السراج الوهاج من كشف مطالب صحيح مسلم بن الحجاج

صديق خان - محمد صديق حسن خان القنوجي الظاهري

صفحة جزء
4926 باب الدعاء: بما عمل من الأعمال الصالحة

وقال النووي : ( باب قصة أصحاب الغار الثلاثة والتوسل بصالح الأعمال) .

(حديث الباب)

وهو بصحيح مسلم \ النووي، ص 55، 56 جـ 17، المطبعة المصرية

[عن عبد الله بن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال بينما ثلاثة نفر يتمشون أخذهم المطر فأووا إلى غار في جبل فانحطت على فم غارهم صخرة من الجبل فانطبقت عليهم فقال بعضهم لبعض انظروا أعمالا عملتموها صالحة لله فادعوا الله تعالى بها لعل الله يفرجها عنكم فقال أحدهم اللهم إنه كان لي والدان شيخان كبيران وامرأتي ولي صبية صغار أرعى عليهم فإذا أرحت عليهم حلبت [ ص: 477 ] فبدأت بوالدي فسقيتهما قبل بني وأنه نأى بي ذات يوم الشجر فلم آت حتى أمسيت فوجدتهما قد ناما فحلبت كما كنت أحلب فجئت بالحلاب فقمت عند رءوسهما أكره أن أوقظهما من نومهما وأكره أن أسقي الصبية قبلهما والصبية يتضاغون عند قدمي فلم يزل ذلك دأبي ودأبهم حتى طلع الفجر فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج لنا منها فرجة نرى منها السماء ففرج الله منها فرجة فرأوا منها السماء، وقال الآخر: اللهم إنه كانت لي ابنة عم أحببتها كأشد ما يحب الرجال النساء وطلبت إليها نفسها فأبت حتى آتيها بمائة دينار فتعبت حتى جمعت مائة دينار فجئتها بها فلما وقعت بين رجليها قالت يا عبد الله اتق الله ولا تفتح الخاتم إلا بحقه فقمت عنها فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج لنا منها فرجة ففرج لهم، وقال الآخر: اللهم إني كنت استأجرت أجيرا بفرق أرز فلما قضى عمله قال: أعطني حقي فعرضت عليه فرقه فرغب عنه فلم أزل أزرعه حتى جمعت منه بقرا ورعاءها فجاءني فقال اتق الله ولا تظلمني حقي قلت اذهب إلى تلك البقر ورعائها فخذها فقال اتق الله ولا تستهزئ بي فقلت إني لا أستهزئ بك خذ ذلك البقر ورعاءها فأخذه فذهب به فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج لنا ما بقي ففرج الله ما بقي ].


[ ص: 478 ] (الشرح)

(عن عبد الله بن عمر، رضي الله عنهما؛ عن رسول الله صلى الله عليه) وآله (وسلم؛ أنه قال: بينما ثلاثة نفر، يتمشون: أخذهم المطر، فأووا) : بقصر الهمزة، ويجوز فتحها في لغة قليلة.

(إلى غار في جبل) : "الغار": النقب في الجبل.

(فانحطت على فم غارهم: صخرة من الجبل، فانطبقت عليهم. فقال بعضهم لبعض: انظروا أعمالا عملتموها صالحة لله: فادعوا الله) تعالى (بها، لعله يفرجها عنكم) .

[ ص: 479 ] استدلت الشافعية بهذا: على أنه يستحب للإنسان، أن يدعو في حال كربه، وفي دعاء الاستسقاء، وغيره: بصالح عمله، ويتوسل إلى الله تعالى به. لأن هؤلاء فعلوه: فاستجيب لهم. وذكره النبي، صلى الله عليه وآله وسلم في معرض الثناء عليهم، وجميل فضائلهم.

قلت: وهذا الاستدلال: واضح، لا خفاء عليه.

(فقال أحدهم: اللهم ! إنه كان لي والدان، شيخان كبيران، وامرأتي، ولي صبية صغار أرعى عليهم. فإذا أرحت عليهم) معناه: إذا رددت الماشية، من المرعى، إليهم، وإلى موضع مبيتها. وهو "مراحها": بضم الميم. يقال: أرحت الماشية، وروحتها: بمعنى. (حلبت، فبدأت بوالدي؛ فسقيتهما قبل بني. وأني نأى بي) . وفي لفظ: "ناء بي". وهما لغتان، وقراءتان. ومعناه: بعد.

