السراج الوهاج من كشف مطالب صحيح مسلم بن الحجاج

صديق خان - محمد صديق حسن خان القنوجي الظاهري

صفحة جزء
4929 باب الحض على التوبة

وأورده النووي، في (كتاب التوبة).

(حديث الباب)

وهو بصحيح مسلم \ النووي، ص 60، 61 ج 17، المطبعة المصرية

(عن الحارث بن سويد؛ قال: دخلت على عبد الله، أعوده - وهو [ ص: 9 ] مريض - فحدثنا بحديثين حديثا عن نفسه، وحديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقول: «لله أشد فرحا: بتوبة عبده المؤمن، من رجل، في أرض دوية مهلكة. معه راحلته، عليها: طعامه، وشرابه. فنام، فاستيقظ، وقد ذهبت. فطلبها، حتى أدركه العطش. ثم قال: أرجع إلى مكاني، الذي كنت فيه، فأنام حتى أموت. فوضع رأسه على ساعده، ليموت، فاستيقظ - وعنده راحلته، وعليها: زاده، وطعامه، وشرابه - فالله أشد فرحا: بتوبة العبد المؤمن، من هذا: براحلته، وزاده»)


(الشرح)

(عن الحارث بن سويد ؛ قال: دخلت على عبد الله، أعوده - وهو مريض -، فحدثنا بحديثين: حديثا عن نفسه، وحديثا عن رسول الله صلى الله عليه) وآله (وسلم ؛ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه) وآله (وسلم ؛ يقول: لله): بلام التأكيد، المفتوحة.

(أشد فرحا بتوبة عبده المؤمن، من رجل في أرض دوية).

قال النووي: قال العلماء: «فرح الله تعالى»: هو رضاه. قال المازري: الفرح على وجوه ؛ منها: «السرور». ويقاربه: الرضاء بالمسرور به. قال: فالمراد هنا أن الله تعالى، يرضى توبة عبده، أشد [ ص: 10 ] مما يرضى واجد ضالته: بالفلاة. فعبر عن الرضاء: بالفرح، تأكيدا لمعنى الرضاء (في نفس السامع)، ومبالغة في تقريره. «ودوية»: بفتح الدال، وتشديد الواو والياء، جميعا. وفي رواية أخرى: «داوية» بزيادة ألف. وهي بتشديد الياء أيضا.

قال النووي: اتفق العلماء، على أنها «دوية». وكلاهما صحيح.

قال أهل اللغة: «الدوية»: الأرض القفر، والفلاة: الخالية. قال الخليل: هي المفازة.

قالوا: ويقال: «دوية، وداوية».

فأما «الدوية»: فمنسوب إلى «الدو» بتشديد الواو. وهي «البرية» التي لا نبات بها.

وأما «الداوية): فهي على إبدال إحدى الواوين: ألفا، كما قيل في النسب إلى طي: «طائي».

(مهلكة): بفتح الميم، واللام وكسرها. وهي موضع خوف الهلاك. ويقال لها: «مفازة». كما يقال للديغ: «سليم».

(معه، راحلته، عليها: طعامه، وشرابه. فنام، فاستيقظ - وقد ذهبت -. فطلبها، حتى أدركه العطش. ثم قال: أرجع إلى مكاني [ ص: 11 ] الذي كنت فيه، فأنام حتى أموت. فوضع رأسه على ساعده، ليموت. فاستيقظ) أي: من نومه. (وعنده راحلته: عليها زاده، وطعامه، وشرابه. فالله أشد فرحا: بتوبة العبد المؤمن، من هذا: براحلته، وزاده).

وفي رواية أخرى، عن «أنس بن مالك» عند مسلم ؛ يرفعه: «لله أشد فرحا بتوبة عبده - حين يتوب إليه - من أحدكم، كان على راحلته، بأرض فلاة، فانفلتت منه وعليها: طعامه وشرابه - فأيس منها. فأتى شجرة، فاضطجع في ظلها - قد أيس من راحلته - فبينا هو كذلك: إذا هو بها، قائمة عنده. فأخذ بخطامها، ثم قال - من شدة الفرح -: اللهم! أنت عبدي، وأنا ربك. أخطأ من شدة الفرح» .

وهذا الحديث: رواه مسلم، والبخاري: بألفاظ.

قال عياض: إن مثل هذا صدر في حال الدهشة والذهول، لا يؤاخذ به الإنسان. وكذا حكايته عنه، على وجه العلم أو الفائدة الشرعية، لا على سبيل الهزء والعبث. انتهى.

وأقول: حق العبارة: أن صدور مثل هذا الكلام، في حال شدة الفرح: لا يؤخذ عليه قائله. وهذا هو الموافق بظاهر لفظ الحديث. ويقاس عليه: أحوال أخرى: من شدة الحزن، أو الخوف، ونحوهما. فكل [ ص: 12 ] ذلك معفو. وهو فيه معذور لعدم اعتدال العقل، والفهم: في هذه الحالات.

وفيه: أن نقل الكفر: ليس بكفر. وفي القرآن الكريم، من أمثال هذا النقل كثير من أهل الكفر، والشرك، وعباد الأوثان، ومن هو مثلهم.

وفيه: فضيلة التوبة، وفرح الله سبحانه بها: من عباده.

اللهم ! ارزقنا توبة. وتب علينا. إنك أنت التواب الرحيم.

وحديث الباب: ذكره الراوي مرفوعا. ولم يذكر حديث عبد الله، عن نفسه. وقد ذكر البخاري (في صحيحه)، والترمذي، وغيرهما.

وهو قوله: «إن المؤمن يرى ذنوبه: كأنه قاعد تحت جبل، يخاف أن يقع عليه. والفاجر يرى ذنوبه: كذباب، مر على أنفه، فقال به - هكذا -».

معناه: يخاف المؤمن - لقوة إيمانه، وشدة خوفه - فلا يأمن العقوبة: بسبب ذنوبه. والمؤمن: دائم الخوف، والمراقبة. يستصغر عمله الصالح. ويخاف من صغير عمله.

والفاجر لا يبالي به، لاعتقاده: عدم حصول كبير ضرر بسببه.

[ ص: 13 ] والتعبير بالذباب - لكونه أخف الطير، وأحقره. ولأنه يدفع بالأقل وبالأنف -: للمبالغة في اعتقاد خفة الذنب، عنده.

ودل التمثيل الأول: على غاية الخوف، والاحتراز من الذنوب.

والثاني: على نهاية قلة المبالاة والاحتفال بها.

التالي السابق


الخدمات العلمية