السراج الوهاج من كشف مطالب صحيح مسلم بن الحجاج

صديق خان - محمد صديق حسن خان القنوجي الظاهري

صفحة جزء
3831 باب: في بركة النبي صل الله عليه وآله وسلم في اللبن

وقال النووي في الجزء الرابع: (باب إكرام الضيف، وفضل إيثاره).

(حديث الباب)

وهو بصحيح مسلم \ النووي، ص 13 - 16 جـ 14، المطبعة المصرية

[عن المقداد، قال: أقبلت أنا وصاحبان لي، وقد ذهبت أسماعنا وأبصارنا من الجهد، فجعلنا نعرض أنفسنا على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فليس أحد منهم يقبلنا، فأتينا النبي صلى الله عليه وسلم فانطلق [ ص: 528 ] بنا إلى أهله، فإذا ثلاثة أعنز، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "احتلبوا هذا اللبن بيننا"، قال: فكنا نحتلب فيشرب كل إنسان منا نصيبه، ونرفع للنبي صلى الله عليه وسلم نصيبه، قال: فيجيء من الليل فيسلم تسليما لا يوقظ نائما، ويسمع اليقظان، قال: ثم يأتي المسجد فيصلي، ثم يأتي شرابه فيشرب، فأتاني الشيطان ذات ليلة وقد شربت نصيبي، فقال: محمد يأتي الأنصار فيتحفونه، ويصيب عندهم ما به حاجة إلى هذه الجرعة، فأتيتها فشربتها، فلما أن وغلت في بطني، وعلمت أنه ليس إليها سبيل، قال: ندمني الشيطان، فقال: ويحك، ما صنعت أشربت شراب محمد، فيجيء فلا يجده فيدعو عليك فتهلك فتذهب دنياك وآخرتك، وعلي شملة إذا وضعتها على قدمي خرج رأسي، وإذا وضعتها على رأسي خرج قدماي، وجعل لا يجيئني النوم، وأما صاحباي فناما ولم يصنعا ما صنعت، قال: فجاء النبي صلى الله عليه وسلم، فسلم كما كان يسلم، ثم أتى المسجد فصلى، ثم أتى شرابه فكشف عنه، فلم يجد فيه شيئا، فرفع رأسه إلى السماء، فقلت: الآن يدعو علي فأهلك، فقال: "اللهم، أطعم من أطعمني، وأسق من أسقاني"، قال: فعمدت إلى الشملة فشددتها علي، وأخذت الشفرة فانطلقت إلى الأعنز أيها أسمن، فأذبحها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هي حافلة، وإذا هن حفل كلهن، فعمدت إلى إناء لآل محمد صلى الله عليه وسلم ما كانوا يطمعون أن يحتلبوا فيه، قال: فحلبت فيه حتى علته رغوة، فجئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "أشربتم شرابكم الليلة"، قال: قلت: يا رسول الله، اشرب، فشرب، ثم ناولني، فقلت: [ ص: 529 ] يا رسول الله، اشرب، فشرب، ثم ناولني، فلما عرفت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد روي وأصبت دعوته، ضحكت حتى ألقيت إلى الأرض، قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إحدى سوآتك يا مقداد"، فقلت: يا رسول الله، كان من أمري كذا وكذا وفعلت كذا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما هذه إلا رحمة من الله، أفلا كنت آذنتني فنوقظ صاحبينا فيصيبان منها"، قال: فقلت: والذي بعثك بالحق، ما أبالي إذا أصبتها وأصبتها معك من أصابها من الناس.


(الشرح)

(عن المقداد) رضي الله عنه (قال: أقبلت أنا وصاحبان لي. وقد ذهبت أسماعنا وأبصارنا من الجهد) بفتح الجيم، هو الجوع والمشقة. (قال: فجعلنا نعرض أنفسنا، على أصحاب رسول الله صلى الله عليه) وآله (وسلم، فليس أحد منهم يقبلنا) هذا محمول على أن الذين عرضوا أنفسهم عليهم، كانوا مقلين، ليس عندهم شيء يواسون به.

(فأتينا النبي صلى الله عليه) وآله (وسلم، فانطلق بنا إلى أهله، فإذا ثلاثة أعنز. فقال النبي، صلى الله عليه) وآله (وسلم: احتلبوا هذا اللبن بيننا، قال: فكنا نحتلب، فيشرب كل إنسان منا نصيبه. ونرفع للنبي صلى الله عليه) وآله (وسلم: نصيبه. قال: [ ص: 530 ] فيجيء من الليل، فيسلم تسليما لا يوقظ نائما، ويسمع اليقظان) هذا فيه: آداب السلام على الأيقاظ في موضع فيه نيام أو من في معناهم، وأنه يكون سلاما متوسطا بين الرفع والمخافتة، بحيث يسمع الأيقاظ، ولا يهوش على غيرهم.

