السراج الوهاج من كشف مطالب صحيح مسلم بن الحجاج

صديق خان - محمد صديق حسن خان القنوجي الظاهري

صفحة جزء
4545 (باب منه)

وأورده النووي في (الباب المتقدم).

(حديث الباب)

وهو بصحيح مسلم النووي، ص 48 - 51 ج16، المطبعة المصرية

(عن عائشة، أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم؛ قال: "اهجوا قريشا، فإنه أشد عليها من رشق بالنبل" فأرسل إلى ابن رواحة، فقال: "اهجهم". فهجاهم؛ فلم يرض. فأرسل إلى كعب بن مالك ثم أرسل إلى حسان بن ثابت فلما دخل عليه، قال حسان: قد آن لكم أن [ ص: 627 ]

ترسلوا إلى هذا الأسد، الضارب بذنبه. ثم أدلع لسانه، فجعل يحركه، فقال: والذي بعثك بالحق! لأفرينهم بلساني فري الأديم. فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: "لا تعجل -فإن أبا بكر أعلم قريش بأنسابها، وإن لي فيهم نسبا- حتى يلخص لك نسبي" فأتاه حسان، ثم رجع فقال: يا رسول الله! قد لخص لي نسبك. والذي بعثك بالحق! لأسلنك منهم كما تسل الشعرة من العجين.

قالت عائشة: فسمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول لحسان: "إن روح القدس لا يزال يؤيدك ما نافحت عن الله ورسوله".

وقالت: سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: "هجاهم حسان فشفى واشتفى".

قال حسان:


هجوت محمدا فأجبت عنه وعند الله في ذاك الجزاء     هجوت محمدا برا حنيفا
رسول الله شيمته الوفاء     فإن أبي ووالده وعرضي
لعرض محمد منكم وقاء     ثكلت بنيتي إن لم تروها
تثير النقع من كنفي كداء     يبارين الأعنة مصعدات
على أكتافها الأسل الظماء     تظل جيادنا متمطرات
تلطمهن بالخمر النساء     فإن أعرضتمو عنا اعتمرنا
وكان الفتح وانكشف الغطاء     وإلا فاصبروا لضراب يوم
يعز الله فيه من يشاء

[ ص: 628 ]


وقال الله قد أرسلت عبدا     يقول الحق ليس به خفاء
وقال الله قد يسرت جندا     هم الأنصار عرضتها اللقاء
لنا في كل يوم من معد     سباب، أو قتال، أو هجاء
فمن يهجو رسول الله منكم     ويمدحه وينصره سواء
وجبريل رسول الله فينا     وروح القدس ليس له كفاء




(الشرح)

(عن عائشة، رضي الله عنها؛ أن رسول الله، صلى الله عليه) وآله (وسلم، قال: "اهجوا قريشا؛ فإنه أشد عليها من رشق بالنبل) بفتح الراء، وهو الرمي بها.

وأما "الرشق" بالكسر، فهو اسم للنبل التي ترمى دفعة واحدة.

وفي بعض النسخ: "رشق النبل".

وفيه: جواز هجو الكفار، ما لم يكن أمان. وأنه لا غيبة فيه.

(فأرسل إلى ابن رواحة؛ فقال: "اهجهم". فهجاهم، فلم يرض. فأرسل إلى كعب بن مالك، ثم أرسل إلى حسان بن ثابت).

أما أمره، صلى الله عليه وآله وسلم، بهجائهم، وطلبه ذلك من أصحابه، واحدا بعد واحد، ولم يرض قول الأول والثاني، حتى أمر حسان؛ فالمقصود منه: النكاية في الكفار. وقد أمر الله تعالى بالجهاد في الكفار، والإغلاظ عليهم. وكان هذا الهجو أشد عليهم من رشق النبل. فكان مندوبا لذلك، مع ما فيه من كف أذاهم، وبيان نقصهم، والانتصار بهجائهم المسلمين.

[ ص: 629 ]

قال العلماء: ينبغي أن لا يبدأ المشركون بالسب والهجاء؛ مخافة من سبهم الإسلام وأهله. قال الله تعالى: ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم . ولتنزيه ألسنة المسلمين عن الفحش، إلا أن تدعو إلى ذلك ضرورة؛ لابتدائهم به، فيكف أذاهم ونحوه. كما فعل النبي، صلى الله عليه وآله وسلم.

(فلما دخل عليه؛ قال حسان: قد آن لكم أن ترسلوا إلى هذا الأسد، الضارب بذنبه).

قال أهل العلم: المراد بالذنب هنا: لسانه. فشبه نفسه بالأسد في انتقامه وبطشه، إذا اغتاظ. وحينئذ يضرب بذنبه جنبيه، كما فعل حسان. (ثم أدلع لسانه) أي: أخرجه عن الشفتين. يقال: دلع لسانه وأدلعه، ودلع اللسان بنفسه (فجعل يحركه).

فشبه نفسه: بالأسد. ولسانه: بذنبه.

فقال: والذي بعثك بالحق! لأفرينهم بلساني فري الأديم) أي: لأمزقن أعراضهم تمزيق الجلد.

(فقال رسول الله صلى الله عليه) وآله (وسلم: "لا تعجل -فإن أبا بكر أعلم قريش بأنسابها، وإن لي فيهم نسبا- حتى يلخص لك نسبي". فأتاه حسان، ثم رجع، فقال: يا رسول الله! قد لخص لي نسبك، والذي بعثك بالحق! لأسلنك منهم كما تسل الشعرة من العجين).

