السراج الوهاج من كشف مطالب صحيح مسلم بن الحجاج

صديق خان - محمد صديق حسن خان القنوجي الظاهري

صفحة جزء
4834 باب في الذاكرين والذاكرات

وذكره النووي، في (باب الحث، على ذكر الله تعالى) .

(حديث الباب)

وهو بصحيح مسلم \ النووي، ص 4 جـ 17، المطبعة المصرية

[عن أبي هريرة قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير في طريق مكة فمر على جبل يقال له جمدان فقال سيروا هذا جمدان سبق المفردون قالوا وما المفردون يا رسول الله قال الذاكرون الله كثيرا والذاكرات ].


[ ص: 575 ] (الشرح)

(عن أبي هريرة ) رضي الله عنه؛ (قال: كان رسول الله، صلى الله عليه) وآله (وسلم؛ يسير في طريق مكة، فمر على جبل، يقال له "جمدان") : بضم الجيم، وإسكان الميم.

(فقال: "سيروا. هذا جمدان. سبق المفردون") هكذا الرواية فيه: "بفتح الفاء، وكسر الراء المشددة". وهكذا نقله عياض : عن متقني شيوخهم.

وذكر غيره: أنه روي: بتخفيفها، وإسكان الفاء. يقال: "فرد الرجل وفرد": بالتخفيف، والتشديد. "وأفرد".

وقد فسرهم رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم: بأهل الذكر الكثير.

(قالوا: وما المفردون؟ يا رسول الله؟ قال: "الذاكرون الله كثيرا، والذاكرات") تقديره: والذاكراته. فحذفت الهاء هنا، كما حذفت في القرآن لمناسبة رؤوس الآي، ولأنه مفعول يجوز حذفه.

قال النووي : وهذا التفسير، هو مراد الحديث. قال ابن قتيبة، وغيره: "وأصل المفردين": الذين هلك أقرانهم، وانفردوا عنهم؛ فبقوا يذكرون الله تعالى.

[ ص: 576 ] وجاء في رواية: "هم الذين اهتزوا في ذكر الله". أي: لهجوا به.

وقال ابن الأعرابي : يقال: "فرد الرجل": إذا تفقه، واعتزل، وخلا بمراعاة الأمر والنهي. انتهى.

وهذا الحديث: فيه فضيلة الذاكرين، والذاكرات.

وقد ورد في هذا الباب: أحاديث، لا يسع المقام لذكرها. أورد أكثرها "صاحب الحصن الحصين"، في فضل الذكر، في أول كتابه، وآخره: في فصول. فراجعه.

ومن أجمعها: حديث " أبي الدرداء " عند أحمد، والترمذي، والحاكم في المستدرك، ومالك في الموطأ، وابن ماجة، والطبراني في الكبير، والبيهقي في الشعب، وابن شاهين في الترغيب: وصححه الحاكم، وغيره. وأخرجه أيضا أحمد "من حديث معاذ".- قال المنذري : بإسناد جيد، إلا أن فيه انقطاعا -.

وقال الهيثمي - في حديث أبي الدرداء -: إسناده حسن، وصححه ابن عبد البر. وقال - في حديث معاذ -: رجاله رجال الصحيح، إلا أن زيادا "مولى ابن عباس ": لم يدرك معاذا.

ولفظه؛ عن أبي الدرداء، عن النبي، صلى الله عليه وآله وسلم؛ أنه قال: "ألا أخبركم بخير أعمالكم وأزكاها: عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذهب والفضة، وخير لكم من أن تلقوا [ ص: 577 ] عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟" قالوا: بلى. قال: "ذكر الله".

وفي هذا دليل على أن الذكر، خير الأعمال، على العموم. كما يدل عليه: إضافة الجمع، إلى الضمير. وكذلك إضافة "أزكى" و"أرفع": إلى ضمير الأعمال.

"والزكاء": النماء، والبركة.

فأفاد كل ذلك: أن "الذكر" أفضل - عند الله سبحانه - من جميع الأعمال، التي يعملها العباد. وأنه أكثرها: نماء، وبركة. وأرفعها: درجة.

وفي هذا: ترغيب عظيم، فإنه يدخل "تحت الأعمال": كل عمل يعمله العبد، كائنا ما كان.

