السراج الوهاج من كشف مطالب صحيح مسلم بن الحجاج

صديق خان - محمد صديق حسن خان القنوجي الظاهري

صفحة جزء
3799 باب: السؤال عن نعيم الأكل والشرب

وقال النووي : (باب جواز استتباعه غيره ؛ إلى دار من يثق برضاه بذلك ، ويتحققه تحققا تاما . واستحباب الاجتماع على الطعام) .

حديث الباب

وهو بصحيح مسلم \ النووي ص 210 : 214 ج 13 المطبعة المصرية

[عن أبي هريرة، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذات يوم أو ليلة، فإذا هو بأبي بكر وعمر. فقال "ما أخرجكما من بيوتكما هذه الساعة؟" قالا: الجوع. يا رسول الله! قال: "وأنا. والذي نفسي بيده! لأخرجني الذي أخرجكما. قوموا". فقاموا معه. فأتى رجلا من الأنصار، فإذا هو ليس في بيته. فلما رأته المرأة قالت: مرحبا! وأهلا! فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم! أين فلان؟" قالت: ذهب يستعذب لنا من [ ص: 568 ] الماء. إذ جاء الأنصاري، فنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصاحبيه، ثم قال: الحمد لله. ما أحد اليوم أكرم أضيافا مني . قال: فانطلق فجاءهم بعذق فيه بسر وتمر ورطب. فقال: كلوا من هذه. وأخذ المدية. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إياك! والحلوب" فذبح لهم. فأكلوا من الشاة، ومن ذلك العذق. وشربوا. فلما أن شبعوا ورووا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر: "والذي نفسي بيده! لتسألن عن هذا النعيم، يوم القيامة. أخرجكم من بيوتكم الجوع. ثم لم ترجعوا حتى أصابكم هذا النعيم" ].


(الشرح)

( عن أبي هريرة) رضي الله عنه ؛ ( قال : خرج رسول الله صلى الله عليه) وآله ( وسلم ، ذات يوم أو ليلة ، فإذا هو بأبي بكر وعمر) رضي الله عنهما . ( فقال : " ما أخرجكما من بيوتكما هذه الساعة ؟ " قالا : الجوع. يا رسول الله ! قال : وأنا . والذي نفسي بيده ! لأخرجني الذي أخرجكما) .

فيه : ما كان عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وكبار الصحابة ؛ من التقلل من الدنيا . وما ابتلوا به من الجوع وضيق العيش ؛ في أوقات . وقد زعم بعض الناس : أن هذا ، كان قبل فتح الفتوح والقرى عليهم . قال النووي : وهذا زعم باطل . فإن راوي الحديث " أبو هريرة " ، ومعلوم : أنه أسلم بعد فتح خيبر . فإن قيل : لا يلزم من كونه رواه ؛ أن يكون أدرك [ ص: 569 ] القضية . فلعله سمعها من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، أو من غيره . فالجواب : أن هذا خلاف الظاهر . ولا ضرورة إليه . بل الصواب خلافه . وأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، لم يزل يتقلب في اليسار والقلة ، حتى توفي . فتارة يوسر ، وتارة ينفد ما عنده . كما ثبت في الصحيح : " عن أبي هريرة ، خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، من الدنيا ، ولم يشبع من خبز الشعير". و"عن عائشة رضي الله عنها ، ما شبع آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، منذ قدم المدينة من طعام ؛ ثلاث ليال تباعا ، حتى قبض . وتوفي ودرعه مرهونة على شعير استدانه لأهله " . وغير ذلك مما هو معروف . فكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم : في وقت يوسر . ثم بعد قليل ينفد ما عنده ؛ لإخراجه في طاعة الله : من وجوه البر ، وإيثار المحتاجين ، وضيافة الطارقين ، وتجهيز السرايا ، وغير ذلك . وهكذا كان خلق صاحبيه " رضي الله عنهما " ، بل أكثر أصحابه . وكان أهل اليسار من المهاجرين والأنصار : مع برهم له صلى الله عليه وآله وسلم، وإكرامهم إياه ، وإتحافه بالطرف وغيرها ؛ ربما لم يعرفوا حاجته في بعض الأحيان ، لكونهم لا يعرفون فراغ ما كان عنده من القوت ، بإيثاره به . ومن علم ذلك منهم ؛ ربما كان ضيق الحال في ذلك الوقت . كما جرى لصاحبيه .

