتد به .

وأما قول الشافعي القديم : فقال صاحب التقريب : إن سياق كلامه : يدل على أنه أراد : أن نفس الذهب والفضة ، التي اتخذ منها الإناء : ليست حراما . ولهذا لم يحرم الحلي على المرأة . انتهى . قال : وهو من متقدمي أصحابنا ، وهو أتقنهم لنقل نصوص الشافعي . ولأن [ ص: 528 ] الشافعي رجع عن هذا القديم . والصحيح عند أصحابنا ، وغيرهم من الأصوليين : أن المجتهد إذا قال قولا ، ثم رجع عنه : لا يبقى قولا له ينسب إليه . قالوا : وإنما يذكر القديم وينسب إلى الشافعي مجازا . وباسم ما كان عليه ، لا أنه قول له الآن . فحصل مما ذكرناه : أن الإجماع منعقد على تحريم استعمال إناء الذهب ، وإناء الفضة : في الأكل والشرب ، والطهارة ، والأكل بملعقة من أحدهما ، والتجمير بمجمرة منهما . والبول في الإناء منهما . وجميع وجوه الاستعمال . ومنها : المكحلة . والميل. وظرف الغالية . وغير ذلك . سواء الإناء الصغير والكبير . ويستوي في التحريم : الرجل والمرأة ، بلا خلاف . انتهى .

وأقول : إن داود الظاهري ؛ لم يبلغه حديث الأكل . وإنما بلغه حديث الشرب . فلو بلغه ذلك الحديث ، لقال به . ومن قال بشيء فيما لم يبلغه حديث فيه ، لا مطعن عليه ولا مغمز فيه . وهو أجل من أن يبلغه حديث في باب ، ولا يقول به . وقد كان جبلا من جبال العلم ، ومجتهدا كبيرا . فلا معنى لعدم الاعتداد به في الإجماع. وإنما حمل الناس على إنكاره حماية المذهب ، والغيظ عليه على ترك القياس في الدين . وأي شيء القياس وحتى يترك تاركه ويطعن عليه مع تمسكه بظاهر السنة ؛ في كل الأمور ، وجميع الأحوال ؟

[ ص: 529 ] ثم قال النووي : وإنما فرق بين الرجل والمرأة في التحلي : لما يقصد منها من التزين للزوج والسيد .

قال أصحابنا : ويحرم استعمال ماء الورد ، والأدهان : من قارورة الذهب والفضة . قالوا : فإن ابتلي بطعام في إناء ذهب أو فضة : فليخرج الطعام إلى إناء آخر من غيرهما ، ويأكل منه . فإن لم يكن إناء آخر ؛ فليجعله على رغيف إن أمكن . وإن ابتلي بالدهن في قارورة فضة : فليصبه في يده اليسرى ، ثم يصبه من اليسرى في اليمنى ، ويستعمله .

قال أصحابنا : ويحرم تزيين الحوانيت ، والبيوت ، والمجالس : بأواني الفضة والذهب . هذا هو الصواب . وجوزه بعض أصحابنا . قالوا : وهو غلط .

قال الشافعي والأصحاب : لو توضأ ، أو اغتسل : من إناء ذهب أو فضة : عصى بالفعل ، وصح وضوءه وغسله . هذا مذهبنا . وبه قال مالك ، وأبو حنيفة ، والعلماء كافة ، إلا داود فقال : لا يصح . والصواب : الصحة . وكذا لو أكل منه أو شرب : عصى بالفعل . ولا يكون المأكول والمشروب حراما . هذا كله في حال الاختيار . أما إذا اضطر إلى استعمال إناء ، فلم يجد إلا ذهبا أو فضة : فله استعماله في حال الضرورة ؛ بلا خلاف . صرح به أصحابنا . قالوا : كما تباح الميتة في حال الضرورة .

[ ص: 530 ] قال أصحابنا : ولو باع هذا الإناء ، صح بيعه . لأنه عين طاهرة ، يمكن الانتفاع بها ، بأن تسبك .

وأما اتخاذ هذه الأواني من غير استعمال : فللشافعي والأصحاب فيه خلاف ؛ والأصح : تحريمه . والثاني : كراهته . فإن كرهناه : استحق صانعه الأجرة . ووجب على كاسره : أرش النقص . وإلا فلا .

وأما إناء الزجاج النفيس : فلا يحرم بالإجماع. وأما إناء الياقوت ، والزمرد ، والفيروزج ، ونحوها: فالأصح عند أصحابنا : جواز استعمالها . ومنهم : من حرمها . هذا تمام كلام النووي ؛ في هذا المقام . وليس عليه أثارة من علم . والمتبع للدليل : لا يحتاج إلى هذا التفصيل . وكل ما ذكره من التفريع ؛ هو من باب الخوض العميق ، والقياس الدقيق . والعارف بكيفية الاستدلال في عافية من هذا القيل والقال . ولهذا قال شارح المنتقى : لا شك أن أحاديث الباب : تدل على تحريم الأكل والشرب . وأما سائر الاستعمالات ، فلا . والقياس على الأكل والشرب ، قياس مع فارق . فإن علة النهي عن الأكل والشرب : هي التشبه بأهل الجنة ، حيث يطاف عليهم بآنية من فضة . وذلك مناط معتبر [ ص: 531 ] للشارع ، كما ثبت عنه ، لما رأى رجلا متختما بخاتم من ذهب ، فقال : " ما لي أرى عليك حلية أهل الجنة ؟" أخرجه الثلاثة ، من حديث " بريدة ". وكذلك في الحرير وغيره . وإلا ، لزم تحريم التحلي بالحلي ، والافتراش للحرير . لأن ذلك استعمال . وقد جوزه البعض من القائلين بتحريم الاستعمال .

وأما حكاية النووي للإجماع على تحريم الاستعمال : فلا تتم مع مخالفة داود ، والشافعي ، وبعض أصحابه . وقد اقتصر صاحب البحر الزخار ، على نسبة ذلك إلى أكثر الأمة . على أنه لا يخفى على المنصف ما في حجية الإجماع من النزاع والإشكالات ، التي لا مخلص عنها .

والحاصل : أن الأصل : " الحل " . فلا تثبت الحرمة إلا بدليل يسلمه الخصم . ولا دليل في المقام بهذه الصفة . فالوقوف على ذلك الأصل المعتضد بالبراءة الأصلية ، هو وظيفة المنصف ، الذي لم يخبط بسوط هيبة الجمهور . ولا سيما وقد أيد هذا الأصل حديث : " ولكن عليكم بالفضة ، فالعبوا بها لعبا " . أخرجه أحمد ، وأبو داود . ويشهد له حديث : أن أم سلمة جاءت بجلجل من فضة ، فيه شعر من شعر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فخضخضت ". الحديث في البخاري .

[ ص: 532 ] وقد قيل : إن العلة في التحريم : الخيلاء . أو كسر قلوب الفقراء .

ويرد عليه : جواز استعمال الأواني من الجواهر النفيسة . وغالبها أنفس وأكثر قيمة من الذهب والفضة . ولم يمنعها إلا من شذ . وقد نقل ابن الصباغ في الشامل : الإجماع على الجواز . وتبعه الرافعي ومن بعده .

وقيل : العلة : التشبه بالأعاجم . وفي ذلك نظر ، لثبوت الوعيد لفاعله . ومجرد التشبه لا يصل إلى ذلك . انتهى كلامه " رحمه الله تعالى " ، وما أبلغه وأخصره وأحقه بالقبول [ ص: 533 ] وأقول : لا حاجة بنا إلى إبداء العلل ، في أحكام الشارع . بل الذي علينا تسليمها؛ نعلم عللها أم لا نعلم . والقصر على الموارد في أمثال هذه المواضع ، هو الذي درج عليه سلف هذه الأمة وأئمتها . ولا شك أن الشارع كان يعلم : أن أواني الذهب والفضة تستعمل في غير الأكل والشرب . ولكن لم ينه إلا عن الأكل والشرب خاصة . فعلمنا : أن هذا الحكم مقصور على ذلك فقط ، ولا يتعدى إلى غيرهما من الاستعمالات الأخرى . ومن شيمة النووي ( رحمه الله) : حكايات الإجماعات ، على غالب المسائل والأحكام . وهي في الحقيقة : حديث خرافة . والبحث في ذلك يطول جدا . انظر كتاب " إرشاد الفحول ، إلى تحقيق الحق من علم الأصول " : يتضح عليك مسألة الإجماع، وما قيل فيها ، وما هو الحق في هذا المقام . ولا تغتر بقول الفقهاء الحكاة للإجماعات ، فهو من جنس ترهات البسابس. وقد صان الله سبحانه وتعالى أوائل هذه الأمة عن مثل هذه التفريعات ، والاستدلال بنحو تلك الإجماعات والقياسات ؛ التي ليست على أساس من الدين المبين . والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية