السراج الوهاج من كشف مطالب صحيح مسلم بن الحجاج

صديق خان - محمد صديق حسن خان القنوجي الظاهري

صفحة جزء
4390 باب قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن أمن الناس علي في ماله وصحبته، أبو بكر)

وهو في النووي ، في (باب فضائل أبي بكر ، رضي الله عنه) .

(حديث الباب)

وهو بصحيح مسلم النووي ، ص 150 ، 151 ج 15، المطبعة المصرية

(عن أبي سعيد، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: جلس على المنبر، فقال: "عبد خيره الله، بين أن يؤتيه: زهرة الدنيا وبين ما عنده" . فاختار ما عنده فبكى أبو بكر، وبكى، فقال: فديناك بآبائنا، وأمهاتنا قال: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هو المخير) ، وكان أبو بكر: أعلمنا به. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أمن الناس علي، في ماله، وصحبته: أبو بكر. ولو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ولكن أخوة الإسلام. لا تبقين في المسجد خوخة إلا خوخة أبي بكر ") .


[ ص: 265 ] (الشرح)

(عن أبي سعيد الخدري ، رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : جلس على المنبر ، فقال : عبد خيره الله بين أن يؤتيه : زهرة الدنيا) المراد بها : نعيم الدنيا ، وأعراضها ، وحدودها . شبهها بزهر الروض.

(وبين ما عنده ، فاختار ما عنده) عز وجل ، في الآخرة .

وإنما قال : "عبد" وأبهمه : ليظهر فهم أهل المعرفة ، ونباهة أصحاب الحق .

(فبكى أبو بكر ، رضي الله عنه ثم بكى) . هكذا هو في جميع النسخ . ومعناه : "بكى كثيرا، ثم بكى" . (وقال: فديناك بآبائنا ، وأمهاتنا) .

فيه : دليل لجواز التفدية . وقد سبق بيانه مرات .

(قال : فكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : هو المخير) : بفتح الياء المشددة . (وكان أبو بكر أعلمنا به) أي : بالمراد من الكلام المذكور ؛ فبكى حزنا على فراقه ، وانقطاع الوحي "وغيره من الخير" : دائما .

[ ص: 266 ] (وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن أمن الناس علي) بفتح الهمزة والميم ، وتشديد النون : أفعل تفضيل من "المن" : بمعنى العطاء ، والبذل . أي : إن من أبذل الناس لنفسه (في ماله ، وصحبته : أبو بكر) .

قال النووي : قال العلماء : معناه : "أكثرهم جودا وسماحة لنا ، بنفسه ، وماله" . وليس هو من "المن" الذي هو الاعتداد بالصنيعة ، لأنه "أذى" مبطل للثواب . ولأن المنة لله ولرسوله : في قبول ذلك ، وفي غيره . انتهى.

وفي حديث "ابن عباس" عند الطبراني ، رفعه : "ما أحد أعظم عندي يدا : من أبي بكر ؛ واساني بنفسه ، وماله ، وأنكحني ابنته" .

وفي حديث "مالك بن دينار" عند ابن عساكر ، عن أنس ؛ رفعه : "إن أعظم الناس علينا منا : أبو بكر ؛ زوجني ابنته ، وواساني بنفسه . وإن خير المسلمين مالا : أبو بكر ؛ أعتق منه بلالا ، وحملني إلى دار الهجرة" .

وعند "ابن حبان" عن عائشة قالت : "أنفق أبو بكر على النبي صلى الله عليه وآله وسلم : أربعين ألف درهم" .

[ ص: 267 ] (ولو كنت متخذا خليلا) من الناس ، غير ربي : (لاتخذت) منهم : (أبا بكر خليلا) ، لأنه أهل لذلك ، لولا المانع . فإن خلة الرحمن : لا تسع مخالة شيء غيره ، أصلا .

قال عياض : قيل : "أصل الخلة" : الافتقار ، والانقطاع .

"فخليل الله" : المنقطع إليه .

وقيل : لقصره حاجته على الله تعالى.

وقيل : "الخلة" : الاختصاص .

وقيل : الاصطفاء .

وسمي "إبراهيم عليه السلام" : خليلا ، لأنه والى في الله تعالى ، وعادى فيه .

وقيل : "سمي به" : لأنه تخلق بخلال حسنة وأخلاق كريمة .

"وخلة الله تعالى له" : نصره ، وجعله إماما لمن بعده .

وقال ابن فورك : "الخلة" : صفاء المودة ، بتخلل الأسرار . وقيل : أصلها المحبة. ومعناه : الإسعاف ، والإلطاف .

وقيل "الخليل" من لا يتسع قلبه ، لغير خليله.

قلت : ولا مانع من إرادة الجميع . ومعنى الحديث : أن حب الله تعالى ، لم يبق في قلبه موضعا لغيره .


أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى فصادف قلبا خاليا فتمكنا

.

[ ص: 268 ] قال عياض : وجاء في أحاديث ؛ أنه صلى الله عليه وآله وسلم ؛ قال : "ألا ، وأنا حبيب الله" . فاختلف المتكلمون ؛ هل المحبة أرفع من المملة ؟ أم الخلة أرفع ؟ أم هما سواء ؟

فقالت طائفة : هما بمعنى ؛ فلا يكون الحبيب ، إلا خليلا ، ولا يكون الخليل ، إلا حبيبا .

وقيل : الحبيب أرفع ، لأنها صفة نبينا صلى الله عليه وآله وسلم .

وقيل : الخليل أرفع . وقد ثبتت خلة نبينا "صلى الله عليه وآله وسلم" الله تعالى : بهذا الحديث . ونفى أن يكون له خليل ، غيره . وأثبت محبته : لخديجة ، وعائشة وأبيها ، وأسامة وأبيه ، وفاطمة وابنيها ، وغيرهم .

"هو ومحبة الله تعالى لعبده" : تمكينه من طاعته ، وعصمته ، وتوفيقه ، وتيسير ألطافه، وهدايته ، وإفاضة رحمته عليه . هذه مباديها . وأما غاياتها : فكشف الحجب عن قلبه ، حتى يراه ببصيرته ، فيكون كما قال في الحديث الصحيح : "فإذا أحبه : كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به" هذا آخر كلام عياض.

[ ص: 269 ] وأما قول "أبي هريرة" رضي الله عنه : "سمعت خليلي صلى الله عليه وآله وسلم" : فلا يخالف هذا ؛ لأن الصحابي : يحسن في حقه الانقطاع إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم . (ولكن أخوة الإسلام) ، ومودته : حاصلة .

وفي رواية : "ولكن أخي وصاحبي" أي : في الغار . "وقد اتخذ الله صاحبكم خليلا ، ولكن أخوة الإسلام أفضل" .

وكذا عند الطبراني ، لكن بلفظ : "ولكن أخوة الإيمان ، والإسلام : أفضل" . فنفى الخلة المنبئة عن الحاجة ، وأثبت "الإخاء" المقتضي للمواساة . قاله البيضاوي .

قال (في الفتح) : واستشكل بأن الخلة : أفضل من أخوة الإسلام ؛ فإنها تستلزم الأخوة وزيادة . وأجيب : بأن المراد : أن مودة الإسلام مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم : أفضل من مودته مع غيره .

وقيل : أفضل بمعنى "فاضل" . .

[ ص: 270 ] قال : ولا يعكر على هذا : اشتراك جميع الصحابة ، في هذه الفضيلة ؛ فإن رجحان "أبي بكر" : عرف من غير ذلك ، وأخوة الإسلام ومودته : متفاوتة بين المسلمين : في نصر الدين وإعلاء كلمة الحق ، وتحصيل كثرة الثواب . ولأبي بكر من ذلك : أكثره ، وأعظمه .

(لا تبقين في المسجد) : بنون التأكيد المشددة ، (خوخة ، إلا خوخة أبي بكر) : استثناء مفرغ.

والمعنى : لا تبقوا بابا غير مسدود ، إلا باب أبي بكر : فاتركوه بغير سد .

[ ص: 271 ] قال النووي : "الخوخة" بفتح الخاء : هي الباب الصغير بين البيتين أو الدارين ، ونحوه .

وفيه : فضيلة ، وخصيصة ظاهرة ، لأبي بكر .

وفيه : أن المساجد تصان عن تطرق الناس إليها، في خوخات ونحوها ، إلا من أبوابها ، إلا لحاجة مهمة . انتهى.

قيل : وفيه تعريض "بالخلافة له" إن أريد به الحقيقة . لأن أصحاب المنازل اللاصقة بالمسجد ، كان لهم : الاستطراق منها إلى المسجد ، فأمر بسدها ، سوى خوخة أبي بكر ، تنبيها للناس على الخلافة . لأنه يخرج منها إلى المسجد للصلاة.

وإن أريد به المجاز : فالباب كناية عن الخلافة . والأمر بالسد : كناية عن نفي طلبها ، والتطلع إليها . كأنه قال: لا يطلبن أحد الخلافة إلا "أبا بكر" .

قال التوربشتي : وأرى المجاز أقوى ؛ إذ لم يصح عندنا : أن أبا بكر كان له منزل ، بجنب المسجد. وإنما كان منزله بالسنح ، من عوالي المدينة . انتهى .

وتعقبه (في الفتح) بأنه استدلال ضعيف ، لأنه لا يلزم من كون منزله ، كان بالسنح : أن لا يكون له دار مجاورة للمسجد . ومنزله "الذي كان [ ص: 272 ] بالسنح : هو منزل أصهاره ، من الأنصار . وقد كان له إذ ذاك : زوجة أخرى . وهي "أسماء بنت عميس" : بالاتفاق . وقد ذكر عمر بن شبة "في أخبار المدينة" : أن دار أبي بكر ، "التي أذن له في إبقاء الخوخة منها : إلى المسجد" : كانت ملاصقة للمسجد ، ولم تزل بيد أبي بكر ، حتى احتاج إلى شيء يعطيه : لبعض من وفد عليه ، فباعها ، فاشترتها منه : أم المؤمنين "حفصة" : بأربعة آلاف درهم . فلم تزل بيدها : إلى أن أرادوا : توسيع المسجد ، في خلافة عثمان ، فطلبوها ليوسعوا بها المسجد ، فامتنعت ، وقالت : كيف بطريقي إلى المسجد ؟ فقيل لها : نعطيك دارا أوسع منها ، ونجعل لك طريقا مثلها ، فسلمت ورضيت.

وقد وقع في حديث "سعد بن أبي وقاص" ؛ عند أحمد ، والنسائي ؛ بإسناد قوي : "أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : بسد الأبواب الشارعة في المسجد ، وترك باب علي كرم الله وجهه" .

وفي رواية للطبراني (في الأوسط) برجال ثقات ، من الزيادة : "فقالوا: يا رسول الله ! سددت أبوابها ؟ فقال : ما أنا سددتها ولكن الله سدها" .

ونحوه "عند أحمد، والنسائي ، والحاكم" ، ورجاله ثقات ؛ عن زيد بن أرقم ، وابن عباس ، وزاد: "فكان يدخل المسجد وهو جنب ، وليس [ ص: 273 ] له طريق غيره" . رواه أحمد ، والنسائي ، ورجاله ثقات ونحوه من حديث "جابر بن سمرة" ؛ عند الطبراني :

قال القسطلاني : وبالجملة ؛ فهي - كما قاله الحافظ بن حجر - أحاديث ، يقوي بعضها بعضا . وكل طريق منها : صالح للاحتجاج ، فضلا عن مجموعها. لكن ظاهرها : يعارض حديث الباب . والجمع بينهما : بما دل عليه حديث "أبي سعيد" ، عند الترمذي ؛ أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال لعلي : "لا يحل لأحد : أن يطرق هذا المسجد جنبا: غيري وغيرك" . والمعنى : أن باب علي ، كان إلى جهة المسجد ، ولم يكن لبيته باب غيره . فلذلك : لم يؤمر بسده .

ومحصل الجمع : أن الأمر بسد الأبواب ، وقع مرتين ؛

ففي الأولى : استثنى عليا . وفي الأخرى : استثنى أبا بكر . ولكن لا يتم ذلك ؛ إلا بأن يحمل ما في قصة علي : على الباب الحقيقي ، وما في قصة أبي بكر على الباب المجازي . والمراد به : "الخوخة" ، كما صرح به في بعض طرقه .

[ ص: 274 ] وكأنهم لما أمروا : بسد الأبواب ، سدوها ، وأحدثوا خوخا ، يستقربون الدخول منها : إلى المسجد ، فأمروا بعد ذلك : بسدها . وبهذا الطريق : جمع أبو بكر الكلاباذي ، في "معاني الأخبار" ، وصرح : بأن بيت "أبي بكر" : كان له باب من خارج المسجد ، وخوخة إلى داخل المسجد . وبيت علي : لم يكن له باب ، إلا من داخل المسجد. والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية