السراج الوهاج من كشف مطالب صحيح مسلم بن الحجاج

صديق خان - محمد صديق حسن خان القنوجي الظاهري

صفحة جزء
4603 [ ص: 5 ] باب : خير القرون قرن الصحابة ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم

وهو في النووي ، (في الباب المتقدم) .

(حديث الباب)

وهو بصحيح مسلم النووي ، ص87 ،88 ج16 المطبعة المصرية (عن زهدم بن مضرب عن عمران بن حصين يحدث ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : "إن خيركم قرني ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم" . -قال عمران : فلا أدري : أقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "بعد قرنه" : مرتين ، أو ثلاثة- "ثم يكون بعدهم قوم يشهدون ، ولا يستشهدون . ويخونون ، ولا يؤتمنون . وينذرون ، ولا يوفون . ويظهر فيهم السمن" ) .


(الشرح)

(عن عمران بن حصين رضي الله عنهما : أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، قال : "إن خيركم قرني ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم") .

"القرن" بفتح القاف : أهل زمان واحد متقارب ، اشتركوا في أمر من الأمور المقصودة . ويطلق على "مدة من الزمان" . واختلف في تحديده ؛

ذكر الحربي الاختلاف في قدره بالسنين : من عشر سنين ، إلى مائة [ ص: 6 ] وعشرين . ثم قال : وليس منه شيء واضح . ورأى أن القرن : "كل أمة هلكت ، فلم يبق منها أحد" .

وقال الحسن ، وغيره ؛ "القرن" : عشر سنين .

وقتادة : "سبعون" .

والنخعي : "أربعون" .

وزرارة بن أبي أوفى : "مائة وعشرون" .

وعبد الملك بن عمير : "مائة" .

وقال ابن الأعرابي : هو الوقت .

قال عياض : واختلفوا في المراد بالقرن هنا ؛

فقال المغيرة : "قرنه" : أصحابه . والذين يلونهم : "أبناؤهم" . والثالث : "أبناء أبنائهم" .

وقال شهر : "قرنه" : ما بقيت عين رأته . والثاني : ما بقيت عين رأت من رآه . ثم كذلك .

وقال غير واحد : "القرن" : كل طبقة مقترنين في وقت .

وقيل : هو لأهل مدة بعث فيها نبي ، طالت مدته أم قصرت .

قال النووي : والصحيح أن قرنه صلى الله عليه وآله وسلم : الصحابة . والثاني : التابعون . والثالث : تابعوهم .

وقال القسطلاني رحمه الله : المراد بهم هنا : الصحابة ، ثم الذين يقربون منهم "وهم التابعون" . . ثم الذين يلونهم "وهم أتباع التابعين" .

[ ص: 7 ] قال : وهذا صريح في أن الصحابة أفضل من التابعين . وأن التابعين : أفضل من تابعي التابعين .

قال : وهذا مذهب الجمهور . وذهب ابن عبد البر إلى أنه : قد يكون فيمن يأتي -بعد الصحابة- أفضل ممن كان في جملة الصحابة . وأن قوله صلى الله عليه وآله وسلم : "خير الناس قرني" ليس على عمومه ، بدليل ما يجمع القرن بين الفاضل والمفضول . وقد جمع قرنه صلى الله عليه وآله وسلم : جماعة من المنافقين -المظهرين للإيمان- ، وأهل الكبائر ، الذين أقام عليهم ، أو على بعضهم : الحدود .

وقد روى أبو أمامة ، أنه صلى الله عليه وآله وسلم ، قال : "طوبى لمن رآني ، وآمن بي . وطوبي سبع مرات لمن لم يرني ، وآمن بي" .

وفي مسند أبي داود الطيالسي : (عن عمر رضي الله عنه ، قال : كنت جالسا ، عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال : "أتدرون : أي الخلق أفضل إيمانا ؟ فقلنا : الملائكة . قال : "وحق لهم . بل غيرهم" قلنا : الأنبياء . قال : "وحق لهم . بل غيرهم" ثم قال صلى الله عليه وآله وسلم : "أفضل الخلق إيمانا : قوم في أصلاب الرجال ، يؤمنون بي ، ولم يروني . فهم أفضل الخلق إيمانا" .

