السراج الوهاج من كشف مطالب صحيح مسلم بن الحجاج

صديق خان - محمد صديق حسن خان القنوجي الظاهري

صفحة جزء
4626 باب تقدم بر الوالدين على العبادة

وقال النووي : (باب تقديم بر الوالدين : على التطوع بالصلاة وغيرها) .

(حديث الباب)

وهو بصحيح مسلم النووي ، ص106-108 ج16 ، المطبعة المصرية

(عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : "لم يتكلم في المهد ، إلا ثلاثة : عيسى ابن مريم ، وصاحب جريج -وكان جريج رجلا عابدا ، فاتخذ صومعة ، فكان فيها . فأتته أمه وهو يصلي . فقالت : يا جريج ! فقال : يا رب ! أمي ، وصلاتي . فأقبل على صلاته . فانصرفت .

فلما كان من الغد : أتته وهو يصلي . فقالت : يا جريج ! فقال : يا رب ! أمي ، وصلاتي . فأقبل على صلاته . فانصرفت .

فلما كان من الغد : أتته وهو يصلي . فقالت : يا جريج ! فقال : أي رب ! أمي ، وصلاتي . فأقبل على صلاته . فقالت : اللهم ! لا تمته ، حتى ينظر إلى وجوه المومسات . فتذاكر بنو إسرائيل جريجا وعبادته . [ ص: 47 ] وكانت امرأة بغي ، يتمثل بحسنها . فقالت : إن شئتم لأفتننه لكم . قال : فتعرضت له ، فلم يلتفت إليها . فأتت راعيا ، كان يأوي إلى صومعته ، فأمكنته من نفسها ، فوقع عليها ، فحملت . فلما ولدت ، قالت : هو من جريج- ، فأتوه فاستنزلوه ، وهدموا صومعته ، وجعلوا يضربونه . فقال : ما شأنكم ؟ قالوا : زنيت بهذه البغي ، فولدت منك . فقال : أين الصبي ؟ فجاءوا به . فقال : دعوني حتى أصلي . فصلى . فلما انصرف : أتى الصبي ، فطعن في بطنه ، وقال : يا غلام ! من أبوك ؟ قال : فلان الراعي . قال : فأقبلوا على جريج يقبلونه ، ويتمسحون به . وقالوا نبني لك صومعتك : من ذهب . قال : لا . أعيدوها من طين ، كما كانت . ففعلوا .

وبينا صبي يرضع من أمه . فمر رجل راكب على دابة فارهة ، وشارة حسنة . فقالت : أمه اللهم ! اجعل ابني : مثل هذا . فترك الثدي ، وأقبل إليه ، فنظر إليه ، فقال : اللهم ! لا تجعلني مثله . ثم أقبل على ثديه ، فجعل يرتضع .

قال : فكأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو يحكي ارتضاعه : بإصبعه السبابة في فمه ، فجعل يمصها .

قال ومروا بجارية ، وهم يضربونها ويقولون : زنيت . سرقت . وهي تقول : حسبي الله ، ونعم الوكيل . فقالت أمه : اللهم ! لا تجعل ابني مثلها . فترك الرضاع ، ونظر إليها ، فقال : اللهم ! اجعلني مثلها . فهناك تراجعا الحديث ، فقالت : حلقى ! مر رجل حسن الهيئة ، فقلت : اللهم ! اجعل ابني مثله . فقلت : اللهم ! لا تجعلني مثله . ومروا بهذه [ ص: 48 ] الأمة -وهم يضربونها ، ويقولون : زنيت . سرقت- فقلت : اللهم ! لا تجعل ابني مثلها . فقلت : اللهم ! اجعلني مثلها .

قال : إن ذاك الرجل كان جبارا . فقلت : اللهم ! لا تجعلني مثله . وإن هذه يقولون لها : زنيت (ولم تزن) ، وسرقت (ولم تسرق) . فقلت : اللهم ! اجعلني مثلها"
) .


(الشرح)

(عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، قال : لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة : عيسى ابن مريم ، وصاحب جريج) فذكرهم . وليس فيهم : الصبي الذي كان مع المرأة ، في حديث الساحر والراهب ، وقصة أصحاب الأخدود ، المذكور في آخر صحيح مسلم .

وجوابه : أن ذلك الصبي ، لم يكن في المهد ، بل كان أكبر من صاحب المهد . وإن كان صغيرا .

(وكان جريج رجلا عابدا ؛ فاتخذ صومعة ، فكان فيها) .

وفي رواية أخرى عنه ، عند مسلم ، بلفظ : (قال : كان جريج [ ص: 49 ] يتعبد في صومعة ، فجاءت أمه- قال حميد : فوصف لنا أبو رافع : صفة أبي هريرة لصفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أمه ، حين دقت ، كيف جعلت كفها فوق حاجبها ، ثم رفعت رأسها إليه تدعوه) .

(فأتته أمه وهو يصلي ، فقالت : يا جريج !) زاد في رواية أخرى : "أنا أمك ، كلمني . فصادفته يصلي" . (فقال : يا رب ! أمي وصلاتي . فأقبل على صلاته . فانصرفت ، فلما كان من الغد : أتته ، وهو يصلي ، فقالت : يا جريج !) أنا أمك ، فكلمني (فقال : يا رب ! أمي وصلاتي . فأقبل على صلاته . فانصرفت . فلما كان من الغد : أتته ، فقالت : يا جريج ! فقال يا رب ! أمي وصلاتي . فأقبل على صلاته . فقالت : اللهم ! لا تمته ، حتى ينظر إلى وجوه المومسات) . بضم الميم الأولى ، وكسر الثانية . أي : الزواني ، البغايا ، المتجاهرات بذلك . والواحدة : "مومسة" . وتجمع على "مياميس" .

وفي رواية : "فقالت : اللهم ! هذا جريج -وهو ابني- وإني كلمته ، فأبى أن يكلمني . فلا تمته ، حتى تريه المومسات" . قال : "ولو دعت عليه : أن يفتن ، لفتن" .

(فتذاكر بنو إسرائيل : جريجا وعبادته ، وكانت امرأة بغي ، يتمثل بحسنها) أي : يضرب بها المثل ، لانفرادها به .

[ ص: 50 ] (فقالت : إن شئتم ، لأفتننه لكم . قال : فتعرضت له ، فلم يلتفت إليها . فأتت راعيا ، كان يأوي إلى صومعته ، فأمكنته من نفسها ، فوقع عليها ، فحملت . فلما ولدت ، قالت : هو من جريج ، فأتوه فاستنزلوه ، وهدموا صومعته ، وجعلوا يضربونه) .

وفي رواية أخرى : (قال : وكان راعي ضأن يأوي إلى ديره . قال : فخرجت امرأة من القرية ، فوقع عليها الراعي ، فحملت فولدت غلاما . فقيل لها : ما هذا ؟ قالت : من صاحب هذا الدير . قال : فجاءوا بفؤوسهم ، ومساحيهم . فنادوه ، فصادفوه يصلي : فلم يكلمهم . قال : فأخذوا يهدمون ديره . فلما رأى ذلك ، نزل إليهم" .

فقال : ما شأنكم ؟ قالوا : زنيت بهذه البغي ، فولدت منك . فقال : أين الصبي ؟ فجاءوا به ، فقال : دعوني حتى أصلي . فصلى . فلما انصرف ، أتى الصبي ، فطعن في بطنه ، وقال : يا غلام ! من أبوك ؟ قال : فلان الراعي)
.

قد يقال : إن الزاني لا يلحقه الولد . وجوابه من وجهين ؛

أحدهما : لعله كان في شرعهم يلحقه .

والثاني : المراد : من ماء من أنت ؟ وسماه : "أبا مجازا" .

(قال : فأقبلوا على جريج ، يقبلونه ويتمسحون به . وقالوا : نبني لك صومعتك : من ذهب ، وفضة . قال : لا أعيدوها من طين ، كما [ ص: 51 ] كانت . ففعلوا) .

ولفظ الرواية الأخرى : "فجاءوا بفؤوسهم ومساحيهم ، فنادوه ، فصادفوه يصلي . فلم يكلمهم . قال : فأخذوا يهدمون ديره . فلما رأى ذلك ، نزل إليهم . فقالوا له : سل هذه . قال : فتبسم ، ثم مسح رأس الصبي . فقال : من أبوك ؟ قال : أبي راعي الضأن . فلما سمعوا ذلك منه ، قالوا : نبني ما هدمنا من ديرك : بالذهب والفضة . قال : لا . ولكن أعيدوه ترابا كما كان . ثم علاه" .

و"الصومعة" بمعنى : الدير .

و"الدير" : كنيسة منقطعة عن العمارة ، تنقطع فيها رهبان النصارى ، لتعبدهم . وهي نحو المنارة . ينقطعون فيها : عن الوصول إليهم ، والدخول عليهم .

و"فؤوس" جمع : "فأس" . وهي هذه المعروفة ، كرأس ورؤوس .

و"المساحي" : جمع "مسحاة" . وهي كالمجرفة ، إلا أنها من حديد .

ذكره الجوهري .

في هذه القصة : أنه آثر الصلاة على إجابتها ، فدعت عليه ، فاستجاب الله لها .