[ ص: 480 ] (ذات يوم: الشجر. فلم آت حتى أمسيت، فوجدتهما قد ناما. فحلبت - كما كنت أحلب -، فجئت بالحلاب) : بكسر الحاء. وهو الإناء الذي يحلب فيه، يسع حلبة ناقة. ويقال له: "المحلب"، بكسر الميم.

قال عياض : وقد يريد "بالحلاب" هنا: اللبن المحلوب.

(فقمت عند رؤوسهما : أكره أن أوقظهما من نومهما. وأكره أن أسقي الصبية قبلهما. والصبية يتضاغون) أي: يصيحون، ويستغيثون من الجوع. [ ص: 481 ] (عند قدمي، فلم يزل ذلك دأبي ودأبهم حتى طلع الفجر) الدأب: الحالة اللازمة.

(فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج لنا منها فرجة نرى منها السماء، ففرج الله منها: فرجة)بضم الفاء، وفتحها. ويقال لها أيضا: "فرج".

وفي هذا الحديث: فضل بر الوالدين، وفضل خدمتهما، وإيثارهما على من سواهما: من الأولاد والزوجة، وغيرهم. وقبول الدعاء عند التوسل بالعمل الصالح الخالص لله تعالى.

(فرأوا منها السماء) لقبوله سبحانه: دعاءه.

(وقال الآخر: اللهم ! إنه كانت لي ابنة عم، أحببتها: كأشد ما يحب الرجال النساء) وهو الشغف والوله.

(وطلبت إليها نفسها فأبت، حتى آتيها بمائة دينار، فبقيت حتى جمعت مائة دينار، فجئتها بها، فلما وقعت بين رجليها) أي: جلست، مجلس الرجل للوقاع: (قالت: يا عبد الله ! اتق الله، ولا تفتح الخاتم إلا بحقه) . "الخاتم": كناية عن بكارتها. أي: لا تزلها إلا بنكاح شرعي، لا بزنا وسفاح.

[ ص: 482 ] (فقمت عنها. فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج لنا منها فرجة، ففرج لهم) .

فيه: فضل العفاف والانكفاف عن المحرمات، لا سيما بعد القدرة عليها، والهم بفعلها، ويترك لله تعالى، خالصا.

وفيه: أن ترك المحرم، وترك المعصية: عمل صالح، حري بأن يتوسل به في الدعاء، وكشف الكرب، كما يتوسل: بعمل صالح فعله. وذلك من فضل الله، وسعة رحمته على عباده.

(وقال الآخر) فيه: صحة إطلاق لفظ "الآخر": على الثالث في العدد.

(اللهم ! إني كنت استأجرت أجيرا: بفرق أرز) . "الفرق": بفتح الراء، وإسكانها. لغتان. الفتح أجود، وأشهر. وهو إناء يسع ثلاثة آصع.

(فلما قضى عمله. قال: أعطني حقي. فعرضت عليه فرقه، فرغب عنه) أي: كرهه وسخطه، وتركه.

(فلم أزل أزرعه، حتى جمعت منه: بقرا ورعاءها. فجاءني، فقال: اتق الله، ولا تظلمني حقي. قلت: اذهب إلى تلك البقر، ورعائها: فخذها. فقال: اتق الله، ولا تستهزئ بي. فقلت: إني لا [ ص: 483 ] أستهزئ بك. خذ ذلك البقر، ورعاءها. فأخذه، فذهب به. فإن كنت تعلم: أني فعلت ذلك، ابتغاء وجهك: فافرج لنا: ما بقي. ففرج الله ما بقي) .

فيه: جواز الإجارة، وفضل حسن العهد، وأداء الأمانة، والسماحة في المعاملة . وفيه: إثبات كرامات الأولياء . وهو مذهب أهل الحق. قاله النووي .

التالي السابق


الخدمات العلمية