[ ص: 570 ] ولا يعلم أحد من الصحابة رضي الله عنهم " ، حاجة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وهو متمكن من إزالتها : إلا بادر إلى إزالتها . لكن كان صلى الله عليه وآله وسلم ، يكتمها عنهم ؛ إيثارا لتحمل المشاق ، وحملا عنهم . وقد بادر أبو طلحة " حين قال : سمعت صوت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، أعرف فيه الجوع": إلى إزالة تلك الحالة . وكذا حديث جابر . وكذا حديث أبي شعيب : "أنه عرف في وجهه صلى الله عليه وآله وسلم : الجوع، فبادر بصنيع الطعام ". وأشباه هذا كثيرة في الصحيح ، مشهورة . وكذلك كانوا يؤثرون ، بعضهم بعضا . ولا يعلم أحد منهم ضرورة صاحبه ؛ إلا سعى في إزالتها . وقد وصفهم الله سبحانه بذلك ؛ فقال في كتابه العزيز : ( ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ) . وقال : ( رحماء بينهم ) .

وأما قولهما : أخرجنا الجوع . وقوله صلى الله عليه وآله وسلم : أخرجني الذي أخرجكما ؛ فمعناه : أنهما لما كانا عليه : من مراقبة الله تعالى ، ولزوم طاعته ، والاشتغال به ؛ فعرض لهما هذا الجوع [ ص: 571 ] الذي يزعجهما ويقلقهما ، ويمنعهما من كمال النشاط للعبادة ، وتمام التلذذ بها ؛ سعيا في إزالته بالخروج في طلب سبب مباح يدفعانه به . وهذا من أكمل الطاعات ، وأبلغ أنواع المراقبات . وقد نهى عن الصلاة مع : مدافعة الأخبثين ، وبحضرة طعام تتوق النفس إليه ، وفي ثوب له أعلام ، وبحضرة المتحدثين . وغير ذلك مما يشغل قلبه . ونهى القاضي عن القضاء : في حال غضبه ، وجوعه ، وهمه ، وشدة فرحه ، وغير ذلك مما يشغل قلبه ويمنعه كمال الفكر . والله أعلم .

وفي الحديث : جواز ذكر الإنسان ما يناله من ألم ونحوه ، لا على سبيل التشكي وعدم الرضا ؛ بل للتسلية والتصبر ، كفعله صلى الله عليه وآله وسلم ، هنا . ولالتماس دعاء ، أو مساعدة على التسبب في إزالة ذلك العارض . فهذا كله ليس بمذموم . إنما يذم ما كان تشكيا وتسخطا وتجزعا.

وفيه : جواز الحلف من غير استحلاف .

( قوموا . فقاموا معه) . هكذا هو في الأصول ، بضمير الجمع . وهو جائز بلا خلاف . لكن الجمهور يقولون : إطلاقه على الاثنين مجاز . وآخرون يقولون : حقيقة .

[ ص: 572 ] ( فأتى رجلا من الأنصار) ، " هو أبو الهيثم : مالك بن التيهان " بفتح التاء وتشديد الياء .

وفيه : جواز الإدلال على الصاحب الذي يوثق به ، واستتباع جماعة إلى بيته .

وفيه : منقبة لأبي الهيثم ؛ إذ جعله النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، أهلا لذلك . وكفى به شرفا ذلك .

( فإذا هو ليس في بيته . فلما رأته المرأة قالت : مرحبا ! وأهلا !) كلمتان معروفتان للعرب . ومعناهما : صادفت رحبا وسعة ، وأهلا تأنس بهم .

وفيه : استحباب إكرام الضيف بهذا القول وشبهه ، وإظهار السرور بقدومه ، وجعله أهلا لذلك . كل هذا وشبهه : إكرام للضيف . وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم : "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ؛ فليكرم ضيفه .

وفيه : جواز سماع كلام الأجنبية ، ومراجعتها الكلام للحاجة . وجواز إذن المرأة في دخول منزل زوجها ؛ لمن علمت علما محققا أنه لا يكرهه . بحيث لا يخلو بها الخلوة المحرمة .

[ ص: 573 ] ( فقال لها رسول الله صلى الله عليه وآله ( وسلم : " أين فلان ؟ " قالت : ذهب يستعذب لنا من الماء) . أي : يأتينا بماء عذب . وهو الطيب .

وفيه : جواز استعذابه وتطييبه .

( إذ جاء الأنصاري ، فنظر إلى رسول الله صلى الله عليه) وآله ( وسلم ، وصاحبيه ، ثم قال : الحمد لله . ما أحد اليوم أكرم أضيافا مني) .

فيه : استحباب حمد الله ؛ عند حصول نعمة ظاهرة . وكذا يستحب ؛ عند اندفاع نقمة متوقعة . وفي غير ذلك من الأحوال . قال النووي : وقد جمعت في ذلك قطعة صالحة ؛ في كتاب الأذكار .