معناه: لأتلطف في تخليص نسبك من هجوه) بحيث لا يبقى جزء [ ص: 630 ] من نسبك في نسبهم الذي ناله الهجو، كما أن الشعرة إذا سلت من العجين لا يبقى منها شيء فيه. بخلاف ما لو سلت من شيء صلب فإنها ربما انقطعت، فبقيت منها فيه بقية.

(قالت عائشة: فسمعت رسول الله، صلى الله عليه) وآله (وسلم، يقول لحسان) بن ثابت: ("إن روح القدس لا يزال يؤيدك، ما نافحت عن الله ورسوله") أي: دافعت وناضلت.

(وقالت: سمعت رسول الله، صلى الله عليه) وآله (وسلم، يقول: هجاهم حسان فشفى) أي: المؤمنين (واستشفى) هو بما ناله من أعراض الكفار، ومزقها، ونافح عن الإسلام والمسلمين.

(قال حسان) رضي الله عنه:

(

هجوت محمدا فأجبت عنه وعند الله في ذاك الجزاء     هجوت محمدا برا تقيا
رسول الله شيمته الوفاء

)

وفي كثير من النسخ: "حنيفا" بدل "تقيا".

و"البر" بفتح الباء: الواسع الخير. وهو مأخوذ من "البر" بكسر الباء. وهو الاتساع في الإحسان. وهو اسم جامع للخير.

وقيل: "البر" هنا بمعنى: المتنزه عن المآثم.

وأما "الحنيف" فقيل: هو المستقيم. والأصح أنه: المائل إلى الخير.

[ ص: 631 ]

وقيل: التابع ملة إبراهيم عليه السلام.

ومعنى شيمته: "خلقه.

(

فإن أبي ووالده وعرضي     لعرض محمد منكم وقاء

)

هذا مما احتج به "ابن قتيبة" لمذهبه: أن عرض الإنسان هو نفسه لا أسلافه؛ لأنه ذكر عرضه وأسلافه بالعطف.

وقال غيره: "عرض الرجل" أموره كلها، التي يحمد بها ويذم: من نفسه، وأسلافه، وكل ما لحقه نقص لعيبه.

"ووقاء" بكسر الواو، وبالمد: هو ما وقيت به الشيء.


ثكلت بنيتي إن لم تروها     تثير النقع من كنفي كداء



"تثير" أي: ترفع. و"النقع": الغبار. أي: تهيجه.

وكنفي، بفتح النون: أي جانبي "كداء" بفتح الكاف، وبالمد: هي ثنية على باب مكة.

وعلى هذه الرواية، ففي هذا البيت: إقواء مخالف لباقيها.

وفي بعض النسخ: "غايتها كداء" وفي بعضها: "موعدها".


يبارين الأعنة مصعدات     على أكتافها الأسل الظماء

ويروى: "يبارعن".

قال عياض: الأول هو رواية الأكثرين. ومعناه: أنها لصرامتها، [ ص: 632 ] وقوة نفوسها: تضاهي أعنتها بقوة جبذها لها. وهي منازعتها لها أيضا.

قال عياض: وفي رواية ابن الحذاء: "يبارين الأسنة" وهي الرماح. قال: فإن صحت هذه الرواية، فمعناها: أنهن يضاهين قوامها واعتدالها.

ومعنى "مصعدات": مقبلات إليكم ومتوجهات. يقال: "أصعد في الأرض" إذا ذهب فيها مبتدئا. ولا يقال للراجع.

"والأكتاف" بالفوقية: جمع "كتف".

"والأسل" بفتح الهمزة والسين (هذه رواية الجمهور): هي الرماح. و"الظماء": الرقاق. فكأنها لقلة مائها: عطاش. وقيل: المراد بالظماء: "العطاش لدماء الأعداء).

وفي بعض الروايات: "الأسد الظماء" أي: الرجال المشبهون للأسد، العطاش إلى دمائكم.


تظل جيادنا متمطرات     يلطمهن بالخمر النساء



أي: تظل خيولنا مسرعات، يسبق بعضها بعضا. وتمسحهن النساء "بخمرهن": بضم الخاء والميم، جمع "خمار". أي يزلن عنها الغبار. وهذا لعزتها وكرامتها عندهم.

وحكى عياض أنه روي بفتح الميم، جمع: "خمرة" وهو صحيح المعنى، لكن الأول هو المعروف، وهو الأبلغ في إكرامها.

[ ص: 633 ]

(

فإن أعرضتمو عنا اعتمرنا     وكان الفتح وانكشف الغطاء
وإلا فاصبروا لضراب يوم     يعز الله فيه من يشاء
وقال الله قد أرسلت عبدا     يقول الحق ليس به خفاء
وقال الله قد يسرت جندا     هم الأنصار عرضتها اللقاء

)

أي: هيأتهم وأرصدتهم.

و"عرضتها" بضم العين. أي: مقصودها ومطلوبها.

(

لنا في كل يوم من معد     سباب، أو قتال، أو هجاء
فمن يهجو رسول الله منكم     ويمدحه وينصره سواء
وجبريل رسول الله فينا     وروح القدس ليس له كفاء

)

أي: لا مماثل له، ولا مقاوم. والله أعلم.

التالي السابق


الخدمات العلمية