(قال: ثم يأتي المسجد، فيصلي، ثم يأتي شرابه، فيشرب. فأتاني الشيطان ذات ليلة، وقد شربت نصيبي. فقال: محمد) صلى الله عليه وآله وسلم: (يأتي الأنصار فيتحفونه، ويصيب عندهم. وما به حاجة إلى هذه الجرعة) بضم الجيم وفتحها. حكاهما ابن السكيت وغيره. وهي الحثوة من المشروب. والفعل منه: "جرعت" بفتح الجيم، وكسر الراء.

(فأتيتها فشربتها، فلما أن وغلت في بطني) بفتح المعجمة، أي: دخلت وتمكنت منه. (وعلمت أنه ليس إليها سبيل، قال: ندمني الشيطان، فقال: ويحك! ما صنعت؟ أشربت شراب محمد؟) صلى الله عليه وآله وسلم (فيجيء فلا يجده، فيدعو عليك فتهلك، فتذهب دنياك وآخرتك. وعلي شملة، إذا وضعتها على قدمي خرج رأسي، وإذا وضعتها على رأسي خرج قدماي. وجعل لا يجيئني النوم. وأما صاحباي فناما، ولم يصنعا ما صنعت. قال: فجاء النبي صلى الله عليه) وآله (وسلم، فسلم كما كان يسلم. ثم أتى المسجد فصلى، ثم أتى شرابه فكشف عنه، فلم يجد فيه شيئا، [ ص: 531 ] فرفع رأسه إلى السماء. فقلت: الآن يدعو علي، فأهلك. فقال: اللهم! أطعم من أطعمني، وأسق من سقاني).

فيه: الدعاء للمحسن والخادم، ولمن سيفعل خيرا.

وفيه: ما كان عليه النبي، صلى الله عليه وآله وسلم: من الحلم، والأخلاق المرضية، والمحاسن الرضية، وكرم النفس، والصبر، والإغضاء عن حقوقه؛ فإنه صلى الله عليه وآله وسلم، لم يسأل عن نصيبه من اللبن.

(قال: فعمدت إلى الشملة، فشددتها علي، وأخذت الشفرة، فانطلقت إلى الأعنز: أيها أسمن، فأذبحها لرسول الله صلى الله عليه) وآله (وسلم، فإذا هي حافلة، وإذا هن حفل كلهن) هذه من معجزات النبوة وآثار بركته، صلى الله عليه وآله وسلم. وأقول: يا بركة النبي! تعالي، وانزلي فيما أعطاني الله، ولا ترتحلي. وما ذلك على الله بعزيز.

(فعمدت إلى إناء لآل محمد، صلى الله عليه) وآله (وسلم، ما كانوا يطمعون أن يحتلبوا فيه، قال: فحلبت فيه، حتى علته رغوة): هي زبد اللبن الذي يعلوه. وهي بفتح الراء وضمها وكسرها، ثلاث لغات مشهورات. "ورغاوة": بكسر الراء، وحكي ضمها.

[ ص: 532 ] "ورغاية" بالضم، وحكي الكسر. "وارتغيت": شربت الرغوة.

(فجئت إلى رسول الله صلى الله عليه) وآله (وسلم، فقال: "أشربتم شرابكم الليلة؟". قال: قلت: يا رسول الله! اشرب. فشرب، ثم ناولني. فقلت: يا رسول الله! اشرب. فشرب، ثم ناولني. فلما عرفت أن النبي صلى الله عليه) وآله (وسلم قد روي، وأصبت دعوته ضحكت، حتى ألقيت إلى الأرض). ووجه الضحك أنه كان عنده حزن شديد؛ خوفا من أن يدعو عليه النبي، صلى الله عليه وآله وسلم؛ لكونه أذهب نصيب النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، وتعرض لأذاه، فلما علم أن النبي، صلى الله عليه وآله وسلم قد روي، وأجيبت دعوته: فرح، وضحك حتى سقط إلى الأرض، من كثرة ضحكه؛ لذهاب ما كان به من الحزن، وانقلابه سرورا، بشرب النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، وإجابة دعوته لمن أطعمه وسقاه، وجريان ذلك على يد المقداد، وظهور هذه المعجزة، ولتعجبه من قبح فعله أولا، وحسنه آخرا؛ ولهذا (قال: فقال النبي، صلى الله عليه) وآله (وسلم: "إحدى سوآتك يا مقداد!" أي: إنك فعلت سوأة من الفعلات، ما هي؟ (فقلت: يا رسول الله! كان من أمري كذا وكذا، وفعلت كذا وكذا. فقال النبي صلى الله عليه) وآله (وسلم: "ما هذه إلا رحمة من الله، عز وجل") أي: إحداث هذا اللبن في غير وقته، وخلاف عادته. وإن كان [ ص: 533 ] الجميع من فضل الله تعالى.

(أفلا كنت آذنتني، فنوقظ صاحبينا، فيصيبان منها؟ قال: فقلت: والذي بعثك بالحق! ما أبالي إذا أصبتها) بالفتح (وأصبتها) بالضم (معك من أصابها من الناس).

وهذا الحديث: ظاهر في بركته، صلى الله عليه وآله وسلم، في اللبن.

وفيه دلالة على إكرام الضيف، وفضل الإيثار.

التالي السابق


الخدمات العلمية