لكن روى أحمد ، والدارمي : بإسناد حسن . وصححه الحاكم : [ ص: 8 ] (قال أبو عبيدة : يا رسول الله ! هل أحد خير منا ؟ أسلمنا معك ، وجاهدنا معك . قال : قوم يكونون من بعدكم ، يؤمنون بي ، ولم يروني") .

قال : والحق ما عليه الجمهور ؛ لأن الصحبة لا يعدلها شيء . وحديث "للعامل منهم أجر خمسين منكم" : لا دلالة فيه على أفضلية غير الصحابة ، على الصحابة . لأن مجرد زيادة الأجر : لا يستلزم ثبوت الأفضلية المطلقة . وإسناد حديث أبي داود السابق : ضعيف . فلا حجة فيه . وكلام ابن عبد البر : ليس على إطلاقه في حق جميع الصحابة . فإنه صرح في كلامه : باستثناء أهل بدر ، والحديبية .

والذي يظهر : أن "محل النزاع" يتمحض فيمن لم يحصل له ، إلا مجرد المشاهدة . أما من قاتل معه ، أو في زمانه بأمره ، أو أنفق شيئا من ماله بسببه ، أو سبق إليه بالهجرة والنصرة ، وضبط الشرع المتلقى عنه ، وبلغه لمن بعده : فلا يعدله في الفضل أحد بعده ، كائنا من كان .

هذا آخر كلام القسطلاني ، في "إرشاد الساري" .

ولا شك : أن أحدا ، لا يبلغ أحدا من الصحابة ، في فضيلة الصحبة ، التي هي من أشرف الفضائل ، وأكمل الشمائل ، وأعظم الخصال ، وأكرم الخلال . وأما كثرة الأجور ، ووفرة العلوم ، وشدة الرياضة : فقد يمكن أن يربو على بعضهم ، ويشاركهم في الإيمان ، [ ص: 9 ] ومراتب الإسلام والإحسان . وهذا الفضل الجزئي : لا يستلزم الفضل الكلي على بعضهم ، فضلا عن كلهم .

فالذي ذهب إليه الجمهور : هو المذهب المختار المنصور . وفيه : الصون كل الصون ، عن تطرق وهم النقص إلى جنابهم الرفيع ، والحفظ تمام الحفظ عن خيال المفضولية إلى مكانهم المنيع . فمجموعهم : لا شك أفضل من مجموع الأمة المتأخرة ، وإن كانت لها فضائل ، ومكارم ، وأجور كثيرة ، وعلوم ، ومناقب غزيرة . فإنهم هم ، ونحن نحن . وما للذرات والشموس ؟ وقد قيل في المثل السائر : ولا عطر بعد عروس .

قال النووي : اتفق العلماء ، على أن خير القرون : قرنه صلى الله عليه وآله وسلم . والمراد : أصحابه . والصحيح الذي عليه الجمهور : أن كل مسلم رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم -ولو ساعة- : فهو من أصحابه . ورواية "خير الناس" : على عمومها . والمراد منه : جملة القرن . ولا يلزم منه : تفضيل الصحابي على الأنبياء ، عليهم السلام . ولا أفراد النساء : على مريم ، وآسية ، وغيرهما . بل المراد : جملة القرن -بالنسبة إلى كل قرن بجملته- والله أعلم .

(قال عمران : فلا أدري : أقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم -بعد قرنه- : مرتين ، أو ثلاثا ؟) .

وفي حديث عائشة ، عند مسلم ؛ (قال رجل : يا رسول الله ! أي [ ص: 10 ] الناس خير ؟ قال : "القرن الذي أنا فيه . ثم الثاني . ثم الثالث") فلم يشك كأكثر طرق الحديث .

وفي رواية عبيدة السلماني ، عن عبد الله يرفعه : "خير أمتي : القرن الذين يلونهم . ثم الذين يلونهم إلخ" . وهذا صريح ، في أن المراد "بقرنه" صلى الله عليه وآله وسلم : هم الصحابة ، لا مدة حياته صلى الله عليه وآله وسلم فقط .

وفي أخرى ، عنه ؛ "سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أي الناس خير ؟ قال : قرني . ثم الذين يلونهم . ثم الذين يلونهم" .

وفي حديث أبي هريرة ، يرفعه : "خير أمتي : القرن الذين بعثت فيهم . ثم الذين يلونهم" والله أعلم : أذكر الثالث أم لا . إلخ .

ورواه عمران بن حصين ، بلفظ : "خير هذه الأمة : القرن الذي بعثت فيهم إلخ" .

هذه الروايات ، أخرجها مسلم في صحيحه . وفيها نص على خيرية القرون الثلاثة ؛ وهي قرن الصحابة ، والتابعين ، وأتباعهم .

[ ص: 11 ] واختار الشيخ أحمد "ولي الله" ، المحدث الدهلوي ؛ في (إزالة الخفاء) : أن المراد بقرنه صلى الله عليه وآله وسلم : زمان حياته .

والثاني : قرن الشيخين "أبي بكر وعمر رضي الله عنهما .

والثالث : مدة خلافة عثمان ، إلى أن استشهد .

بدليل قوله صلى الله عليه وآله وسلم : "قرني" ، فإنه أضاف القرن إلى نفسه الشريفة ، ثم عطف عليه "قرنين آخرين" . وأقل قدر سني القرن" : عشرة سنين .

وقد أقام هو صلى الله عليه وآله وسلم ، بالمدينة : هذا القدر .

ومثله : زمان خلافة الصديق مع خلافة الفاروق ، مع شيء زائد يسير جدا . نحو عامين ونصف .

ثم هكذا مدة إمارة "ذي النورين" ، مع زيادة قليلة على مدتهما . فانحصرت القرون الثلاثة ، التي شهد لها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالخيرية : إلى آخر حياة عثمان ، حتى قتل . ثم صار الأمر ملكا عضوضا .

وهذا الذي ذهب إليه "هذا الشيخ العظيم" : قول غريب جدا ، لم أقف عليه لغيره .

وفهم الجمهور ، من السلف ، والخلف - من حديث الباب ، وما في معناه- : أن المراد بقرنه صلى الله عليه وآله وسلم : قرن الصحابة إلى آخرهم موتا .

[ ص: 12 ] ثم الثاني كذلك ، إلى موت آخر التابعين .

ثم هكذا ، إلى وفاة آخر أتباعهم . بل ذهب بعضهم : إلى اعتبار أتباع الأتباع لهم . وهو القرن الرابع .

لكن لم تثبت رواية "رابعة" : ثبوتا يوجب المصير إليها .

وهذه القرون الثلاثة ، هي التي يعبر عن أهلها : "بالسلف" . وعمن بعدهم ، أو بعد القرن الرابع : بالخلف -في عرف العلماء واصطلاحهم- . وإلا ، فكل متقدم من الناس : سلف . والمتأخر منهم : خلف (في اللغة ، والمحاورة الحديثية ، وغيرها) .

وكل من ذهب إلى تحديد السلف الصالح وزمنهم ، والخلف وعصرهم ، إلى غير ما ذكرنا : فإنه لم يأت بفائدة واضحة ، ولم يعد بعائدة زائدة ، بيد القال والقيل . فاشدد يديك على هذا . والله أعلم .

(ثم يكون بعدهم : قوم يشهدون ، ولا يستشهدون) .

وفي رواية أخرى : "يشهدون ، قبل أن يستشهدوا" .

والمعنى : يتحملون الشهادة ، من غير تحميل ، أو يؤدونها ، من غير طلب الأداء .

وهذا في ظاهره ، مخالف للحديث الآخر : "خير الشهود : الذي يأتي بالشهادة ، قبل أن يسألها"

[ ص: 13 ] قال العلماء : الجمع بينهما ؛ أن الذم في ذلك ، لمن بادر بالشهادة في حق الآدمي ، هو عالم بها قبل أن يسألها صاحبها .

وأما المدح ؛ فهو لمن كانت عنده شهادة الآدمي ، ولا يعلم بها صاحبها ، فيخبره بها : ليستشهده بها عند القاضي ، إن أراد .

ويلتحق به : من كانت عنده شهادة حسبة ، وهي الشهادة بحقوق الله تعالى . فيأتي القاضي ويشهد بها . وهذا ممدوح ، إلا إذا كانت الشهادة بحد ، ورأى المصلحة في الستر .

