السراج الوهاج من كشف مطالب صحيح مسلم بن الحجاج

صديق خان - محمد صديق حسن خان القنوجي الظاهري

صفحة جزء
5138 باب: تكون فتن، القاعد فيها خير من القائم

وهو في النووي، في: (الكتاب المذكور).

(حديث الباب)

وهو بصحيح مسلم النووي ، ص9 ، 10 ج18، المطبعة المصرية

(عن عثمان الشحام؛ قال: انطلقت أنا وفرقد السبخي، إلى مسلم بن أبي بكرة -وهو في أرضه- فدخلنا عليه، فقلنا: هل سمعت أباك يحدث في الفتن حديثا؟ قال: نعم. سمعت أبا بكرة يحدث؛ قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: "إنها ستكون فتن. ألا، ثم تكون فتنة، القاعد فيها: خير من الماشي فيها. والماشي فيها: خير من الساعي إليها.

ألا، فإذا نزلت -أو وقعت- فمن كان له إبل: فليلحق بإبله.

ومن كانت له غنم: فليلحق بغنمه.

ومن كانت له أرض: فليلحق بأرضه.

[ ص: 294 ] قال: فقال رجل: يا رسول الله! أرأيت من لم يكن له إبل، ولا غنم، ولا أرض؟

قال: "يعمد إلى سيفه، فيدق على حده: بحجر. ثم لينج إن استطاع النجاء.

اللهم! هل بلغت؟ اللهم! هل بلغت؟ اللهم! هل بلغت؟".

قال: فقال رجل: يا رسول الله: أرأيت إن أكرهت، حتى ينطلق بي إلى أحد الصفين، أو إحدى الفئتين، فضربني رجل بسيفه. أو يجيء سهم، فيقتلني؟

قال: "يبوء بإثمه، وإثمك، ويكون من أصحاب النار"
).


(الشرح)

(عن أبي بكرة) رضي الله عنه؛ (قال: قال رسول الله، صلى الله عليه) وآله (وسلم: إنها ستكون فتن. ألا، ثم تكون فتن. ألا، ثم تكون فتن : القاعد فيها: خير من الماشي". والماشي فيها: خير من الساعي إليها.

ألا، فإذا نزلت -أو وقعت- فمن كان له إبل: فليلحق بإبله. ومن كانت له غنم: فليلحق بغنمه. ومن كانت له أرض: فليلحق بأرضه.

[ ص: 295 ] قال: فقال رجل: يا رسول الله! أرأيت من لم تكن له إبل، ولا غنم، ولا أرض؟ قال: "يعمد إلى سيفه، فيدق على حده بحجر").

المراد: كسر السيف حقيقة، على ظاهر الحديث: ليسد على نفسه باب هذا القتال.

وقيل: هو مجاز. والمراد: ترك القتال. والأول أصح.

(ثم لينج، إن استطاع النجا). اللهم! هل بلغت؟ اللهم! هل بلغت؟ اللهم! هل بلغت؟ قال: فقال رجل: يا رسول الله! أرأيت إن أكرهت، حتى ينطلق بي إلى أحد الصفين، أو إحدى الفئتين، فضربني رجل بسيفه. أو يجيء سهم، فيقتلني؟ قال: "يبوء بإثمه وإثمك، ويكون من أصحاب النار").

معنى "يبوء به": يلزمه، ويرجع ، ويحتمله.

أي: يبوء الذي أكرهك: بإثمه في إكراهك، وفي دخوله في الفتنة، وبإثمك في قتلك غيره، ويكون مستحقا للنار.

وفي هذا الحديث: رفع الإثم عن المكره على الحضور هناك.

[ ص: 296 ] وأما القتل فلا يباح بالإكراه. بل يأثم المكره على المأمور به: بالإجماع.

وقد نقل "عياض، وغيره" فيه: الإجماع.

قال الشافعية: وكذا الإكراه على الزنا، لا يرفع الإثم فيه.

هذا إذا أكرهت المرأة ، حتى مكنت من نفسها.

