السراج الوهاج من كشف مطالب صحيح مسلم بن الحجاج

صديق خان - محمد صديق حسن خان القنوجي الظاهري

صفحة جزء
4860 باب في فضائل التسبيح

وهو في النووي، في (الباب المتقدم) .

(حديث الباب)

وهو بصحيح مسلم \ النووي، ص 19 جـ 17، المطبعة المصرية

(عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم ) .


(الشرح)

(عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله، صلى الله عليه) وآله (وسلم: كلمتان خفيفتان على اللسان) أي: كلامان، من إطلاق الكلمة: على الكلام.

"والخفة" مستعارة، من السهولة. وقال الشوكاني : أي لا كلفة في النطق بهما: على الناطق لخفة، حروفهما. وذلك أنه ليس فيهما: حرف من حروف الاستعلاء، ولا من حروف الإطباق: غير الظاء. ولا من حروف [ ص: 630 ] الشدة: سوى الباء، والدال.

(ثقيلتان. في الميزان) ، لأن الأعمال تجسم. أو الموزون: صحائفها، لحديث البطاقة: المشهور، المتقدم في شرحنا هذا قريبا.

وعبارة الشوكاني : يعني أن أجرهما: عظيم كثير، ولهما في ميزان الحسنات: أثر عظيم.

(حبيبتان إلى الرحمن) أي: محبوبتان، يحب الرحمن قائلهما، فيجزل له من مكارمه: ما يليق بفضله.

وخص لفظ "الرحمن": إشارة إلى بيان سعة رحمته، حيث يجازي على العمل القليل: بالثواب الجزيل.

(سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم) . كرر التسبيح: طلبا للتأكيد، واعتناء بشأنه.

وبهذا الحديث: ختم البخاري صحيحه. وهو حديث: عظيم الشأن كثير الفائدة.

وقوله: حبيبتان، وخفيفتان، وثقيلتان: صفة لقوله: "كلمتان".

"وسبحان": اسم مصدر، لا مصدر. يقال: "سبح يسبح تسبيحا" لأن قياس مصدر "فعل، بالتشديد، إذا كان صحيح اللام: "التفعيل" كالتسليم، والتكريم.

وقيل: مصدر لأنه سمع له فعل ثلاثي. قاله في "اللباب.

[ ص: 631 ] ومعنى "أسبح الله": أنظم نفسي: في سلك الموقنين بتقديسه، عن جميع ما لا يليق بجنابه سبحانه. وأنه مقدس: أزلا، وأبدا. وإن لم يقدسه أحد.

وقيل: "مصدر نوعي"، على مثال ما يقال: "عظم السلطان"، أي تعظيما يليق بجنابه، ويناسب من يتصف بالسلطنة. والمعنى: أسبحه تسبيحا يختص به.

وقيل: "مصدر" أريد به: الفعل، مجازا. كما أن الفعل يذكر، ويراد به: المصدر، مجازا. كقوله: "تسمع بالمعيدي".

وقد فهم من هذا الحديث: تقدس الأسماء، والصفات. لأن الذات، مع الأسماء والصفات: متلازمان في الوجود والعدم: بالتحقيق. ولأن انتفاء تقديس الأسماء والصفات: يستلزم انتفاء تقديس الذات، لأنها قائمة بالذات، ومقتضياتها. لكن انتفاء تقديس الذات: منتف. وإذا حصل الاعتراف، والاعتقاد: بأنه منزه عن جميع النقائص، وما لا ينبغي أن ينسب إليه: ثبتت الكمالات ضرورة، التزاما. وحصل: توحيد الربوبية. وثبت التقديس في كل كمال: عن المشابهة، والمماثلة، والشركة، وكل ما لا يليق. فثبت: أنه "الرب" على الإطلاق، للأنفس والآفاق. فهو المستحق: لأن يشكر، ويعبد: بكل ما يمكن على الانفراد: بالحق والحقيقة.

[ ص: 632 ] وتوحيد الربوبية: حجة ملزمة، وبرهان موجب: لتوحيد الألوهية، فتتضمن هذه الكلمة: إثبات التوحيدين، كما تتضمن: إثبات الكمالين.

وهذان الإثباتان: في ضمنهما كل مدح ممكن، فيما يرجع إلى الله تعالى.

ولما كان الاتصاف بالكمال الوجودي: مشروطة بخلوه عما ينافيه: قدم التسبيح على التحميد: في الذكر. كما تقدم التخلية، على التحلية.

ومن هذا القبيل: تقدم النفي على الإثبات، في "لا إله إلا الله".

قالوا: والواو في قوله "وبحمده": للحال. أي: أسبحه متلبسا بحمدي له، من أجل توفيقه لي: للتسبيح، ونحوه.

وقيل: عاطفة. أي: أسبح، وأتلبس: بحمده.

وأما الباء، فيحتمل: أن تكون سببية، أو للمصاحبة، أو للاستعانة.

