السراج الوهاج من كشف مطالب صحيح مسلم بن الحجاج

صديق خان - محمد صديق حسن خان القنوجي الظاهري

صفحة جزء
4207 باب: قول النبي، صلى الله عليه وآله وسلم:

من رآني في المنام، فقد رآني

وهو في النووي في: (كتاب الرؤيا).

(حديث الباب)

وهو بصحيح مسلم \ النووي، ص25، 26 جـ15، المطبعة المصرية

[عن ابن شهاب، حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن، أن أبا هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: "من رآني في المنام، فسيراني في اليقظة -أو لكأنما رآني في اليقظة- لا يتمثل الشيطان بي".

وقال: فقال أبو سلمة: قال أبو قتادة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من رآني، فقد رأى الحق"].


(الشرح)

(عن أبي هريرة) رضي الله عنه: (قال: سمعت رسول الله، صلى الله عليه) وآله (وسلم; يقول: "من رآني في المنام، فسيراني في اليقظة" بفتح القاف. أي: سيراني يوم القيامة، رؤية خاصة، [ ص: 449 ] في القرب منه. أو من رآني في المنام، ولم يكن هاجر: يوفقه الله للهجرة إلي، والتشرف بلقائي. ويكون الله جعل رؤيته في المنام علما على رؤياه في اليقظة.

قال في المصابيح: وعلى الأول: ففيه بشارة لرائيه، بأنه يموت على الإسلام، وكفى بها بشارة؛ وذلك لأنه لا يراه في القيامة تلك الرؤية الخاصة، باعتبار القرب منه: إلا من تحققت منه الوفاة على الإسلام. حقق الله لنا، ولأحبابنا، وللمسلمين المتبعين ذلك بمنه وكرمه.

(أو لكأنما رآني في اليقظة. لا يتمثل الشيطان بي). قال العلماء: إن كان الواقع في نفس الأمر: "لكأنما رآني". فهو كقوله: "فقد رآني". أو "فقد رأى الحق".

وإن كان: "سيراني في اليقظة" ففيه أقوال، وسيأتي تفسيرها:

أحدها: المراد به: "أهل عصره".

الثاني: أنه يرى تصديق تلك الرؤيا في اليقظة، في الدار الآخرة.

الثالث: يراه في الآخرة، رؤية خاصة، في القرب منه، وحصول شفاعته، ونحو ذلك. والله أعلم. انتهى. وهذا موافق لما تقدم.

وعدم تمثل الشيطان به، صلى الله عليه وآله وسلم، كالتتميم للمعنى، والتعليل للحكم. أي: لا يحصل للشيطان مثال صورتي، ولا يتشبه بي، فكما منع الله الشيطان: أن يتصور بصورته الكريمة في [ ص: 450 ] اليقظة، كذلك منعه في المنام؛ لئلا يشتبه الحق بالباطل.

وفي رواية أخرى، بلفظ: "من رآني في النوم، فقد رآني. فإنه لا ينبغي للشيطان أن يتشبه بي". وفي لفظ: "أن يتمثل في صورتي".

(وقال: فقال أبو سلمة: قال أبو قتادة: قال رسول الله، صلى الله عليه) وآله (وسلم: "من رآني فقد رأى الحق".

قال النووي: اختلف العلماء في معنى قوله: "فقد رآني" فقال ابن الباقلاني: معناه: أن رؤياه صحيحة، ليست بأضغاث، ولا من تشبيهات الشيطان. ويؤيده قوله: "فقد رأى الحق". أي: الرؤية الصحيحة.

قال: وقد يراه الرائي، على خلاف صفته المعروفة، كمن رآه أبيض اللحية. وقد يراه شخصان في زمن واحد; أحدهما في المشرق، والآخر في المغرب. ويراه كل منهما: في مكانه.

قال المازري: وقال آخرون: بل الحديث على ظاهره. والمراد: من رآه فقد أدركه. ولا مانع يمنع من ذلك. والعقل لا يحيله، حتى يضطر إلى صرفه عن ظاهره. وأما أنه يرى على خلاف صفته، أو في [ ص: 451 ] مكانين معا، فإن ذلك غلط في صفاته، وتخيل لها على خلاف ما هي عليه. وقد يظن الظان بعض الخيالات: مرئيا؛ لكون ما يتخيل مرتبطا بما يرى في العادة. فيكون ذاته، صلى الله عليه وآله وسلم: مرئية، وصفاته متخيلة غير مرئية. والإدراك لا يشترط فيه: تحديق الأبصار، ولا قرب المسافة، ولا كون المرئي مدفونا في الأرض، ولا ظاهرا عليها. وإنما يشترط: كونه موجودا. ولم يقم دليل على فناء جسمه، صلى الله عليه وآله وسلم. بل جاء في الحديث: ما يقتضي بقاءه.

قال : ولو رآه يأمر بقتل من يحرم قتله، كان هذا من الصفات المتخيلة، لا المرئية. انتهى.

قال عياض: ويحتمل: أن يكون قوله: "فقد رآني"، أو "فقد رأى الحق": المراد به; إذا رآه على صفته المعروفة له في حياته. فإن رآه على خلافها كانت رؤيا تأويل، لا رؤيا حقيقة. قال النووي: وهذا ضعيف. بل الصحيح: أنه يراه حقيقة، سواء كان على صفته المعروفة، أو غيرها؛ لما ذكره المازري. قال عياض: قال بعض العلماء: خص الله تعالى النبي، صلى الله عليه وآله وسلم: بأن رؤية الناس إياه: صحيحة، وكلها صدق، ومنع الشيطان أن يتصور في خلقته؛ لئلا يكذب على لسانه في النوم. كما خرق الله تعالى العادة للأنبياء، عليهم السلام، بالمعجزة. وكما استحال: أن يتصور [ ص: 452 ] الشيطان في صورته في اليقظة. ولو وقع; لاشتبه الحق بالباطل، ولم يوثق بما جاء به؛ مخافة من هذا التصور. فحماها الله تعالى من الشيطان، ونزغه، ووسوسته، وإلقائه كيدا. قال : وكذا حمى رؤيتهم أنفسهم.

قال عياض: واتفق العلماء على جواز رؤية الله تعالى في المنام. وصحتها. (وإن رآه الإنسان على صفة لا تليق بحاله، من صفات الأجسام) لأن ذلك المرئي غير ذات الله تعالى؛ إذ لا يجوز عليه سبحانه: التجسم، ولا اختلاف الأحوال. بخلاف رؤية النبي، صلى الله عليه وآله وسلم.

قال ابن الباقلاني: رؤية الله في المنام: خواطر في القلب. وهي دلالات للرائي، على أمور مما كان أو يكون، كسائر المرئيات، والله أعلم. انتهى.

قلت: رؤية الله تعالى على صورة: لا تستلزم التجسيم. وقد ورد في الحديث: "رأيت ربي في أحسن صورة". وإنما يراه الإنسان، وهو نور. وقد رآه الإمام أحمد بن حنبل "رضي الله عنه": مرات كثيرة، في المنام. وسأل، وأجيب. وإنما الاستحالة في رؤيته [ ص: 453 ] سبحانه: في اليقظة، في الدنيا. ومن ادعاها: فقد كفر، وتزندق.

قال ابن العربي: رؤيته، صلى الله عليه وآله وسلم، بصفته المعلومة: إدراك على الحقيقة. ورؤيته على غيرها: إدراك للمثال. فإن الصواب: أن الأنبياء -عليهم السلام- لا تغيرهم الأرض. ويكون إدراك الذات الكريمة حقيقة. وإدراك الصفات إدراك المثال.

قال : وشذ بعض الصالحين، فزعم: أنها تقع بعيني الرأس حقيقة، في اليقظة. انتهى.

قال القسطلاني: وقد ذكرت مباحث ذلك في كتابي: "المواهب اللدنية بالمنح المحمدية". وقد نقل عن جماعة من الصوفية: أنهم رأوه، صلى الله عليه وآله وسلم، في المنام. ثم رأوه بعد ذلك، في اليقظة. وسألوه عن أشياء، كانوا منها متخوفين، فأرشدهم إلى طريق تفريجها. فجاء الأمر كذلك. وفيه بحث، ذكرته في: "المواهب".

قال : ومن فوائد رؤيته، صلى الله عليه وآله وسلم: تسكين تشوق الرائي؛ لكونه صادقا في محبته؛ ليعمل على مشاهدته.

التالي السابق


الخدمات العلمية