وفيه : استحباب إظهار البشر والفرح بالضيف " في وجهه "، وحمد الله تعالى " وهو يسمع " على حصول هذه النعمة ، والثناء على ضيفه : إن لم يخف عليه فتنة . فإن خاف لم يثن عليه في وجهه . وهذا طريق الجمع بين الأحاديث الواردة بجواز ذلك ومنعه . وقد جمعتها مع بسط الكلام فيها ؛ في كتاب " الأذكار " .

وفيه : دليل على كمال فضيلة هذا الأنصاري ، وبلاغته وعظيم [ ص: 574 ] معرفته ؛ لأنه أتى بكلام مختصر بديع في الحسن ؛ في هذا الموطن . رضي الله تعالى عنه .

( قال : فانطلق ، فجاءهم بعذق ، فيه بسر وتمر ورطب . فقال : كلوا من هذه) .

"العذق " هنا بكسر العين . وهي الكباسة . وهي الغصن من النخل .

وإنما أتى بهذا العذق الملون ؛ ليكون أطرف . وليجمعوا بين أكل الأنواع. فقد يطيب لبعضهم هذا . ولبعضهم هذا .

وفيه : دليل على استحباب تقديم الفاكهة ، على الخبز واللحم ، وغيرهما .

وفيه : استحباب المبادرة إلى الضيف بما تيسر ، وإكرامه بعده بطعام يصنعه له . لا سيما إن غلب على ظنه حاجته في الحال إلى الطعام . وقد يكون شديد الحاجة إلى التعجيل . وقد يشق عليه انتظار ما يصنع له لاستعجاله للانصراف .

[ ص: 575 ] وقد كره جماعة من السلف : التكلف للضيف . وهو محمول على ما يشق على صاحب البيت مشقة ظاهرة . لأن ذلك يمنعه من الإخلاص وكمال السرور بالضيف . وربما ظهر عليه شيء من ذلك فيتأذى به الضيف . وقد حضر شيئا يعرف الضيف من حاله أنه يشق عليه ، وأنه يتكلفه له ؛ فيتأذى الضيف لشفقته عليه. وكل هذا مخالف لقوله صلى الله عليه وآله وسلم : "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ؛ فليكرم ضيفه " . لأن أكمل إكرامه : إراحة خاطره ، وإظهار السرور به .

وأما فعل الأنصاري وذبحه الشاة كما يأتي في الحديث ؛ فليس مما يشق عليه . بل لو ذبح أغناما بل جمالا ، وأنفق أموالا : في ضيافة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وصاحبيه " رضي الله عنهما " : كان مسرورا بذلك ، مغبوطا فيه . والله أعلم . كذا قال النووي .

( وأخذ المدية . فقال له رسول الله صلى الله عليه) وآله ( وسلم :" إياك ! والحلوب ") .

" المدية " بضم الميم وكسرها : هي السكين . " والحلوب " : ذات اللبن . " فعول " بمعنى " مفعول " ؛ كركوب بمعنى "مركوب" ، ونظائره .

( فذبح لهم . فأكلوا من الشاة ، ومن ذلك العذق . وشربوا . فلما أن شبعوا ورووا ؛ قال رسول الله صلى الله عليه) وآله ( وسلم ، لأبي بكر [ ص: 576 ] وعمر) رضي الله عنهما : ( والذي نفسي بيده ! لتسألن على هذا النعيم ؛ يوم القيامة) .

فيه : دليل على جواز الشبع . وما جاء في كراهة الشبع ؛ فمحمول على المداومة عليه ، لأنه يقسي القلب وينسي أمر المحتاجين .

وأما السؤال عن هذا النعيم ؛ فقال عياض : المراد : السؤال عن القيام بحق شكره . قال النووي : والذي نعتقده : أن السؤال هنا ؛ سؤال تعداد النعم ، وإعلام بالامتنان بها ، وإظهار الكرامة بإسباغها . لا سؤال توبيخ وتقريع ومحاسبة . والله أعلم . انتهى .

قلت : وفي القرآن الكريم : ( ثم لتسألن يومئذ عن النعيم) . . ( أخرجكم من بيوتكم الجوع. ثم لم ترجعوا حتى أصابكم هذا النعيم) .

وفي رواية أخرى : "بينا أبو بكر قاعد ، وعمر معه : إذ أتاهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال : ما أقعدكما ههنا ؟ قالا : أخرجنا الجوع من بيوتنا . والذي بعثك بالحق ! " ثم ذكر الحديث بنحو ما تقدم .

وفيه : أن مع العسر يسرا . لأن الله تعالى أخرجهم جياعا ، وأرجعهم بطانا .

التالي السابق


الخدمات العلمية