وفي تخصيص هذين العملين (أي: الإنفاق، والجهاد) بالذكر أيضا - بعد تعميم جميع الأعمال -: زيادة تأكيد.

وقد استشكل بعضهم: تفضيل الذكر على الجهاد، مع ورود الأدلة الصحيحة: على أنه أفضل الأعمال.

[ ص: 578 ] وقد جمع بعض أهل العلم - بين ما ورد من الأحاديث، المشتملة على تفضيل بعض الأعمال على بعض آخر، وما ورد منها مما يدل على تفضيل البعض المفضل عليه -: بأن ذلك: باعتبار الأشخاص، والأحوال. فمن كان مطيقا للجهاد، قوي الأثر فيه: فأفضل أعماله "الجهاد". ومن كان كثير المال: فأفضل أعماله "الصدقة". ومن لم يكن متصفا بإحدى الصفتين المذكورتين: فأفضل أعماله: "الذكر، والصلاة"، ونحو ذلك. ولكنه يدفع هذا: تصريحه، صلى الله عليه وآله وسلم: بأفضلية الذكر، على الجهاد نفسه، في هذا الحديث، وفي الأحاديث الأخرى: كحديث أبي سعيد الخدري،، عند الترمذي : أن رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم؛ سئل: أي العباد أفضل درجة، عند الله، يوم القيامة؟ قال: "الذاكرون الله كثيرا"، قال: قلت: يا رسول الله ! ومن الغازي في سبيل الله؟ قال: "لو ضرب بسيفه في الكفار، والمشركين، حتى ينكسر ويختضب دما: لكان الذاكرون لله، أفضل منه درجة" رواه الترمذي، وقال: حديث غريب.

وكحديث "ابن عمر" مرفوعا: "ما شيء أنجى من عذاب الله: من ذكر الله، عز وجل،. قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولو أن [ ص: 579 ] يضرب بسيفه، حتى ينقطع". أخرجه ابن أبي الدنيا، والبيهقي .

ومما يدل على ذلك: حديث معاذ، عن رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم؛ أن رجلا سأله، فقال: أي المجاهدين أعظم أجرا؟ قال: "أكثرهم لله تبارك وتعالى: ذكرا". قال: فأي الصالحين أعظم أجرا؟ قال: "أكثرهم الله تبارك وتعالى: ذكرا". ثم ذكر الصلاة، والزكاة، والحج، والصدقة: كل ذلك، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، يقول: "أكثرهم لله تبارك وتعالى: ذكرا". فقال أبو بكر لعمر: يا أبا حفص ذهب الذاكرون بكل خير. فقال رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم:- "أجل" . رواه أحمد، والطبراني .

قال الزرقاني (في شرح الموطأ، في تأويل حديث " أبي الدرداء " المتقدم) : أفضل الأعمال: ذكر الله. لأن سائر العبادات - من الإنفاق، وقتال العدو -: وسائل، ووسائط: يتقرب بها إلى الله، والذكر هو المقصود

[ ص: 580 ] الأسنى. ورأسه: "لا إله إلا الله". وهي الكلمة العليا، والقطب الذي تدور عليه رحى الإسلام، والقاعدة التي بني عليها أركانه، والشعبة التي هي أعلى شعب الإيمان. بل هي الكل. وليس غيره. { قل إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد } أي: الوحي مقصور على التوحيد، لأنه المقصد الأعظم من الوحي. ووقع غيره: تبعا. ولذا آثره العارفون، على جميع الأذكار، لما فيها من الخواص، التي لا تعرف إلا بالوجدان والذوق.

قالوا: وهذا محمول، على أن الذكر، كان أفضل للمخاطبين به.

ولو خطب شجاع باسل، يحصل به نفع الإسلام في القتال، لقيل له: "الجهاد". أو غني، ينتفع الفقراء بماله، لقيل: "الصدقة". أو القادر على الحج، لقيل له: "الحج". أو من له أبوان، قيل: "برهما" وبه يحصل التوفيق بين الأخبار. انتهى.

قلت: والأول أولى.

وورد في حديث جابر، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ قال: "أفضل الذكر: لا إله إلا الله" أخرجه الترمذي .

ولفظ أحمد: "لا إله إلا الله: أفضل الذكر، وهي أفضل الحسنات".