[ ص: 52 ] قال العلماء : هذا دليل على أنه كان الصواب في حقه : إجابتها ، لأنه كان في صلاة نفل . والاستمرار فيها : تطوع لا واجب . وإجابة الأم وبرها : واجب . وعقوقها : حرام . وكان يمكنه : أن يخفف الصلاة ، ويجيبها . ثم يعود لصلاته . فلعله خشي أنها تدعوه إلى مفارقة صومعته ، والعود إلى الدنيا ومتعلقاتها وحظوظها ، وتضعف عزمه فيما نواه وعاهد عليه .

(وبينا صبي يرضع من أمه ، فمر رجل راكب على دابة فارهة) . بالفاء : النشيطة ، الحادة ، القوية . وقد "فرهت" بضم الراء : فراهة ، وفراهية .

(وشارة حسنة) أي : هيئة جميلة ، ولباس جميل .

(فقالت أمه : اللهم ! اجعل ابني مثل هذا . فترك الثدي ، وأقبل إليه ، فنظر إليه ، فقال : اللهم ! لا تجعلني مثله . ثم أقبل على ثديه) إضافة "الثدي" إلى ضمير الصبي : باعتبار أنه يرتضع منه .

(فجعل يرتضع . قال : فكأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه) وآله (وسلم ، وهو يحكي ارتضاعه : بإصبعه السبابة ، في فمه ، فجعل يمصها) بفتح الميم : على اللغة المشهورة . وحكي ضمها .

(قال : ومروا بجارية ، وهم يضربونها ، ويقولون : زنيت . سرقت . وهي تقول : حسبي الله ، ونعم الوكيل . فقالت أمه : اللهم لا تجعل ابني مثلها . فترك الرضاع ، ونظر إليها ، فقال : اللهم ! اجعلني مثلها . [ ص: 53 ] فهناك تراجعا الحديث) . معناه : أقبلت على الرضيع ، تحدثه . وكانت أولا لا تراه أهلا للكلام . فلما تكرر منه الكلام : علمت أنه أهل له ، فسألته وراجعته .

(فقالت : حلقى) سبق بيانه في الكتاب ، في موضعه .

قال (في مجمع البحار) : ويقال لأمر يعجب منه : "حلقى عقرى" . ومنه في قول أم الصبي الذي تكلم : "حلقى عقرى" .

(مر رجل حسن الهيئة ، فقلت : اللهم ! اجعل ابني مثله . فقلت : اللهم ! لا تجعلني مثله . ومروا بهذه الأمة -وهم يضربونها ، ويقولون : زنيت . سرقت- فقلت : اللهم ! لا تجعل ابني مثلها . فقلت : اللهم ! اجعلني مثلها . قال : إن ذاك الرجل ، كان جبارا ، فقلت اللهم ! لا تجعلني مثله . وإن هذه يقولون لها : زنيت (ولم تزن) ، وسرقت (ولم تسرق) . فقلت : اللهم ! اجعلني مثلها) أي : اللهم ! اجعلني سالما من المعاصي ، كما هي سالمة . وليس المراد : مثلها في النسبة إلى باطل ، تكون منه بريئا .

وفي هذا الحديث : فوائد كثيرة .

منها : عظم بر الوالدين ، وتأكد حق الأم ، وأن دعاءها مجاب ، وأنه إذا تعارضت الأمور : بدئ بأهمها .

[ ص: 54 ] وأن الله يجعل لأوليائه : مخارج ، عند ابتلائهم بالشدائد ، غالبا . قال تعالى : ومن يتق الله يجعل له مخرجا .

وقد يجري عليهم "الشدائد" في بعض الأوقات : زيادة في أحوالهم ، وتهذيبا لهم ، فيكون لطفا .

ومنها : استحباب الوضوء للصلاة ، عند الدعاء بالمهمات .

ومنها : أن "الوضوء ، كان معروفا ، في شرع من قبلنا . فقد ثبت في هذا الحديث ، في كتاب البخاري : "فتوضأ وصلى" . وقد حكى عياض عن بعضهم ؛ أنه زعم : اختصاصه بهذه الأمة .

ومنها : إثبات كرامات الأولياء . وهو مذهب أهل السنة ، خلافا للمعتزلة .

وفيه : أن كرامات الأولياء ، قد تقع باختيارهم وطلبهم .

قال النووي : وهذا هو الصحيح ، عند أصحابنا المتكلمين . ومنهم من قال : لا تقع باختيارهم وطلبهم .

وفيه : أن الكرامات ، قد تكون بخوارق العادات ، على جميع أنواعها . ومنعه بعضهم ، وادعى أنها : تختص بمثل إجابة دعاء ، ونحوه . وهذا غلط من قائله ، وإنكار للحس . بل الصواب : جريانها بقلب الأعيان ، وإحضار الشيء من العدم ، ونحوه .

التالي السابق


الخدمات العلمية