ثم إن جنس الحمد - كما قال بعض العلماء -، لما وقع ذكره: بعد التقديس عن كل ما لا يليق به تعالى، بغير تخصيص بعض المحامد:

[ ص: 633 ] تضمن الكلام، واستلزم: إثبات جميع الكمالات الوجودية، الجائزة له: مطابقة. ولزم منه: التقديس عن كل ما لا يليق. وهو كل ما ينافيها، ولا يجامعها. هذا؛ مع أن "كلمة الجلالة": تدل على الذات المقدسة، المستجمعة للكمالات أجمع. وكذا: الضمير في "وبحمده": إلى الهوية الخاصة، السبوحية، القدسية، الجامعة لجميع خاصيات الذات الواجبة، وخواصها.

فهذه الكلمة: اشتملت على اسمي الذات، اللذين لا أجمع منهما؛ أحدهما: فيه اعتبار علية أحكام الشهادة، والغيب. والآخر: فيه علية أحكام الغيب، وغيب الغيب.

وأيضا: تشتمل على: جميع التقديسات، والتنزيهات، وعلى: جميع الأسماء، والصفات. وعلى: كل توحيد.

وختم بقوله: "سبحان الله العظيم": ليجمع بين مقامي الرجاء، والخوف؛ إذ معنى "الرحمن": يرجع إلى الإنعام، والإحسان.

ومعنى "العظيم": يرجع إلى الخوف، من هيبة الله تعالى.

وفي هذا الحديث - من علم البديع -: المقابلة، والمناسبة، والموازنة في السجع؛ أما المقابلة: فقد قابل الخفة على اللسان: بالثقل في الميزان.

وأما الموازنة: ففي قوله: (حبيبتان إلى الرحمن). ولم يقل: للرحمن، لأجل موازنته: "على اللسان".

[ ص: 634 ] وفيه: نوع من الاستعارة، في قوله: "خفيفتان"؛ فإنه كناية: عن قلة حروفهما، ورشاقتهما.

قال الطيبي: فيه استعارة، لأن الخفة: مستعارة للسهولة. انتهى.

قال القسطلاني "رحمه الله": والظاهر أنها من قبيل "الاستعارة بالكناية"؛ فإنه شبه "سهولة جريانهما على اللسان": بما يخف على الحامل، من بعض الأمتعة، فلا تتعبه، كالشيء الثقيل. فحذف ذكر المشبه به، وأبقى شيئا من لوازمه، وهو الخفة.

وأما الثقل؛ فعلى الحقيقة - عند أهل السنة - إذ الأعمال تتجسم، كما سبق.

وفيه: حث على المواظبة عليهما، وتحريض على ملازمتهما.

وتعريض: بأن سائر التكاليف: صعبة، شاقة، على النفوس ثقيلة.

وهذه: خفيفة، سهلة عليها. مع أنها تثقل في الميزان.

ويستفاد من هذا الحديث: أن مثل هذا السجع، جائز. وأن المنهي عنه - في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "سجع، كسجع الكهان"-: ما كان متكلفا، أو متضمنا الباطل، لا ما جاء من غير قصد، أو تضمن حقا.

[ ص: 635 ] وفيه: من علم العروض: إفادة أن الكلام المسجع، ليس بشعر، فلا يوزن، وإن جاء على وفق البحور في الجملة.

هذا؛ مع ضميمة قوله تعالى: { وما علمناه الشعر وما ينبغي له } . وقد جاء في الكتاب، والسنة: أشياء، على وفق البحور.

وفي سنده - عند البخاري - من اللطائف: "القول": في موضعين، و"التحديث": في موضعين. والعنعنة وهي - في صحيحه -: محمولة على السماع.

وفي الحديث - أيضا -: الاعتناء بشأن التسبيح، أكثر من التحميد، لكثرة المخالفين فيه. وذلك من جهة تكريره.

وقد جاءت السنة المطهرة به: على أنواع شتى؛

ففي مسلم، عن سمرة - مرفوعا -: "أفضل الكلام: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر". قال القسطلاني : أي أفضل الذكر بعد كتاب الله -.

والموجب لفضلها: اشتمالها على جملة أنواع الذكر؛ من التنزيه، والتحميد، والتمجيد. ودلالتها: على جميع المطالب الإلهية: إجمالا.

وفي الترمذي - وقال: حديث غريب -؛ عن ابن عمر، يرفعه:

[ ص: 636 ] "التسبيح نصف الميزان، والحمد لله تملؤه، ولا إله إلا الله: ليس له حجاب دون الله، حتى تخلص إليه".

وفيه وجهان؛ أحدهما: أن يراد: التسوية بين التسبيح، والتحميد: بأن كل واحد منهما: يأخذ نصف الميزان، فيملآن الميزان معا.

وثانيهما: أن يراد: تفضيل الحمد، على التسبيح. وأن ثوابه: ضعف ثواب التسبيح. لأن التسبيح: نصف الميزان، والتحميد وحده: يملؤه.

التالي السابق


الخدمات العلمية