[ ص: 581 ] وفي الباب: أحاديث، ذكرها في "تحفة الذاكرين".

وفي هذا: دليل، على أن "كلمة التوحيد": أفضل الذكر، وأفضل الحسنات. وحق لها ذلك؛ فإنها مفتاح الإسلام، بل بابه: الذي لا يدخل إليه، إلا منه. بل عماده: الذي لا يقوم بغيره. وهي آكد أركان الإسلام. وهي الفرقان بين الإسلام والكفر، وبين الحق والباطل. وأسعد الناس بشفاعته، صلى الله عليه وآله وسلم - يوم القيامة -: من قالها خالصا من قلبه، كما في حديث " أبي هريرة " عند البخاري .

وفي حديث "أبي ذر" يرفعه: "ما من عبد، قال: لا إله إلا الله. ثم مات على ذلك: إلا دخل الجنة". قال: قلت: وإن زنى، وإن سرق؟ قال: "وإن زنى، وإن سرق. قاله ثلاثا. ثم قال في الرابعة -: على رغم أنف أبي ذر". أخرجه مسلم .

وفي هذا: دليل على أن هذه الكلمة، التي هي "كلمة التوحيد"، إذا مات العبد على قولها، وكانت خاتمة كلامه الذي يتكلم به، مختارا [ ص: 582 ] عاقلا: وجبت له الجنة، ولم يضره ما تقدم منه من المعاصي، وإن كانت كبائر: كالزنا، والسرقة. وذلك فضل الله، يؤتيه من يشاء.

قال الشوكاني (في التحفة) : ومن أبى هذا، قلنا له: صح هذا عن الصادق المصدوق، على رغم أنفك. وهو لا يقول إلا الحق، لمكان العصمة. لاسيما: فيما طريقه البلاغ.

وقد تكلف قوم، لرد هذا الحديث الصحيح، وما ورد في معناه: بما لا يسمن ولا يغني من جوع.

وبعضهم تكلف بتقييده: بعدم المانع. وليس على ذلك أثارة من علم.

قال: وسيأتي تمام الكلام على هذا، في "حديث البطاقة". انتهى.

قلت: وفي حديث "عبادة بن الصامت"؛ أنه قال عند موته: سمعت رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، يقول: "من شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله: حرم الله عليه النار" أخرجه مسلم؛ والترمذي .

[ ص: 583 ] وفيه: دليل على أن هذه الكلمة، المشتملة على الشهادتين، تقتضي: تحريم قائلها على النار. ومن حرم على النار: فلا تمسه أبدا.

وظاهره: أنها تكفر جميع الذنوب، على اختلاف أنواعها. ولله الحكمة البالغة. وهو الغفور الرحيم.

وأخرج ابن ماجه، والحاكم في (المستدرك) وابن حبان: عن عبد الله بن عمر؛ قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله سيخلص رجلا من أمتي، على رؤوس الخلائق، - يوم القيامة - فينشر عليه تسعة وتسعون سجلا، كل سجل مثل مد البصر. ثم يقول: أتنكر من هذا شيئا؟ أظلمتك كتبتي الحافظون؟ فيقول: لا يا رب ! فيقول: أفلك عذر؟ فيقول: لا يا رب ! فيقول الله تبارك وتعالى: بلى، إن لك عندنا: حسنة، وإنه، لا ظلم عليك اليوم. فيخرج بطاقة، فيها: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده، ورسوله. فيقول: أحضر وزنك. فيقول: يا رب ! ما هذه البطاقة، مع هذه السجلات؟ قال: فإنك لا تظلم اليوم. فيوضع السجلات في كفة، والبطاقة في كفة: فطاشت السجلات، وثقلت البطاقة. ولا يثقل مع اسم الله شيء" صححه ابن حبان، والحاكم. وأخرجه أيضا: الترمذي، من حديثه، وقال: حديث حسن غريب.

[ ص: 584 ] وأخرجه أيضا البيهقي : (من حديثه) .

قال الشوكاني في (تحفة الذاكرين) : وفي الحديث: تحقيق لما ذكرناه قريبا، من أن هذه الشهادة: تكفر جميع الذنوب. وإن أبى ذلك قوم، وقالوا: إن هذا ونحوه، إنما كان في ابتداء الإسلام، حين كانت الدعوة إلى مجرد الإقرار بالتوحيد. فلما فرضت الفرائض، وحدت الحدود: نسخ ذلك.

