السراج الوهاج من كشف مطالب صحيح مسلم بن الحجاج

صديق خان - محمد صديق حسن خان القنوجي الظاهري

صفحة جزء
5083 باب النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء

وهو في النووي، في (الباب السابق).

(حديث الباب) وهو بصحيح مسلم \ النووي، ص 182، 183 ج 17، المطبعة المصرية

(عن همام بن منبه؛ قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر أحاديث؛ منها وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تحاجت الجنة، والنار؛ فقالت النار: أوثرت بالمتكبرين، والمتجبرين. وقالت الجنة: فما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس، وسقطهم، وغرتهم ؟ قال الله للجنة: إنما أنت رحمتي، أرحم بك من أشاء من عبادي. وقال للنار: إنما أنت عذابي، أعذب بك من أشاء من عبادي. ولكل واحدة منكما ملؤها. فأما النار؛ فلا تمتلئ حتى يضع الله، تبارك وتعالى: رجله، تقول: قط قط قط.

[ ص: 234 ] فهنالك تمتلئ، ويزوى بعضها إلى بعض. ولا يظلم الله من خلقه: أحدا. وأما الجنة فإن الله ينشئ لها: خلقا»).



(الشرح)

(عن أبي هريرة) رضي الله عنه ؛ (قال: قال رسول الله صلى الله عليه) وآله (وسلم: تحاجت الجنة والنار).

قال النووي: هذا الحديث على ظاهره. وأن الله تعالى: جعل في النار والجنة تمييزا، تدركان به، فتحاجتا. ولا يلزم من هذا: أن يكون ذلك التمييز فيهما، دائما.

(فقالت النار: أوثرت بالمتكبرين، والمتجبرين.

وقالت الجنة: فما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس، وسقطهم): بفتح السين، والقاف. أي: ضعفاؤهم، والمتحقرون منهم.

(وغرثهم) روي على ثلاثة أوجه، وهي موجودة في النسخ ؛

[ ص: 235 ] إحداها: «غرثهم» بغين معجمة، وثاء مثلثة. قال عياض: هذه رواية الأكثرين من شيوخنا. ومعناها: أهل الحاجة، والفاقة، والجوع.

«والغرث»: الجوع.

والثاني: «عجزتهم» بعين مهملة مفتوحة، وجيم، وزاي، وتاء.

جمع: «عاجز».

والثالث: «غرتهم» بغين معجمة مكسورة، وراء مشددة، وتاء. (هكذا هو الأشهر، في نسخ بلاد النووي. أي: البله الغافلون، الذين ليس بهم: فتك وحذق، في أمور الدنيا.

وهو نحو الحديث الآخر: «أكثر أهل الجنة: البله».

قال عياض: معناه: سواد الناس، وعامتهم: من أهل الإيمان، الذين لا يفطنون للسنة فيدخل عليهم الفتنة، أو يدخلهم في البدعة أو غيرها. فهم ثابتو الإيمان، وصحيحو العقائد. وهم أكثر المؤمنين. وهم أكثر أهل الجنة.

وأما العارفون، والعلماء العاملون، والصالحون المتعبدون: فهم قليلون. وهم أصحاب الدرجات.

قال: وقيل: معنى الضعفاء (هنا، وفي الحديث الآخر: «كل

[ ص: 236 ] ضعيف متضعف»): أنه الخاضع لله تعالى، المذل نفسه له سبحانه وتعالى. ضد المتجبر المتكبر. قاله النووي.

وقال الحاكم (في علوم الحديث): سئل «ابن خزيمة» عن هذا الحديث ؛ من الضعيف ؟ قال الذي يبرئ نفسه من الحول والقوة - يعني في اليوم والليلة -: عشرين مرة، أو خمسين مرة.

قال القرطبي: ومثل هذا، لا يقال من جهة الرأي. فهو مرفوع. والله أعلم. انتهى.

وما أحسن ما قيل:


إذا أردت شريف الناس كلهم فانظر إلى ملك في زي مسكين     ذاك الذي عظمت في الله رغبته
وذاك يصلح للدنيا وللدين



اللهم ! أحيني مسكينا، وأمتني مسكينا، واحشرني في زمرة المساكين والضعفاء، المرحومين.

(فقال الله عز وجل للجنة: إنما أنت رحمتي، أرحم بك: من أشاء من عبادي. وقال للنار: إنما أنت عذابي، أعذب بك: من أشاء من [ ص: 237 ] عبادي. ولكل واحدة منكما: ملؤها.

فأما النار ؛ فلا تمتلئ حتى يضع الله، تبارك وتعالى: رجله، تقول: قط قط).

ومعنى «قط»: حسبي. أي: يكفيني هذا. وفيه ثلاث لغات ؛ «قط قط» بإسكان الطاء فيهما، وبكسرها: منونة، وغير منونة.

(فهناك تمتلئ، ويزوى)، أي: يضم (بعضها إلى بعض): فتجتمع، فتلتقي على من فيها.

(فلا يظلم الله من خلقه: أحدا). قد سبق مرات: بيان أن الظلم مستحيل في حق الله تعالى.

فمن عذبه بذنب، أو بلا ذنب: فذلك عدل منه.

ومن لم يعذبه على ذنب، وعفا عنه: فذلك فضل منه، سبحانه وتعالى.

(وأما الجنة، فإن الله) ينشئ لها: خلقا). هذا دليل لأهل السنة: على أن الثواب، ليس متوقفا على الأعمال ؛ فإن هؤلاء يخلقون حينئذ، ويعطون في الجنة ما يعطون، بغير عمل.

[ ص: 238 ] ومثله: أمر الأطفال والمجانين، الذين لم يعملوا طاعة قط. فكلهم في الجنة: برحمة الله تعالى، وفضله.

وفي هذا الحديث: دليل على عظم سعة الجنة ؛ فقد جاء في الصحيح: «أن للواحد فيها: مثل الدنيا وعشرة أمثالها». ثم يبقى فيها شيء لخلق ينشئهم الله تعالى. قاله النووي.

قلت: وفي رواية أخرى: «ولا يزال في الجنة فضل، حتى ينشئ الله لها: خلقا، فيسكنهم فضل الجنة».

وفي حديث أنس، يرفعه: «يبقى من الجنة ما شاء الله أن يبقى. ثم ينشئ الله لها: خلقا، مما يشاء».

وحديث الباب هذا، له ألفاظ وطرق، عند مسلم. وفي بعضها: «فيضع قدمه عليها».

وفي بعضها: «لا تزال جهنم تقول: هل من مزيد ؟ حتى يضع فيها رب العرة قدمه».

[ ص: 239 ] قال النووي: هذا الحديث، من مشاهير أحاديث الصفات. وقد سبق مرات: بيان اختلاف العلماء فيها على مذهبين ؛ أحدهما - وهو قول جمهور السلف، وطائفة من المتكلمين -: أنه لا تتكلم في تأويلها. بل نؤمن أنها حق، على ما أراد الله. ولها معنى يليق بها. وظاهرها غير مراد.

والثاني - وهو قول جمهور المتكلمين -: أنها تتأول، بحسب ما يليق بها.

فعلى هذا، اختلفوا في تأويل هذا الحديث ؛ فقيل: المراد «بالقدم» هنا: «المتقدم». وهو شائع في اللغة. ومعناه: «حتى يضع الله تعالى فيها: من قدمه لها، من أهل العذاب». قال المازري، والقاضي: هذا تأويل «النضر بن شميل» ونحوه، عن ابن الأعرابي.

والثاني: أن المراد: «قدم بعض المخلوقين». فيعود الضمير في «قدمه»: إلى ذلك المخلوق المعلوم.

والثالث: أنه يحتمل أن في المخلوقات: ما يسمى بهذه التسمية.

وأما رواية «الرجل»، فقد زعم «ابن فورك»: أنها غير ثابتة، عند أهل النقل. ولكن قد رواها: مسلم، وغيره. فهي صحيحة. وتأويلها: كما سبق في «القدم».

[ ص: 240 ] ويجوز أيضا: أن يراد بالرجل: «الجماعة من الناس»، كما يقال: «رجل من جراد». أي: قطعة منه.

قال عياض: أظهر التأويلات: أنهم قوم استحقوها، وخلقوا لها.

قالوا: ولا بد من صرفه عن ظاهره، لقيام الدليل القطعي العقلي: على استحالة الجارحة على الله تعالى، انتهى.

وأقول: هذه التأويلات كلها، مردودة على قائليها. لكونها: خلاف ظاهر أحاديث هذا الباب.

وقد سبق مرارا: أن الصفات، التي وصف الله سبحانه نفسه بها. أو وصفه رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، بها: يجب الإيمان بظاهرها، كما جاءت: بلا كيف، ولا تمثيل، ولا تشبيه.

فيا لله العجب! من هذا الاقتحام، في بيان تأويلها الذي لم يرد به حرف واحد، لا في كتاب الله، ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، ولا خاض فيه أحد من جمهور السلف: باعتراف المؤولين.

ومن لا يسعه ما وسعهم: فلا وسع الله عليه.

وفي هذه التأويلات: تكذيبات، وتقولات على الله، وعلى الرسول، وعلى حديثه.

وقد وردت آيات، وأحاديث صحيحة محكمة كثيرة: في إثبات «القدم، والرجل، واليد، والعين، والإصبع، واليمين، والشمال، والساق»، وغير ذلك من الصفات.

[ ص: 241 ] ولا ملجئ: إلى ردها، وتأويلها. ومن رد شيئا منها: فقد رد القرآن، والحديث. ونعوذ بالله من ذلك.

وقد قلنا - مرات، وكرات -: إن كل ما يلزم في نظر القاصرين من المتكلمين (من التشبيه، والتمثيل) عند إجراء الصفات على ظاهرها: فهو معالج بكلمة إجمالية: ليس كمثله شيء . ولم يكن له كفوا أحد .

وقد جاءنا بهذا كله: من جاءنا بكتاب الله سبحانه. وإذا جاء نهر الله، بطل نهر معقل.

وقد قال بعض الراسخين في العلم: إن الرأي في الشريعة: تحريف. وفي القضاء: مكرمة.

ولا شك. أن صرف النصوص الصريحة الصحيحة المحكمة، عن ظاهرها: تحريف للشرع، وتكذيب لدين الإسلام. من حيث لا يشعرون. أو يشعرون، ولكن لا يهتدون. والله أعلم.

التالي السابق


الخدمات العلمية