فأما إذا ربطت، ولم يمكنها مدافعته: فلا إثم. والله أعلم.

وفي الباب: أحاديث، عند مسلم؛ منها؛ بلفظ: "ستكون فتن؛ القاعد فيها: خير من القائم. والقائم فيها: خير من الماشي. والماشي فيها: خير من الساعي. من تشرف لها: تستشرفه. ومن وجد فيها ملجأ: فليعذ به".

وفي رواية: "تكون فتنة، النائم فيها: خير من اليقظان. واليقظان فيها: خير من القائم. والقائم فيها: خير من الساعي. فمن وجد ملجأ، أو معاذا: فليستعذ".

روي "تشرف": بفتح التاء، والشين، والراء.

و "يشرف": بضم الياء، وإسكان الشين، وكسر الراء. من "الإشراف للشيء". وهو الانتصاب والتطلع إليه، والتعرض له.

[ ص: 297 ] ومعنى "تستشرفه": تقلبه وتصرعه.

وقيل: هو من الإشراف. بمعنى "الإشفاء على الهلاك".

ومنه: "أشفى المريض على الموت، وأشرف".

و"ملجأ": أي: عاصما، وموضعا يلتجئ إليه، ويعتزل.

ومعنى "فليعذ به": أي: فليعتزل فيه.

وفي هذه الأحاديث: بيان عظيم خطرها.

والحث: على تجنبها، والهرب منها، ومن التشبث بشيء.

وأن شرها وفتنتها؛ يكون على حسب التعلق بها.

وهذه الأحاديث، مما يحتج به من لا يرى القتال في الفتنة، بكل حال.

وقد اختلف العلماء في قتال الفتنة؛

فقالت طائفة: لا يقاتل في فتن المسلمين، وإن دخلوا عليه بيته وطلبوا قتله: فلا يجوز له المدافعة عن نفسه، لأن الطالب متأول. وهذا: مذهب "أبي بكرة" الصحابي، رضي الله عنه، وغيره.

وقال ابن عمر، وعمران بن الحصين، وغيرهما: لا يدخل فيها. لكن إن قصد: دفع عن نفسه.

قال النووي : فهذان المذهبان، متفقان على ترك الدخول في جميع فتن الإسلام.

[ ص: 298 ] وقال معظم الصحابة، والتابعين، وعامة علماء الإسلام: يجب نصر المحق في الفتن، والقيام معه: بمقاتلة الباغين. كما قال تعالى: فقاتلوا التي تبغي الآية.

قال النووي : وهذا هو الصحيح. وتتأول الأحاديث: على من لم يظهر له الحق، أو على طائفتين ظالمتين، لا تأويل لواحدة منهما.

ولو كان كما قال الأولون: لظهر الفساد، واستطال أهل البغي المبطلون. والله أعلم. انتهى.

وأقول: الراجح هو مذهب "أبي بكرة"، لتظاهر الأحاديث الصحيحة به. وقد مرجت العهود، وفسدت العقود، منذ زمن طويل، وعسر معرفة المحق من المبطل.

وأني لنا: من يقاتل على الوجه المطلوب للشارع المحمود، على لسانه المرغب فيه منه، وغالب الفتن فسادات كبيرة، الحامل عليها: حب الدنيا، وحب الرياسة والجاه، دون إعلاء كلمة الله تعالى، الذي هو القتال في سبيل الله؟.

وحيث قعد السلف الصالح: من الصحابة والتابعين، وتجنبوا عن [ ص: 299 ] الدخول في فتن المسلمين الأولين . فكيف بفتن هذا الزمان الآخر؟

ومن يضمن لنا على الدخول فيها: المغفرة والشهادة؟

فالذي يترجح "بأدلة السنة المطهرة": هو ترك القتال والجدال مع إحدى الطائفتين، ولزوم البيت والقعود فيه، وإن قتل. والمدافعة جائزة، والترك أفضل وأولى وأوفق: بظاهر الحديث. والله أعلم.

التالي السابق


الخدمات العلمية