ومن القائلين بهذا: الضحاك، والزهري، والثوري. ولا يخفاك: أن هذا مجرد رأي بحت، لم يعضد بدليل. ولا ينافي ذلك: ورود العقوبات المعينة، على ترك فريضة من فرائض الله، فإن الجمع: ممكن، من دون إهدار لهذه الأدلة الصحيحة، المتواترة.

ومن شك في تواترها: فليرجع إلى دواوين الحديث، فإنه سيقف على ذلك: بأيسر بحث. فكيف يدعى: نسخ ما هو متواتر، بمجرد الرأي والاستبعاد؟ فإن كان ذلك لقصد: أن لا يتكل الناس على هذه المنحة الربانية، فذلك ممكن بدون تقنيط لعباده، ومجازفة في دعوى النسخ: للشرائع التي شرعها الله تعالى، على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.

وقالت طائفة: إنه لا حاجة إلى دعوى النسخ. ويزعمون: أن القيام [ ص: 585 ] بفرائض الدين، وتجنب منهياته: هو من لوازم الإقرار بهذه الشهادة، ومن متمماته.

وقالت طائفة ثالثة: إن التلفظ بهذه الشهادة: سبب لدخول الجنة، والعصمة من النار، بشرط : (أن يأتي بالفرائض، ويجتنب المحرمات. وإن عدم الإتيان بالواجب، وعدم اجتناب المحرمات: مانع لما تقتضيه) هذه الأحاديث الصحيحة، الكثيرة.

قال: وهذه الأقوال - كما ترى -: لم تربط بما يشد من عضدها، ولم تعمد بعماد يقتضي قبولها، ولا بنيت على أساس قوي، ولا على رأي سوي.

ورد التفضل الرباني: جحد للنعمة، وإنكاره: كفران لها. والهداية إلى الحق: بيد الوهاب العليم.

ومما يدفع هذه التأويلات: ما وقع في حديث "عبادة بن الصامت"، بلفظ: "أدخله الله الجنة، على ما كان منه من عمل به". وهو في الصحيحين، وغيرهما. انتهى.

[ ص: 586 ] وأقول: ما أحق هذا الكلام، على هذا الحديث "حديث البطاقة": بأن يكتب بماء الذهب، على صفائح الإيمان ! كيف؟ وقد عضد بقوله تعالى: { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم } .

والكلام على نفائس هذه الآية، وحقائقها - التي تبشر عباد الله، بالمغفرة، مع الذنوب الكبائر والصغائر -: يطول جدا. راجع (فتح (البيان) : يتضح لك الحق من غير حجاب. وهأنا، قلت: اللهم ! إني ظلمت نفسي، ظلما كثيرا. ولا يغفر الذنوب: إلا أنت. فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني، إنك أنت التواب الرحيم. رب! قد بلغت ذنوبي - مما أعلم، ولا أعلم، وتعلمها أنت -: عنان السماء، وإني تبت عنها، فتقبل توبتي، وامح حوبتي، واجعلني: هذا الرجل، المستخلص على رؤوس الخلائق، من أمته، صلى الله عليه وآله وسلم، يوم القيامة، الذي ليس له إلا: بطاقة الشهادة الصادقة المذكورة، إن لم أكن أهلا لشيء، ولم أعمل عملا صالحا: فأنا أنا، وأنت أنت .


مهما تفكر في ذنوبي خفت على قلبي احتراقه     لكنه ينطفي لهيبي
بذكر ما جاء في البطاقة



[ ص: 587 ] اللهم ! إن كنت كتبتني في الأشقياء، - ونعوذ بك منهم -: فامح اسمي منهم، واكتبني في السعداء. فإنه لا يعز عليك شيء ولا مكره لك. وأنت على كل شيء قدير.

هذا؛ وقد خرجنا -في هذا الموضع - مما كنا بصدده، من بيان حديث " أبي الدرداء ". والشيء بالشيء: يذكر.