قال النووي : هذا الجمع بين الحديثين ؛ هو مذهب الشافعية ، ومالك ، وجماهير العلماء . وهو الصواب . وقيل فيه أقوال ضعيفة ؛

منها : قول من قال بالذم مطلقا ، ونابذ حديث المدح .

ومنها : قول من حمله على شهادة الزور .

ومنها : قول من حمله على الشهادة بالحدود . وكلها فاسدة .

واحتج عبد الله بن شبرمة بهذا الحديث لمذهبه : في منعه الشهادة على الإقرار ، قبل أن يستشهد . ومذهب الشافعية والجمهور : قبولها .

وفي بعض طرق هذا الحديث ، عند مسلم : "ثم يجيء قوم ، تسبق شهادة أحدهم يمينه ، ويمينه شهادته" .

وفي لفظ : "تبدر شهادة أحدهم يمينه ، وتبدر يمينه شهادته" .

وهذا : ذم لمن يشهد ، ويحلف مع شهادته .

[ ص: 14 ] واحتج به بعض المالكية ، في رد شهادة من حلف معها .

وجمهور العلماء : أنها لا ترد .

ومعنى الحديث : أنه يجمع بين اليمين والشهادة ؛ فتارة تسبق هذه . وتارة هذه .

ومعنى "تبدر" : تسبق .

قال إبراهيم : كانوا ينهوننا -ونحن غلمان- عن العهد والشهادات . أي الجمع بين اليمين والشهادة .

وقيل : المراد : النهي عن قوله "علي عهد الله" ، أو "أشهد بالله" .

وفي رواية أخرى : "فلا أدري : في الثالثة ، أو في الرابعة ، قال : "ثم يتخلف بعدهم خلف ، تسبق شهادة أحدهم يمينه ، ويمينه شهادته " . هكذا الرواية : "خلف" بإسكان اللام ، خلف سوء .

قال أهل اللغة : "الخلف" : ما صار عوضا عن غيره . ويستعمل فيمن خلف بخير ، أو شر . لكن يقال في الخير : "بفتح اللام ، وإسكانها" . لغتان . الفتح : أشهر ، وأجود . وفي الشر : بإسكانها ، عند الجمهور . وحكي فتحها أيضا .

(ويخونون ولا يتمنون) . هكذا في أكثر النسخ : بتشديد النون .

وفي بعضها : "يؤتمنون" .

[ ص: 15 ] ومعناه : يخونون خيانة ظاهرة ، بحيث لا يبقى معها أمانة . بخلاف من خان بحقير مرة واحدة ، فإنه يصدق عليه : أنه خان . ولا يخرج به عن الأمانة ، في بعض المواطن .

(وينذرون) بفتح الياء ، وضم الذال . وبكسرها . لغتان .

(ولا يوفون) . وفي رواية : "يفون" .

قال النووي : وهما صحيحان . يقال : "وفى ، وأوفى" .

وفيه : وجوب الوفاء بالنذر . وهو واجب بلا خلاف . وإن كان ابتداء النذر ، منهيا عنه ، كما سبق في بابه .

(ويظهر فيهم السمن) بكسر السين ، وفتح الميم . أي : يعظم حرصهم على الدنيا ، والتمتع بلذاتها ، حتى تسمن أجسادهم .

وفي رواية : "ثم يخلف قوم ، يحبون السمانة" .

قال النووي : "السمانة ، بفتح السين ، هي "السمن" .

قال جمهور العلماء -في معنى هذا الحديث- : المراد بالسمن هنا : كثرة اللحم . أي : أنه يكثر ذلك فيهم . وليس معناه : أن يتمحضوا سمانا .

قالوا : والمذموم منه : من يستكسبه .

وأما من هو فيه خلقة : فلا يدخل في هذا .

والمتكسب له : هو المتوسع في المأكول والمشروب ، زائدا على المعتاد .

[ ص: 16 ] وقيل : المراد بالسمن هنا : أنهم يتكثرون بما ليس فيهم ، ويدعون ما ليس لهم : من الشرف ، وغيره .

وقيل : المراد : جمعهم الأموال .

والأول : أولى .

وفي هذه الأحاديث : دلائل للنبوة ، ومعجزات ظاهرة للرسالة . فإن كل الأمور التي أخبر بها : وقعت كما أخبر . ولله الحمد .

التالي السابق


الخدمات العلمية