ولم يخرجني منه: إلا غلبة الرجاء من الله سبحانه، لعفو الذنوب التي خفت منها، خوفا جما، وألممت بها إلماما لما. وأريد الوقاية منها، ولا أستطيع. وإن النفس لأمارة بالسوء، إلا ما رحم ربي. فارحمني. يا أرحم الراحمين !

ولنرجع إلى الكلام الباقي، على الحديث الماضي؛ قال الزرقاني : ومقتضى هذا الحديث (يعني: حديث " أبي الدرداء " المتقدم، في فضل الذكر) : أن الذكر، أفضل من التلاوة. ويعارضه خبر: "أفضل عبادة أمتي: تلاوة القرآن".

[ ص: 588 ] وجمع الغزالي: بأن القرآن أفضل لعموم الخلق. والذكر أفضل: للذاهب إلى الله، في جميع أحواله، في بدايته ونهايته؛ فإن القرآن مشتمل على: صنوف المعارف، والأحوال، والإرشاد إلى الطريق. فما دام العبد مفتقرا إلى: تهذيب الأخلاق، وتحصيل المعارف: فالقرآن أولى. فإن جاوز ذلك، واستولى الذكر على قلبه: فمداومة الذكر أولى؛ فإن القرآن يجاذب خاطره، ويسرح به في رياض الجنة. والذاهب إلى الله: لا ينبغي أن يلتفت إلى الجنة، بل يجعل: همه هما واحدا، وذكره: ذكرا واحدا، ليدرك درجة الفناء، والاستغراق. قال تعالى: { ولذكر الله أكبر } . انتهى.

قلت: هذه نكتة سلوكية، وليست من غرضنا في هذا المقام. إنما الكلام في أن الذكر والتلاوة، أيهما أفضل من الآخر ؟

والذي يتحصل، من النظر في الأدلة: أن يجمع بينهما؛ فإن كل واحد من هذين: أفضل من سائر الأعمال، والأحوال، والأقوال، والأفعال؛ فآونة: يتلو. وآونة: يذكر. والقرآن مشتمل على الذكر، وليس الذكر مشتملا عليه. ومن شغله القرآن عن مسألة ربه: يعطيه سبحانه أفضل ما يعطي السائلين. ولم يتقرب عبد إلى ربه: بأفضل من تلاوة كتابه. ثم الذكر: ليس بمنحصر في الأذكار، المأثورة في كتب السنة الصحيحة. بل كل عمل صالح، يعمله العباد على وجه الحق والصواب، [ ص: 589 ] ويشتغل به- امتثالا لأمر الله تعالى، ورسوله -: فالذكر يشمله، ويحوي عليه. بل ذكر كل موضع، وحال: هو العمل الذي ورد الأمر بفعله، في ذلك الوقت والحال.

والعمدة - في هذا الباب -: ذكره سبحانه، عند كل قول وفعل. فالآتي بالطاعات المفروضة، والمجانب للمنهيات المكتوبة: ذاكر لله تعالى، ذكرا كثيرا. وهكذا: حكم الذاكرات.

فمن رجا الله سبحانه "عند الطاعة"، وخاف منه تعالى "لدى المعصية": فهو مؤمن، كامل. وليس الفناء والاستغراق، وقطع الطمع من الجنة، وعدم الخشية من النار - كما أشار إليه: الغزالي، وغيره من المشايخ-: في شيء من مدارك الشرع المبين. كيف؟ وقد تظاهرت الأدلة القرآنية، والحديثية: على ذلك؛ منها قوله تعالى: { يدعون ربهم خوفا وطمعا } وقال: { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة } . وقال: { هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم } . إلى غير ذلك: من الآيات.

وأما الأحاديث، الواردة في هذا، فقد يكثر تعدادها.

[ ص: 590 ] ثم قال الزرقاني : وأخذ "ابن الحاج" من الحديث - يعني حديث " أبي الدرداء " -: أن ترك طلب الدنيا: أعظم - عند الله - من أخذها، والتصدق بها. وعن الحسن: لا شيء أفضل من رفض الدنيا. انتهى.

قلت: "حب الدنيا" رأس كل خطيئة. وهذا الحب، هو الحامل للناس: على معاصي الله تعالى. وتركه - مع الإقبال على ذكر الله -: هو الباعث لهم على الفوز بالنجاة، في الدنيا والآخرة.

{ ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار } .

التالي السابق


الخدمات العلمية